(1)
ارتبط صوت المذيع عبدالله محمد شمسان ووجهه بمحطات عدة في تاريخ الإعلام المسموع والمرئي منذ مطلع العام 1965م، حين كان يقدم برنامج (صوت الجنوب الثائر) من إذاعة تعز، مرورًا بإذاعة صنعاء، حين كان أبرز مذيعي الأخبار والتحليلات؛ وعند افتتاح تلفزيون الجمهورية العربية اليمنية في سبتمبر العام 1975 صار وجهًا مألوفًا لمشاهدي التلفزيون في زمن الأبيض والأسود؛ غير أنّ صوته "الفخيم" سيَثبت في ذاكرة الاستماع الشعبي حين أذاع بيان استشهاد الرئيس ابراهيم الحمدي في 11 أكتوبر 1977، وما صاحب صوته المتهدج الحزين من نبرات مؤثرة اختزلت حزن اليمنيين العظيم على فقدهم.
منذ سنوات عديدة أشاهده أثناء مروره في الدائري الغربي بالقرب من مسكنه، وجلوسه في مقهى "أبو رفعي"، غير أني لم أتعرف إليه بشكل مباشر إلا في (ديسمبر 2021) حين تجاذبنا أطراف الحديث، قبل أن تتطور العلاقة إلى معرفة مكتملة، مكّنتني من استدراجه إلى الحديث عن بعض تفاصيل رحلته الإعلامية الطويلة التي امتدت لنصف قرن، وكانت شاهدة على محطات متعددة من تاريخ اليمن المعاصر.
(1) عن "راديو" رسم مستقبل طفل في حواري الشيخ
من مواليد 1948، في منطقة "المكابرة" بالقرب من قلعة المقاطرة التاريخية التي كانت قد شهدت قبل خمسة وعشرين عامًا من ذلك التاريخ المعركة الشهيرة بين قوات الإمام يحيى التي قادها علي الوزير وبين المدافعين عن القلعة بقيادة الشيخ الصوفي حميد الدين الخزفار، الذين اتهمتهم سلطة الإمام بالتحريف وموالاة الإنجليز والتمرد على الدولة.
قال أنّه لم يتذكر شيئًا عن أيام طفولته في القرية، وإنّ والده الذي كان يعمل بنّاءً (أسطى) في مدينة عدن، عاد إلى القرية ذات شتاء مطلع الخمسينيات وأخذ عائلته (الزوجة وولدين) وانتقل بهم إلى مدينة الشيخ عثمان، التي كانت حاضنة للوافدين الريفيين من مناطق الداخل اليمني، والمحميات الشرقية والغربية، وحدود المستعمرة الإنجليزية.
كانت عدن بشكل عام في تلك الفترة، تشهد حالةً من التعافي الاقتصادي والعمراني، الذي بدأ بعد أن صمتَت مدافع الحرب العالمية في أواسط الأربعينيات، وتعاظم دور المدينة بعد أن تحولت إلى مركز متقدم لقيادة للقوات الجوية البريطانية في منطقة الشرق الأوسط، وتاليًا بعد أن صارت بديلًا لمراكزها الاقتصادية في إيران ومصر.
الأب الذي كان يعمل في المقاولات الصغيرة مع الإدارة البريطانية في المعسكرات والمساكن الشعبية للعمال والمدن والأحياء السكنية الجديدة في المعلا وخورمكسر والبريقة وغيرها، مثله مثل أبناء منطقة المقاطرة في فترة نمو المدينة، كان أيضًا مثل غيره من اليمنيين، الذين تأثّروا بمرحلة المد القومي الذي أحدثته ثورة يوليو المصرية في المنطقة العربية، وصاروا يرون في الرئيس جمال عبدالناصر الزعيم الأوحد والمنقذ للأمة.
يقول عبدالله شمسان أنّ والده في تلك الفترة اشترى راديو ماركة ناشيونال بحجم كبير حتى يتسنى له متابعة الأخبار وتحليلات إذاعة القاهرة وصوت العرب، وأيضًا إذاعة عدن التي بدأت ببث برامجها وسهراتها الغنائية المميزة في تلك الفترة، وأنه -عبدالله شمسان- كان يرفع صوت الراديو إلى أعلى مستوى ثم يخرج إلى الحافة لمعرفة إلى أين يصل هذا الصوت.
