إذا كانت ثورتا سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963، أعظمَ ما أنجزه اليمنيون خلال العقود الماضية، فإن أعظم ما فعلوه، قبل وأثناء الثورتين، هو تعزيز الهُوية الوطنية الجامعة، التي استلهمت من أمجاد الماضي ما يعالج قضايا الحاضر وتحدياته ويؤسس لبناء المستقبل المنشود.
ومن المعروف أنّ الحرب العالمية الأولى قد نتج عنها،- ضمن جملة نتائجها، تمزيق الأرض اليمنية بين طرفين، هما: الاحتلال الأجنبي ممثّلًا بالاستعمار البريطاني في جنوب الوطن، والحكم الإمامي الملكي في شمال اليمن، وتمثّله سلطة الإمام يحيى بن محمد حميد الدين، وقد سارع هذا الأخير لتسمية المناطق الخاضعة لسيطرته (المملكة المتوكلية اليمنية)، ليضفي عليها طابع الملكية الخاصة به، فهو الإمام والملك و(أمير المؤمنين)، وما دام قد اختار لنفسه لقب (المتوكل)، فالدولة ستصبح (متوكلية)، واختيار الألقاب للملوك والحكام، وإن كانت سمة غلبت على معظم حكّام العالم الإسلامي، خاصة خلفاء الدولة العباسية، فإلا إأنها صارت سمة خاصة في العقود الماضية بأئمة المذهب الزيدي الذين تسنى لهم حكم بعض مناطق شمال اليمن، ومنهم الإمام المتوكل يحيى حميد الدين نفسه، الذي كان لقب والده (المنصور)، ولقب ابنه وولي عهده (الناصر).
لذلك كانت مهمة الأحرار اليمنيين المعارضين للإمام يحيى كبيرة؛ لأنها تستدعي انتزاع طابع الخصوصية الذي وَسَمها الحكم الإمامي على الهوية اليمنية، وفي المقابل اطمأنت سلطات الاحتلال البريطاني الجاثم على عدن وجنوب اليمن، إلى هذه الصيغة (المتوكلية) التي احتكرت اسم اليمن في مناطق نفوذها، لأن هذا يعني -فيما يعني-، أن المناطق اليمنية الخارجة عن نفوذ الإمامة يمكن لبريطانيا أن تبحث لها عن مسميات جديدة، أي ابتكار هويات جديدة تتناسب مع ومطامع الاستعمار الذي كان يسير وفق قاعدته الذهبية (فرِّقْ تسُدْ)، وفي المحصلة باتت اليمن مشطورة بين إمامة تحتكر جزءًا منه وتعتبره ضمن أملاكها الخاصة ببيت (حميد الدين)، واستعمار يرى في مناطق الجنوب اليمني مجرد محميات ومستعمرات تتولى أمرها وزارة المستعمرات البريطانية وفروعها ومكاتبها.
وعلى الرغم من أن يحيى حميد الدين في بداية استيلائه على الحكم، كان يعلن أنه سيعمل على تحرير المناطق المحتلة في جنوب اليمن، إلا أنه تراجع عن ذلك فيما بعد، وتوافق مع الاحتلال البريطاني على عدة اتفاقيات اعترف كلٌّ منهما بالآخر وسلطته على الجزء الواقع تحت سيطرته. ولذلك شرعت بريطانيا في الترويج لمشروعها الهادف إلى سلخ الجنوب اليمني من خلال ابتكار مسمى (الجنوب العربي)، وإطلاقه على بعض المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وهو المشروع الذي أبهج عملاء الاستعمار لأنه سيؤمن لهم مصالحهم الخاصة والقائمة على هويات جديدة مبتكرة.
عندما بدأت تتبلور المعارضة الوطنية اليمنية ضد الإمامة والاستعمار، وضعت على رأس أولوياتها المحافظة على الهوية اليمنية التي تتجاوز أطماع الإمام ومخططات الاستعمار ومصالح العملاء، فجاءت مبادرات الثوّار وتحركاتهم وفقًا لرؤيتهم الوطنية التي استحضرت الهوية بمعناها الواسع ومضامينها التاريخية والجغرافية والثقافية والاجتماعية.
