كانت الساعة الثامنة من مساء الخميس 27 يناير/ كانون الثاني 2022، عندما تناول شكري عبدالله -اسم مستعار- (13 سنة)، عقارًا أعطاه له (ع.غ) جندي في القوات الحكومية، قال له إنها "حبة القوة والنشاط". تباطأت خطوات شكري وشعر بغشاوة في عينيه، ونسي كل شيء أمامه وخلفه، وسار حتف أنفه.
لم يكن يدرك الطفل أن سرقة منزلٍ في تلك الساعة، تحدث بينما يملأ الضجيج ساكنيه، إلا إذا كان بالفعل قد أوهم نفسه أن العقار الذي تناوله هو للقوة، وليس لتزييف الواقع في الفؤاد الغض والبريء. أصيب الطفل بالنعاس لحظة إقدامه على اقتحام المنزل، فقام الأهالي بلف حبل على كامل جسده من أسفل الرجلين حتى الكتفين وكان يبكي بصمت، فخلف اصطناع الهدوء قصة مأساوية، يرويها شكري الذي قبع خلف القضبان لأكثر من ثلاثة أسابيع في سجن أمن مديرية المكلا.
بداية المغامرة
يروي شكري المأساة بالقول: "لم أعرف أن السرقة حرام إلا عندما دخلت السجن"، هكذا بدأ حديثه. يشير إلى جانب رأسه الأيسر، إذ يوجد جرح بطول حوالي خمسة سنتيمترات. يقول إنه تعرض للضرب من المواطنين ثم من جنود الأمن الذين اقتادوه مربوطًا بحبل يلف أغلب جسده الصغير. لا يتذكر أي سوط كان سببًا في إحداث هذا الجرح، لكن يبقى ألمه وأثره ليذكر الطفل كيف تعامل معه الناس وجنود الأمن بوحشية.
لم تكتفِ السلطات الأمنية بما ارتكبته بحق الطفل الضحية، من ضربه إلى احتجازه بين كبار سن وعدم توفير تطبيب له، بل قامت بحلق شعر رأسه في سجن إدارة أمن المكلا بأمر من المدير، الذي يُفترض أن يكون الأكثر تفهمًا لعدم قانونية كل هذه الإجراءات، وما سبقها من ممارسات بحق طفولة عزلاء.
وكان شكري، قد عانى من قسوة التعامل في منزل أسرته، إذ كان والده يقوم بتقييده بالسلاسل ومنعه من الخروج لأكثر من ستة أشهر، لهذا يعتبر شكري الـ20 يومًا التي قضاها -حتى الآن- في سجن المكلا، تحصيل حاصل، كما ينقل عنه.
لم يكن اختيار الطفل مصادفة، إذ رأى في الطفل ذكاءً وسرعة بديهة وحركة دائمة، فأغواه بصور البزة العسكرية والمسدس الذي يزين الخصر، والوعود المغدقة بالريال السعودي، ما جعل فكرة التجنيد بالنسبة لطفل، حلمًا دائمًا.
غادر شكري منزل والده في مساء الثلاثاء ٢٥ يناير/ كانون الثاني ٢٠٢٢، بعد أن قام والده بتهشيم شريحة هاتف وجدها في جواله. وكان الأب قد سمح لابنه باقتناء هاتف للعب، وحذره من استخدام شريحة اتصال عليه، يقول الطفل: "كنت أرتب مع شخص يدعى (ع.غ) مسألة أخذي إلى مأرب، حيث يذهب هو للقتال كل خمسة أو سبعة أيام من كل شهر. لقد أراني صورًا له ولسلاحه ووعدني بدفع راتب لي بالريال السعودي لو أنني قبلت وذهبت للقتال معه في السعودية ضد الحوثيين".
بات شكري ليلتين في أحد فنادق حي العمال بمدينة المكلا، برفقة (ع.غ) الجندي لدى القوات الحكومية في مأرب والذي يعمل، عند مغادرته الجبهة، في إحدى البسطات التي يبيع فيها خواتم، في شوارع السوق العام بمنطقة الشرج.
"يجب أن نوفر مالًا قبل الذهاب لمأرب، ففي فترة التدريب لن نعطى أي مبالغ مالية"، هكذا أقنع هذا الجندي الطفلَ بخوض مغامرة سرقة أحد المنازل في وسط السوق العام.
صمت القبور
ترك الطفل شكري مقاعد الدراسة في عام 2020، وهو لا يزال في الصف السادس ليعمل مع والده على عربة لبيع البطاطس والبيض المسلوق والسندوتشات. يكسب شكري من عمله مع والده 1000 ريال يمني (أقل من دولار).
يقول والد الطفل شكري: "أثناء عمله معي، امتلأت حصالة فكري بالنقود (فئة ألف ريال) حتى لم يعد يستطيع -بمرور حوالي ثلاثة أشهر- من إدخال أي ورقة فيها، ليقرر فتحها".
يواصل الأب: "لقد فاجأني بمبلغ 100 ألف ريال وأعطاني إياها. لقد كان شكري طفلًا مشاغبًا وكثير الحركة. كانت الشكاوى تتوالى من زملائه ومدرسته وأصدقائه في الحارة". يستطرد الأب: "لقد أبكاني تصرفه، فاشتريت له هاتفًا جوالًا واشترطت عليه ألَّا يستخدمه إلا للعب فقط، كونه صغيرًا، وكان كل شيء على ما يرام قبل أن يقتحم ذلك الجندي عليه حياته".
لم يكن اختيار الطفل مصادفة، إذ رأى في الطفل ذكاءً وسرعة بديهة وحركة دائمة، فأغواه بصور البزة العسكرية والمسدس الذي يزين الخصر، والوعود المغدقة بالريال السعودي، ما جعل فكرة التجنيد بالنسبة لطفل، حلمًا دائمًا.
بحث والد شكري عن ولده فلم يجده، فقدم بلاغًا لقسم شرطة باعبود في حي النصر، في اليوم التالي لاختفائه، واتهم الجندي (ع.غ) باختطافه لغرض تجنيده، لكن لم تقم الأجهزة الأمنية بأي إجراء. وحاليًّا يقبع الطفل في سجن أمن مديرية المكلا، يخالط فئات من البالغين المتهمين بجرائم متعددة، يقضي أيامه كأصغر سجين تُرك ليواجه مصيره بنفسه.
والده يرفض زيارته، ويقول: "ما معيش مصاريف لنأكل أنا وأمه وإخوته، من أين آتي بقيمة المسروقات التي هرب بها شكري"، في إشارة منه إلى اتهامات أخرى بالسرقة وجّهت للطفل، ثم انهمرت دموعه وساد المكان صمت القبور.