وجود الراديو في المنزل ساعد الطفل الصغير على اكتشاف موهبته في تقليد أصوات مذيعي صوت العرب والبي بي سي والقاهرة وعدن، وعلى رأسهم المذيع النجم أحمد سعيد، وحين انتقل للدراسة في مدرسة النهضة العربية في مدينة الشيخ عثمان، درس على أيدي أدباء ومثقفين معروفين، أمثال: القاص والسياسي محمد سعيد مسواط، والشاعرين إدريس حنبلة ومحمد سعيد جرادة، حين كانت تشكّل هذه المدرسة علامة فارقة في أوساط أسَر الوافدين إلى المدينة وأطفالهم، قبل أن تفتح بعد ذلك "كلية بلقيس" في ذات المنطقة في العام 1961، بمبادرة من رجال حزب الأحرار ورجال الأعمال والمقاولين اليمنيّين لتشكّل حالة متقدمة لتعليم الأطفال الذين حرمتهم سلطات الاستعمار البريطاني من هذا الحق، حين حصرته فقط بالأطفال المواليد في المدينة.
في تلك الفترة شهدت اليمن حدثها الأكبر بقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وجذبت معها المئات من الشبان المتعلمين وغير المتعلمين لمناصرتها والدفاع عنها، فترك الكثير منهم مدارسهم ومعاهدهم وأشغالهم في الدكاكين والمطاعم في عدن، وغادروا إلى صنعاء وتعز منخرطين في التشكيلات العسكرية الجديدة، مثل (الحرس الوطني والكلية الحربية) التي أُنيط بها الدفاع عن الثورة والجمهورية، والالتحاق بالجهات المدنية من أجل المساهمة في بناء مؤسسات الدولة الوليدة.
بعد مرحلة مدرسة النهضة، انتقل للدراسة في المعهد التجاري العدني في منطقة كريتر، حيث درس اللغة الإنجليزية وبعض مهارات المحاسبة والطباعة على أيدي مدرسين يمنيين وهنود وأجانب، غير أنّ ميوله كانت واضحة وتتجه نحو الأثير وعوالمه، وحين سنحت له أول فرصة في برنامج المواهب الذي كان يقدمه لإذاعة عدن الإعلامي المعروف الراحل علوي السقاف -من هذا البرنامج ظهرت العديد من الأصوات الفنية والإذاعية المرموقة، مثل الفنانة فتحية الصغيرة التي قالت أنّ أخواها الفنّانان حسن وحسين فقيه لعبا دورًا مهمًّا في تبنّي موهبتها الفنّية مبكرًا، حينما سمعاها ذات ظهيرة وهي تشدو بأغنية "مظلومة يا ناس"، فطارا بها إلى منزل علوي السقاف، والذي كان وقتها ينقّب عن المواهب الجديدة، وتم تقديمها في برنامجين مختلفين في إذاعة عدن، وهو ما قالته لاحقًا الفنانة أمل كعدل التي شهدت المدرسة الابتدائية في الشيخ عثمان منطلق مشوارها الفني، حينما كانت تقلد أصوات الفنانين في حفلات المدرسة، قبل أن يقدمها الإذاعي الراحل علوي السقاف في برنامج المواهب في تليفزيون عدن، وغنّت فيها أغنية المرشدي المعروفة (دار الفلك دار)- أعجب السقاف بصوت المذيع الصغير وتركه في مناسبات تالية يقدِّم بعض الفقرات القصيرة في البرنامج.
في تلك الفترة، شهدت اليمن حدثها الأكبر بقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وجذبت معها المئات من الشبّان المتعلمين وغير المتعلمين لمناصرتها والدفاع عنها، فترك الكثير منهم مدارسهم ومعاهدهم وأشغالهم في الدكاكين والمطاعم في عدن، وغادروا إلى صنعاء وتعز منخرطين في التشكيلات العسكرية الجديدة، مثل (الحرس الوطني والكلية الحربية) التي أُنيط بها الدفاع عن الثورة والجمهورية، والالتحاق بالجهات المدنية من أجل المساهمة في بناء مؤسسات الدولة الوليدة.
