(3)
يقول عبدالله شمسان أنّه عاد من القاهرة في أواخر العام 1964، بعد ثلاثة أشهر من التدريب المكثف في ماسبيرو، وبعدها مباشرة صدر تكليف له ولزميله حسن العزي بالانتقال إلى تعز للبدء بتشغيل
الإذاعة، وكان معهم الخبير المصري محمد الخولي (كان مذيعًا معروفًا في صوت العرب)، وثلاثة فنيين تم تدريبهم بصنعاء. ويقول: "حملنا معنا 30 شريطًا مسجلًا عليها آيات قرآنية بأصوات قراء يمنيّين ومصريين وأناشيد وطنية وقومية و"مارشات"، وقليلًا من الأغاني ومنوعات مختلفة".
لم يكن هناك استُوديو مجهزًا فنيًّا، وإنما خصصوا للإذاعة غرفتين في دار الضيافة؛ إحداهما للإقامة (سكن)، والأخرى مكانٌ للتسجيل، ودار الضيافة، كان ولم يزل حتى ذلك الوقت يقدم خدمات فندقية متواضعة لنزلائه الذين يستضافون بشكل رسمي من الجهات الحكومية، تمامًا كما كان الأمر في سنوات الحكم الإمامي الأخيرة.
كان الهدف من إنشاء الإذاعة بدرجة رئيسية هو توجيه خطاب تحريضي لإسناد الثوار في الجنوب اليمني المحتل ضدّ قوات الاستعمار البريطاني، والذي أخذ يكبر ويتمدد في المناطق الريفية والحضرية، وساهم في تسريع ذلك خطاب الرئيس جمال عبدالناصر الذي ألقاه في ميدان الشهداء في ربيع 1964، ولهذا كانت الإذاعة تشتهر ببرنامج الجنوب الثائر، ويقول عنه شمسان في لقاء صحفي:
"كان موجهًا لأبناء الجنوب عمومًا والمقاتلين والفدائيين بشكل خاص، والرفع من معنوياتهم وتوعية الناس بمساوئ الاستعمار الذي اغتصب أرضنا الطاهرة، وضرورة رحيله عنها، منها ما كان يتضمن أخبار متابعات عن العمليات العسكرية والفدائية، إلى جانب استعراض البيانات التي كانت تصدرها القوى الوطنية".
برنامج الجنوب الثائر كان يتضمن أيضًا لقاءات مع الثوار والمقاتلين في الجبهات الأمامية، ويقول عن ذلك أنه رافق علي أحمد ناصر عنتر ومحمد أحمد البيشي إلى مواقع كثيرة وسجل لقاءات مع المقاتلين، وكان لها الأثر الكبير في شحذ الهمم.
إلى جانب البرنامج الرئيس (الجنوب الثائر) كانت هناك برامج أخرى مثل ما يطلبه المستمعون، وهو عبارة عن ردود لطلبات المستمعين التي ترد إلى الإذاعة لسماع أغانٍ أو نقل تهانٍ وغيرها، وإلى جانبه برنامج ديني يومي يقوم بإعداده وتقديمه حسن العزي.
أما موجز الأنباء، فقد كان يتم إعداده بطريقة الاختزال من سماع النشرة الرئيسية في إذاعة صنعاء عن أخبار الرئيس والقيادة والوزراء وسير المعارك التي يخوضها الجيش ضد القوات الملكية والمرتزقة.
أما عن كيفية تسجيل مواد البرنامج، فيقول شمسان:
"كنا نقوم بتسجيل كل مواد البث اليومي في غرفة دار الضيافة التي استخدمناها كاستُوديو -قبل أن يخصص استوديو بتجهيزات أفضل قليلًا جوار ميدان الشهداء بالعرضي (إدارة الأمن حاليًّا)- وكان التسجيل يتم بمسجل ألماني كبير ماركة جروندج Grundig، ويستمر أحيانًا لساعات طويلة، بسبب ضوضاء العربات وأصوات البشر الذين اعتادوا الحضور لدار الضيافة لمقابلة المسؤولين أو قضاء حوائجهم.
كنا عادة ما نفرغ من التسجيل في التاسعة صباحًا، ثم يقوم السائق بتوصيل الشريط إلى محطة الإرسال في الحوبان (على بعد 15 كيلو مترًا من المدينة) ثم يبدأ البث في العاشرة تمامًا بالسلام الجمهوري والقرآن الكريم ثم فقرات البرنامج الرئيس للإذاعة (الجنوب الثائر).
كانت منظمة التحرير بدرجة رئيسية هي التي تزود الإذاعة بمواد البرنامج من بيانات وأخبار ومقابلات، وكان مقر المنظمة بمكان قريب من دار الضيافة، وتحديدًا جوار القيادة العربية بالقرب من جولة الإخوة (مقر الغرفة التجارية والصناعية بتعز حاليًّا ومكتب الصناعة).
كانت المنطقة التي بها دار الضيافة تسمى أكمة حمامة والتي تمتد من عقبة جمال غربًا وعقبة شارع 26سبتمبر جنوبًا، وصولًا إلى بداية سوق الصميل، وتحديدًا إلى المنطقة التي بها اليوم مكتب البريد.
في مطلع 1967، تعرضت غرفة التسجيل في دار الضيافة لاستهداف بعبوة ناسفة وضعت في النافذة، فتضررت الغرفة، ونجونا أنا وزميلي حسين العزي وبقية الطاقم، من موت محقق، واتضح أنّ لأذناب الاستعمار ضلع في ذلك؛ لأنّ تأثير البرنامج كان واضحًا في أوساط المتابعين له في عدن ومحيطها، حيث كان يلتقط بوضوح، وهو ما كان يزعج سلطات الاستعمار، وأرادت إسكاته بهذه الطريقة البشعة.
