الإهداء:
إلى القائد العسكري والسياسي الأستاذ والمناضل والصديق/ علي محمد هاشم، نائب رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة في فترة حصار صنعاء.
إليه، قائدًا عسكريًّا، وسياسيًّا، ووطنيًّا يمنيًّا، غلب في مشواره البعد السياسي المدني، على العسكري، ومن هنا تطور فكره السياسي، ورؤيته للناس وللحياة، بما فيه رؤيته لقضايا السياسة والعسكرة والتاريخ السياسي للبلاد في الفترة التي كان في قلبها صانعًا للأحداث.
إلى الإنسان فيه، الذي يجدّد نفسه، وحين يخطئ يصحّح، ويستمر في مشواره للأمام.
هو أحد أبطال حصار صنعاء بكل جدارة واقتدار وشجاعة، رفيق درب للكوكبة النبيلة التي صنعت مجد فكّ الحصار عن صنعاء، والذي كان أحد أهم رموزه وأبطاله.
إنّ الجميل في الصديق الأستاذ، علي محمد هاشم، وهو الآتي من الجيش ومن خارج دائرة الكتابة والبحث العلمي، أنّه وجد نفسه ليس مضطرًا بل معنيًّا ليقول رأيه في بعض صفحات التاريخ السياسي والعسكري لثورة 26 سبتمبر 1962، وفي انقلاب 5 نوفمبر 1967، الذي نقرأ فيه تطورات موقفه من ذلك الحدث، والانحياز مع كل ما يراه صائبًا في الفكر والسياسة.
علي محمد هاشم إنسانٌ حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وَفِيٌّ لمعنى الصداقة، وللأصدقاء، ومحِبٌّ أكثر لليمن، الأرض والإنسان.
إليه مع كل التحية والتقدير،،
ثورة 26 سبتمبر 1962م، مثّلت وكانت بحق انعطافة سياسية اجتماعية عميقة في التاريخ السياسي، والوطني اليمني، ما أن أُعلِن عن قيامها حتى انقسم العالم العربي والعالمي إلى قسمين، معَ وضد، وقفت الرجعية العربية، والاستعمار، موقفًا عدائيًّا وعدوانيًّا ضد الثورة في صورة السعودية وبريطانيا، لأنّهما السعودية، وبريطانياـ كانا يدركان أنّ مدّ عنف الثورة، وعدواها الثوري، سينتقل إلى عقر دارهما، بحكم الجوار، فضلًا عن حساسية قضية الأرض اليمنية المحتلة، وخطورة الحدود الممتدة، والتداخل الجغرافي، الديمغرافي مع السعودية، فضلًا عن الموقع الاستراتيجي لليمن، وتاريخها الحضاري، كل ذلك كانت عوامل مقلقة لقلعة الرجعية العربية والاستعمار (السعودية)، وهنا تلاقت مصالح السعودية، وبريطانيا، التي كانت تقيم محتلة للجزء الجنوبي من اليمن، ولذلك وقفتا من أول أسبوع ضد ثورة 26 سبتمبر، وعلى هذه القاعدة من السياسة والمصالح، كان الانقسام عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا، حيث شكّلت ثورة 26 سبتمبر 1962م، رافدًا سياسيًّا وجماهيريًّا داعمًا لمد حركة التحرر الوطني العربية والعالمية، بقدر ما مثّل العكس لقوى الرجعية والاستعمار، وبهذا المعنى السياسي العام هي ثورة.