ولقد كانت رؤية الثوار والأحرار اليمنيين للواقع وتحدياته المتمثلة في الحكم الإمامي والاحتلال الأجنبي، تنطلق من كون الأرض اليمنية ذات هوية واحدة جامعة، لا تعترف بالهويات المناطقية والمذهبية التي زوّرها الإمام ليضمن بقاء الكرسي له ولأبنائه وأحفاده من بعده، ولا تلك الهويات التي زيّفها الاستعمار من أجل تأمين بقائه أطول فترة زمنية ممكنة، خاصة بعدما وجد نفسه خارج مناطق النفوذ الرئيسية في الشرق الأوسط في خمسينيات القرن العشرين.
بانتصار الوعي الوطني اليمني لصالح الهوية، تعززت مقومات الانتصار على أرض الواقع وفي خضم المواجهة المفتوحة التي بدأت مع انطلاق الثورة عشية السادس والعشرين من سبتمبر في صنعاء ضد الحكم الإمامي، وفي يوم الرابع عشر من أكتوبر من جبال ردفان ضد الاحتلال الأجنبي، وفي كلا المعركتين انتصر الثوار للهوية اليمنية، وبالهوية اليمنية. وهي الهوية ذاتها التي كانت علامة النصر وأيقونة الثورتين.
ابتدأ الثوار مشوارهم من اليمن الكبير، اليمن الذي كان - ولا يزال- أكبر من المكائد والمؤامرات والمشاريع الطارئة والمصالح الصغيرة والأجندات المشبوهة، ويمكن اكتشاف ذلك اليمن في كتابات الرعيل الأول من الثوار والأحرار اليمنيين في صنعاء وعدن وتعز وحضرموت وإب وغيرها من حواضر اليمن وأريافه المترامية الأطراف، سواء تلك الخاضعة لحكم الإمام وأولاده أو تلك الواقعة تحت سيطرة الاستعمار وعملائه.
كانت اليمن الكبرى كائنًا يتحرك داخل الوعي الثوري على كل شبرٍ في الأرض اليمنية، حتى وإن شوهد تحت نفوذ عدو طارئ أو مستبد حاقد، ذلك أنّ الوعي بدأ بترسيخ الهوية التي حاول أعداء اليمن طمسها لصالح هوياتهم المزيفة، فانتصر الوعي الوطني في معركة الهوية أولًا، وعلى صخرة هذا الوعي تكسّرت كل محاولات الإمامة والاستعمار، وتهشّمت معاول الهدم القادمة من وراء حدود اليمن، وضد مصلحة اليمنيين.
وبانتصار الوعي الوطني اليمني لصالح الهوية، تعززت مقومات الانتصار على أرض الواقع وفي خضم المواجهة المفتوحة التي بدأت مع انطلاق الثورة عشية السادس والعشرين من سبتمبر في صنعاء ضد الحكم الإمامي، وفي يوم الرابع عشر من أكتوبر من جبال ردفان ضد الاحتلال الأجنبي، وفي كلا المعركتين انتصر الثوار للهوية اليمنية، وبالهوية اليمنية. وهي الهوية ذاتها التي كانت علامة النصر وأيقونة الثورتين.
نظر الأحرار والثوار -وجلُّهم من المثقفين والأدباء والسياسيين والعسكريين- إلى ما تعيشه اليمن باعتباره خطرًا يهدّد هوية اليمن أولًا، من حيث أنه يبتكر هويات جديدة تقوم في الجنوب على معايير مناطقية، وفي الشمال على معايير مذهبية وطبقية. وبالتالي جاءت رؤية الثوار مبنية على أسس متينة قوامها المساواة والعدالة، انطلاقًا من هوية واحدة تجمع كل اليمنيين من الشمال إلى الجنوب، وفي الشرق والغرب، كما في الوسط وفي الأطراف، لا سيادة لعِرق ولا استعلاء لطائفة ولا تمييز لمذهب أو طبقة، ولا امتيازات خاصة لمنطقة على أخرى أو لأسرة على غيرها. ومن هنا كان الانتصار الثوري قدرًا مقدورًا لليمن على خصومه الذين ظنوا أنهم قادرون على تمزيق رقعته وتزوير هويته والعبث بحاضره وتدمير مستقبله.
لقد كانت الثورة اليمنية –سبتمبر وأكتوبر- في المرصاد لكل مشاريع التمزيق والتجزئة، وكان الثوّار الأحرار اليمنيون في المرصاد لمخططات الإمامة والاستعمار، أبطلوا مشاريعها ومزقوا أوراقها، وانتصروا لليمن، اليمن الكبير أرضًا وإنسانًا وتاريخًا وهوية.