نتذكر بالكتابة ما يسعنا نحن الماضون لغياهب أواسط الأربعينات.
يخبرني صديقي البارحة أنه اكتهل دون أن يدري، وأخبره أن الكتابة حيلتنا الأخيرة للإفلات من الزمن، أكتب فتتوقف الطواحين في رأسي، وتنزوي تلك الضغائن الصغيرة بخجل، إننا بالكتابة في حالة مران على التعافي، وإيجاد ضمانات للانهيار الآمن.
نتقوض لنكتب حالة إعادة بناء لا يكف عن كونه أقل كمالًا، ذلك أن الصمت هو استسلام للخرائب، والكتابة رقص على تلك الخرائب.
لو لم أكتب لبقيت مضطغنًا على مدرس الرياضيات في ثالث ثانوي للأبد، لو لم أكتب لقتلت شخصًا ما في هذا العالم، لو لم أكتب لانبعثت مني رائحة عطن الحياة، لو لم أكتب لما حظيت بذلك الإعفاء من شفرة الحلاقة ومن العطر الفرنسي ماركة، ومن المهاترات والترّهات، ومن ضروب الأداءات المرهقة ليتقبل أحدنا نفسه.
يا للكتابة، يالها من حيلة سجين مشاغب في هذا الوجود المضجر، يالها من ارتجال نبي يومي على مقاسك وفي طريق الكراهية وعلى ضفاف الرؤى وفي قاع الهاوية، بالكتابة فحسب تهزأ من الهاوية ومن ضروب ضعفك ومن كل الذي يعتقد أنه ينقصك وأنك بدونه لا أحد.
استنتج كثير من الشبان في صنعاء معادلة وجودية لائقة وقد حصلوا على شفرة ترويض الكلمات.
كنا بلا ملامح ومجردين من أدوات ومزايا المنافسة على موارد النفوذ في صنعاء، لسنا أبناء مشايخ ولا ورثة ثروة ولا نحن عسكريون أو قادة أحزاب، وبالكتابة أصبح كل منا كل هؤلاء، مضافًا إليهم حسّ الكبار المتجولين في ذاكرة العالم من روائيين وتنويريين بذاك القرب من الذات.
وبقينا هنا في صنعاء، والذين اجتذبتهم المنافي لم تسقط عنهم صفة الكُتّاب، لكنهم قد حرموا في السنوات الأخيرة من الكتابة بوصفها التكريم والمقابل الوحيد للناشبين مخالبهم في التراب. إنها تمنحنا التعريف الملائم لما نحن عليه، وتقدح لنا نغمة مركزية لإيقاع صنعاء الأخير.
أصدقاء توقفوا عن الكتابة مقابل مزايا الصمت أو نجاحات مادية من نوع ما أو بسبب خسائر غير قابلة للاحتمال، وأسأل: كيف يحتملون هذا الوجود المفرغ من غواية الكلمات؟
بالكتابة فحسب أنت متعذر على الالتقاط والاستحواذ، وبالكلمات تهمس تميمة الإفلات من كل لعنة، ومفتاح الفردوس الشخصي وأنت تبتكره وتتذوقه من إعادة ترتيب جحيمك الذهني ومن تراتبية عواطف الحب والكراهية.
الكلمات فحسب، تذكرة اليانصيب اليومي الكبير، إنك تربح كل يوم وتبددها كل مساء، وتقامر وتجرب وتحصل على "رمية النرد التي تصيب في كل مرة".
أصدقاء توقفوا عن الكتابة مقابل مزايا الصمت أو نجاحات مادية من نوع ما أو بسبب خسائر غير قابلة للاحتمال، وأسأل: كيف يحتملون هذا الوجود المفرغ من غواية الكلمات؟ أي شيء قد يمنح الرضى بخلاف الكتابة الأكثر شفاء وضراوة من الجنس ومن غلمة المنصب ومن العطلات والرحلات ومن عطور وصابون الاستجمام.
ثم ما الذي قد يكون أشد ثقلًا وغير قابل للاحتمال مثل الوجود دون مونولوج داخلي، وذلك التحفّز لانتزاع البرق بالكلمات وتحويله بيدك لسوط يدفع الحياة للتحلّي ببعض التهذيب.
لا ينشد الكاتب ألوهية مرتجلة، بقدر ما يبحث عن الإنسان الذي يتسرب منه كلما تسربت الكلمات، وكل ما فقدت الكتابة هيبتها وسحريتها في حساباته.
مدراء التسويق ليسو أقل من غواية الكاتب ومزاياه الواقعية، ومن منهما أكثر حظًا وجدارة بالاحترام، لا لا؛ كل ما هنالك أن الكتابة ذاتها هي ما تحول بينك وبين أن تتحول لمادة قابلة للتسويق.