وكان هذا الحلم يراود مخيلة الشاب الصغير، غير أنّ صغر سنه وعدم موافقة والده على سفره إلى صنعاء وهو في سن الرابعة عشرة، حال دون ذلك، لكنه لم يترك الفرصة الثانية تمرُّ دون استثمارها جيدًا، ويقول عنها:
أنه أثناء استماعه لبرامج إذاعة صنعاء مطلع سبتمبر 1964م، والتي كانت محط استماع كبير في أوساط سكان منطقة الشيخ عثمان، استوقفه إعلان للإذاعة ذاتها، تطلب من خلاله أصواتًا إذاعية جديدة بالتنافس، فقرّر السفر إلى صنعاء والتقدم لاختبارات اللجنة، وأنّ وصوله إلى صنعاء في أواخر أشهر الصيف (نهاية شهر أغسطس/ آب)، وهي في مرحلة التشكل الجديد بعد الثورة- أنتج في وعيه الصغير المقارنة الأولى بين مدينتين في اليمن الواحد؛ الأولى تعيش أفضل حالاتها بفعل عملية التمدن والعصرنة التي ارتبطت بحقبة الاستعمار الطويل، وانعكس ذلك في طبيعة القوانين والتشريعات المدنية، والثانية تحاول الفكاك من العزلة الطويلة وظلام القرون، التي عاشتها بفعل الانغلاق الذي مارسته سلطة الإمامة، وجاءت ثورة سبتمبر لكسر هذه الحالة، وفتحت أمام اليمنيين أفقًا جديدًا للحياة.
وصل صنعاء على رحلة من رحلات طيران (ADEN AIRWAYS) قبل يومين من المقابلة بلبسه المميز (بدلة برباط عنق)، وأول سكن له كان بفندق صنعاء بالقرب من ميدان التحرير، حين كان يديره عبده الدحان -والد الصحافي الكبير صالح الدحان- وقائد محمد الأغبري (المرتبطان بحزب الأحرار والاتحاد اليمني).
في الفندق، تفاجأ بإعلان عن فتح باب القبول لدفعة جديدة في الكلية الحربية. يقول: "تحمّست جدًّا للدخول في اختبارات القبول في الكلية، خصوصًا بعد علمي أن المقبولين سيذهبون مباشرة إلى القاهرة في دورات مكثفة في الكلية الحربية المصرية، ثم إنّ الالتحاق بالكلية الحربية كان حلم كل الشبان في ذلك الوقت. وكان فارق الوقت المريح بين المقابلتين محفِّزًا إضافيًّا لإجرائهما، وببالي أني إذا لم أتوفق بإحداهن فستكون الثانية بديلة لها، وبالفعل نجحت في المقابلتين، لكني اخترت الإذاعة".
يقول عن مقابلة الإذاعة: "حضرت في اليوم المحدد بكامل أناقتي ضمن أربعة وعشرين متقدمًا، وكنت أصغرهم. كان رئيس اللجنة خبيرًا مصريًّا انتدب من إذاعة صوت العرب لتدريب وتأهيل كادر الإذاعة، وتركز الاختبار على جودة الصوت واللغة والثقافة العامة وبعض الجمل الإنجليزية. الناجحان في هذه المقابلة كانا: (الراحل إسماعيل الكبسي وأنا)، إلى جانب أربعة فنيين.
اقترن النجاح في المقابلة بحضور دورة تدريبية مكثفة في المعهد العالي للإذاعة والتليفزيون (ماسبيرو) في القاهرة لمدة ثلاثة أشهر، انتهت مع مطلع العام 1965م، بعد أن قدم لنا خبراء حقيقيّون في الإعلام خلاصة تجاربهم الطويلة". ويقول: "كانت القاهرة في تلك الفترة تعيش أفضل فتراتها السياسية والثقافية والإعلامية، حينما كانت المركز الحيوي لصوت العروبة الكبير، مدينة كبيرة ونظيفة وجاذبة، وأدهشتني فعلًا وأنا القادم من مدينة مثل عدن، فما بالك بدهشة القادمين إليها من أرياف اليمن المعزولة.
يتبع...