ما كان يميز المكان هو وجود السفارة الروسية بما يعرف اليوم بفندق الجند، وبالقرب منها السفارة الصينية في بيت جازم الحروي (مكتب الصحة)، أمّا السفارة الألمانية، فكانت بالقرب من النقطة الرابعة. والمنطقة بشكل عام كانت هي الرابط بين قلب المدينة والعرضي والجحملية، حيث كان مركز الإدارة وبيوتات الأسر المرتبطة بها.
يقول عبدالله شمسان، أنّه بعد أن كان يفرغ من التسجيل، يغادر دار الضيافة إلى أحد المقاهي أو المطاعم، صعودًا إلى مطعم داوود في جولة النقطة الرابعة، أو مقهى نبيل الوقاد بالقرب من فندق الوحدة العربية (بالقرب من حوش عمارات الغنامي) بشارع 26 سبتمبر، وأنه كان يشارك رواد المقهى الاستماعَ للبرنامج، ويجيب عن تساؤلاتهم المختلفة.
كانت موسيقى البرنامج تقوم بدرجة رئيسية على مطلع أغنية محمد محسن عطروش الذائعة (بَرَّع يا استعمار، من أرض الأحرار)، وكانت أغنية محمد مرشد ناجي (أنا الشعب زلزلة عاتية) هي أكثر الأغاني استخدامًا في البرنامج، إلى جانب أغانٍ وأناشيد ثورية أخرى، ومنها أنشودة (تشتوا سلاطين؟ لا).
في ذروة بث البرنامج، تعرضت غرفة التسجيل في دار الضيافة لاستهدافٍ بعبوة ناسفة وُضعت في النافذة، فتضررت الغرفة، ونجونا أنا وزميلي حسين العزي وبقية الطاقم من موت محقق، واتضح أنّ لأذناب الاستعمار ضلع في ذلك؛ لأنّ تأثير البرنامج كان واضحًا في أوساط المتابعين له في عدن ومحيطها، حيث كان يلتقط بوضوح، وهو ما كان يزعج سلطات الاستعمار، وأرادت إسكاته بهذه الطريقة البشعة.
استمر تقديم البرنامج حتى عشية الاستقلال، ثم تحولت الإذاعة إلى محطة محلية، وصار لها إدارة وطاقم أكبر واستُوديوهات في العرضي والحوبان، وصارت تقرأ نشرات الأخبار ومواد التحليل مباشرة من استُوديو محطة الإرسال بالحوبان، بعد أن كان يقتصر الأمر قبل ذلك على موجز الأنباء الذي يتم اختزاله من نشرات إذاعة صنعاء، وتسجيله قبل بثه ضمن البرنامج الرئيس للإذاعة.
خلال العام 1967، تم تدريب وتأهيل عددٍ من المذيعين والفنيين، ومنهم المذيعتان أنيسة محمد سعيد، التي استمرت في تقديم برامج المنوعات لأكثر من ثلاثة عقود، إلى جانب مذيعة أخرى كان اسمها ألوف الكامل وغيرهما.
يقول المذيع عبدالله شمسان: "في عام 1965، وصل إلى دار الضيافة شخص يحمل شريطًا مسجلًا به عدد من الأغاني لفنان لم يكن يسمع به أحد، وأنه راجع من صنعاء، بعد أن رفضت لجنة الأغاني قبول الشريط، إلا بحضور الفنان نفسه، كان ذلك الشخص قريبًا للفنان أيوب طارش الذي كان لا يزال يعمل في عدن، وسجل مجموعة من الأغاني على الشريط وأرسله إلى صنعاء، وبعد سماعنا للأغاني اتخذت قرارًا ببثّ الأغاني في برامج المنوعات دون الرجوع للجنة إذاعة صنعاء، فحققت تلك الأغاني حضورًا مهمًّا، وأطلقت الفنان أيوب طارش في سماء الأغنية اليمنية، وأتذكر من تلك الأغاني: "بالله عليك وا مسافر لا لقيت الحبيب/ بلِّغ سلامي إليه وقل له كم با تغيب"، وأغنية: "يوم السفر أصبحت أوادع أهلي/ وكل واحد منّهم قريب لي/ بكى الحبيب من ساعته وقال لي/ أين تروح يا وحشتي يا خلي". وأغنية: "قد كان طبعك حلا"، والتي يقول مطلعها: "قد كان طبعك حلا وليش غيّرته/ بعد المودة خصام يا خل رجعته"، وهي الأغاني التي كتب كلماتها شقيقه الكبير محمد طارش".
ويقول أيوب عن ذلك:
"كنت قد اشتريت عودًا وبدأت أتدرب على العزف، وصرت أجيد إلى حدٍّ ما تقليد بعض الأغاني التراثية، ولا أدري كيف عرف أخي محمد طارش بذلك، وكان في القرية يقوم بأعمال الفلاحة في الأرض في مواسم الزراعة، ولم يكن قد عُرف عنه أنه يقول الشعر، فلا أدري إلا وقد أرسل في هذه القصيدة "بالله عليك وا مسافر"، وقال إنها تصلح أن تُغنى بذلك اللحن التراثي الذي كنا نسمعه في القرية، تردده النساء على المطحن. فاستحسنت أنا القصيدة، وبقيت أجربها على اللحن التراثي، وكانت أحسن ما يمكن مع تعديل بسيط أجريته على ذلك اللحن التراثي، ثم قمت بعرض القصيدة على الشاعر عبده علي ياقوت، الذي كنا نسميه عبده علي ذبحاني، فأضاف إليها تعديل في آخرها، وهي: هذا جزاء من يحبك، تحرمه من خطاب، ويلك من الله قد حولت حبك عذاب".
(يتبع)