لأنها وُجدت وقامت في بلد بقيَ معزولًا عن بعضه البعض في الداخل لقرون طويلة، خاصة في مناطق شمال الشمال عمومًا، الذي شكّل حاضنة اجتماعية تاريخية للإمامة، كما بقي معزولًا عن محيطة العربي، وعن العالم لقرون سحيقة، بقيت علاقة هذه المنطقة عدائية بالآخر، وبالبحر تحديدًا؛ لأنّها لا تعرفه وتخشاه، إلا في نطاق هروب بعض الأفراد للهجرة من الداخل، عبر البحر، هذه هي العلاقة الوحيدة لهذه المنطقة بالبحر الذي لم تدرك أهميته الاستراتيجية، وهي ثورة في نطاق واقع لا صلة حقيقية له بمعنى الدولة، فمنذ تاريخ الاستقلال الشكلي عن الاحتلال العثماني إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى 1918م، لا تكاد ترى أي أثر له صلة بالحياة المدنية والعصر. والمفارقة العجيبة، أنّ كل ما وُجد فيها من مبانٍ، وعمران، هي من بقايا الاحتلال العثماني، وهنا تدرك أن نصيب هذه المنطقة، اليمن الإمامي، من التخلف، كان عظيمًا، حتى قياسًا ببعض دول الجوار التي وجدت من العدم وبدعم من الخارج، (الاستعمار)، وعمرها لا يتجاوز حينها ثلاثة عقود من الزمن، وبعضها لم يك قد وجد في الأصل في تاريخ الحياة السياسية العربية والعالمية، وبهذا المعنى فثورة 26 سبتمبر 1962م، هي ثورة على تاريخ قرون من الاستبداد ومن التخلف المادي والحضاري، ثورة قامت في محيط بحر النفط المجنون، والواقع تحت الهيمنة الاستعمارية الدولية، ومن هنا خوفهم من أي حركة سياسية اجتماعية ثورية، ولذلك جوبهت ثورة سبتمبر بحصار، وعدوان رجعي إمامي، سعودي استعماري، من أول أسبوع لإعلان قيام الثورة، التي تم حصارها من جميع الجهات، ووصلت جبهات العدوان على الثورة إلى أكثر من أربعين جبهة عسكرية، وبرغم ذلك انتصرت إرادة اليمنيين بمقاومة العدوان، بدعم ومساندة حركة التحرر العربية المصرية، ومساندة الجيش العربي المصري، على أن انتصارنا في كسر الحصار كان فقط بإرادتنا اليمنية الوطنية المستقلة عن أي دعم خارجي، ومن هنا قيمة الانتصار وقيمة معنى ثورة ٢٦ سبتمبر.
وما أستغرب له هو إصرار البعض على الاستمرار في تسمية ثورة 26 سبتمبر 1962م، بالانقلاب العسكري، وهذه التسمية الخطأ تلتقي مع بعض الكتابات لبعض كتاب اليسار، مع بعض رموز "الكتلة الثالثة" والكتابات الرجعية المعادية للثورة
وما أستغرب له هو إصرار البعض على الاستمرار في تسمية ثورة 26 سبتمبر 1962م، بالانقلاب العسكري، وهذه التسمية الخطأ تلتقي مع بعض الكتابات لبعض كتاب اليسار، مع بعض رموز "الكتلة الثالثة" والكتابات الرجعية المعادية للثورة فبعض الكتاب من اليسار اليمني ما يزال عالقًا في أذهانهم ومنطق تفكيرهم مفهوم الثورة الأوروبية/ الغربية، التي تقرأ الثورة ومفهومها انطلاقًا من المفاهيم الفلسفية الكلاسيكية والقاموسية للثورة، باعتباره ثورات الصراع الاجتماعي الطبقي الحادّ بين طبقات اجتماعية كاملة التشكّل الطبقي، وفي تشكيلات اجتماعية اقتصادية طبقية متطورة مرتبطة برأسمالية الثورات البرجوازية على الإقطاع، والكنيسة، باعتبار ما أنجزته من عملية تغيير اجتماعي اقتصادي.
أنا أتفهّم تسمية "الكتلة الثالثة"، والكتابات الرجعية بقولهم إنّ ثورة 26 سبتمبر 1926م، هي انقلاب عسكري مصري في اليمن! وأتفهم الخطاب الاستعماري، على أنني لم أستطع تفهُّم إصرار البعض من كتّاب اليسار، على تسمية ثورة 26 سبتمبر 1962م، بالانقلاب العسكري!
قامت الثورة في منطقة كان السفر من "صنعاء"، إلى "حَجّة"، أو العكس، يستغرق يومين إلى ثلاثة أيام، حسب قول: اللواء، يحيى المتوكل في مقابلة له مع صادق ناشر. منطقةٌ، كانت العلاقة فيما بين الجغرافية، والديمغرافية شبه محدودة، لا تواصل بين قرية وقرية إلا بصعوبة، والعلاقة بالعالم العربي محدودة، وللضرورة القصوى، أمّا العلاقة بالعالم الخارجي فتكاد تكون نادرة إن لم نقل شبه معدومة، كما أنّها ثورة في واقعٍ لا صلة حقيقية له بمعنى الدولة، أدركت الرجعية، والاستعمار، أهميةَ وخطورة وحساسية قيام هذه الثورة، ولم يدرك البعض منها ذلك، حتى الكيان الصهيوني، أدرك ذلك، فاشترك بقوات مظلية في الحرب (إنزال جوي)، على ثورة سبتمبر، لأكثر من مرة، وهو ما أشار إليه هيكل مبكرًا، وما كشفت عنه الوثائق الغربية، والصهيونية بعد ذلك.
إنّ الحلقة المركزية الأضعف في ثورة 26 سبتمبر، كانت العاصمة صنعاء، العاصمة المحاطة بالقبائل الخمس المسلحة، والتي كانت تاريخيًّا، وما تزال، تحاصرها القبائل، وتمنع أي تطور سياسي مدنيّ فيها، بل وتكبح وتعوق ما هو حاصل في داخلها من مدنية، فضلًا عن نهبها.
إنّ كل ذلك في تقديري هو ما شكّل عامل تعويق إضافي لانطلاق مد الثورة للأمام، ومنع قوى الثورة من التفرغ للبناء الداخلي الاقتصادي والاجتماعي، فضلًا عن وجود معارضة داخلية في قلب الثورة، تعارض أي توجه نحو الإصلاح والتغيير.
وهي الرموز والقوى الاجتماعية القبلية/ المشيخية الحاضرة في قلب السلطة الجمهورية، ضمن حالة ما يمكننا تسميتها بـــ"ازدواجية السلطة" وهي التي كانت تمنع الذهاب بعيدًا في تأكيد التحالف العربي التحرري الاستراتيجي، في إحداث تغيرات عميقة في بنية المجتمع، وخاصة في ريف البلاد، ولذلك عارضت هذه القوة الثورة من داخلها، من خلال مؤتمراتها السياسية القبلية المسلحة، بدءًا من مؤتمر "عمران: 1963م، ومؤتمر أركويت/ السودان ذي الطابع العربي ١٩٦٤م، ومؤتمر "خمر" 1965م، وصولًا لمؤتمر الطائف 1965م، الذي أسفر عن وجهه القبيح بإعلان "الدولة الإسلامية".
ولم تحسم حالة "ازدواجية السلطة"، التي كانت تخلق حالة من التوازن النسبي بين الجناحين؛ الثوري الجمهوري، والجناح القبلي، سوى بعد انقلاب ٥ نوفمبر ١٩٦٧م، الذي رجح كفة الانقلاب على جمهورية سبتمبر، الأولى، وهنا فتح باب التدخل الرجعي/السعودي والاستعماري تدريجيًّا حتى تحولت السعودية إلى الطرف السياسي المقرر في الشأن السياسي اليمني.
يكفي ثورة 26 سبتمبر 1962م، عظمة وفخرًا أنّها أنجزت مقاومة العدوان الرجعي والاستعماري في صورة كسر الحصار عن صنعاء بقوات الجيش اليمني الحديث وبدون أي مساندة أو دعم خارجي، شباب الثورة في الجيش و"المقاومة الشعبية"، هم من أنجزوا ذلك الانتصار السياسي والعسكري والتاريخي العظيم.