من الاحتفاء إلى الاختفاء

يمنيون خلف القضبان بتهمة سبتمبر
October 9, 2024

من الاحتفاء إلى الاختفاء

يمنيون خلف القضبان بتهمة سبتمبر
October 9, 2024
.

ككل يوم، قام س.ح (25 عامًا)، سائق باص في أمانة العاصمة، بتوصيل مجموعة من الطلاب من المدرسة إلى بيوتهم، ثم عاد إلى المنزل لتناول الغداء، قبل أن يخرج من جديد للعمل على متن الباص، وقبل عودته مساء يوم الأربعاء 24 سبتمبر/ أيلول، اتصلت به أخته تحذره من أن مجموعة من الأشخاص جاؤوا يبحثون عنه، وفهمَت أنهم ربما يريدون به سوءًا؛ لذلك طلبت منه وضع الباص في أي مكان ويعود متخفيًا. أخوه أيضًا بعث له برسالة تحذيرية، حين شاهد تردُّد أولئك الأشخاص على الحارة، لكن (س.ح) صمّم على العودة وقال لشقيقيه: "لم أفعل شيئًا أخاف منه!". 

وحالما وصل إلى الحارة، فاجأه أحد المحسوبين على أنصار الله (الحوثيين)، ممن كانوا يتولون توزيع كروت الغاز في الفترة الماضية، وطلب منه أن يأتي معه إلى قسم الشرطة، وسيتولى شخصيًّا حل الأمر، إذا كان بالفعل هناك مشكلة. وحال وصولهما إلى قسم الوحدة بسعوان، أشار للجنود بضبطه، قائلًا: "هذا هو"!

مضى على اعتقال (س.ح) أكثر من أسبوعين، فيما باءت كل محاولات إخراجه بالفشل.

ليس له علاقة بالسياسة، هو شاب مهتم بعمله على متن الباص، وإعالة نفسه وعائلته، وكل ما في الأمر أنه قام بنشر بعض المنشورات الاحتفالية بذكرى ثورة 26 سبتمبر، ويبدو أن مندوب العاقل استغل حماسه للاحتفاء بالثورة للوشاية به.

وشاية مندوب العاقل

شهدت العاصمة اليمنية صنعاء وعديد من المحافظات الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، حملةَ اعتقالاتٍ واسعة، كان من بين المعتقلين أطفال، وكتّاب، ومواطنون بسطاء من مناطق مختلفة من اليمن، بتهمة "إثارة الفوضى والإقلاق بالسكينة العامة".

حالة من التوتر والقلق على مصير أقربائهم، وحالة من الغضب تملّكت قطاعًا كبيرًا ممن كانوا يستعدون للاحتفاء بالذكرى الـ62 لقيام ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، التي أطاحت بالحكم الإمامي في شمال اليمن سنة 1962، إذ رأى بعضهم في هذه الحملة الاستباقية تعديًا ممنهجًا يسعى إلى تقويض كل ما له علاقة بثورة اليمنيين ضد حكم الإمامة الاستبدادي، فيما رأى آخرون أن هذا الاستنفار المبالغ فيه، يعكس خوف جماعة أنصار الله (الحوثيين) من ردة فعل الشارع، بعد أن تعاظم رفض اليمنيين لها بسبب ممارساتها الفجة بحق المجتمع.

(س.ح)، واحدٌ من بين 26 شخصًا تم احتجازهم منذ يوم الأربعاء 25 سبتمبر/ أيلول، في مركز شرطة الوحدة بمنطقة شعوب فقط. ويقول شقيق (س.ح) إن احتجاز أخيه هو بسبب وشاية كاذبة من مندوب العاقل في الحارة، والذي كان على خلاف سابق معه. 

ويضيف أخو (س.ح)، في حديث لـ"خيوط": "ليس لأخي أي علاقة بالسياسة، ولا يفهم فيها كثيرًا، هو شاب مهتم بعمله على متن الباص، وإعالة نفسه وعائلته، وكل ما في الأمر أنه قام بنشر بعض المنشورات الاحتفالية بذكرى ثورة 26 سبتمبر على حالته في تطبيق واتساب، ويبدو أنّ مندوب العاقل استغل حماسه للأغاني الوطنية، وحالات (stories) المحتفلة بالثورة للوشاية به". 

ويتابع شقيق المعتقل: "ما يزال أخي قيد الاعتقال لحين يتم التأكد من عدم وجود اسمه في جهاز الأمن والمخابرات العامة، على حد تأكيد رئيس قسم الوحدة ومساعديه، كما قيل لنا في كل محاولة لمعرفة سبب عدم إطلاق سراحه وسراح عدد من زملائه المعتقلين حتى الآن. وفي المقابل، هناك من أكّد لنا أنه لن يخرج بهذه السهولة التي نتخيلها، قبل أن يتم إخضاع الجميع لـ(دورات ثقافية)، وهذا الخبر يبدو الأرجح؛ لأنه كل يوم يقولون لنا إنهم سيطلقون سراح أخي اليوم التالي، دون أن يحدث ذلك، وها هي الأيام تمر دون جديد".

الخوف من الأعلام والأناشيد

نبيل محمد (اسم مستعار) تحدث لـ"خيوط"، عن منعه وأصدقائه من الاحتفاء حتى في المكان المحدد للاحتفال، إذ يقول: "ذهبنا للاحتفاء بذكرى الثورة قبل غروب شمس الـ26 من سبتمبر 2024، في ميدان التحرير -المكان المحدد للاحتفاء- لكننا مُنعنا من دخول الميدان، الذي كان مطوقًا بالكامل، بالعسكر، أنا وعدد كبير من الشباب الذين جمعتنا نفس الغاية، وقيل لنا غير مسموح الدخول، بدون ذكر سبب، حتى حاولنا أن نتحدث مع الحراسة المسلحة التي تطوق المكان، لكن أحدهم، ويبدو عليه التعصب، قفز إلينا وبدأ يدفعنا للوراء، بل حاول أن يأخذ الرايات من أيدينا، مهددًا إيانا بالحبس إن لم نغادر المكان".

ويضيف نبيل: "حاولنا مرارًا التحدث مع أفراد من الطوق ليسمحوا لنا بالدخول، كنا نردد النشيد الوطني وأغاني وطنية كثيرة، لكنّ أحدًا لم يسمح لنا بالدخول، تلك القبضة، ذلك التحشيد والاستنفار، أمر غير معقول، ويعكس حالة من الجنون والهوس والخوف الذي يرتعد من رفع أعلام الوطن، وترديد نشيده الوطني".

تم الإيعاز لعقّال ومساعدي عقال الحارات للإبلاغ عن أي نشاط أو تحضيرات للاحتفال بذكرى ثورة 62، يقوم هؤلاء بإبلاغ أقرب قسم، ليأتي أفراد من الشرطة على متن طقم، لإلقاء القبض على من تم الإبلاغ عنهم.

الخروج بتعهد وضمانة

مصدر مطلع، تحفظ عن ذكر اسمه، قال لـ"خيوط": "تصدر أوامر الاعتقال من جهاز الأمن والمخابرات. وأقسام الشرطة مجرد أماكن مؤقتة للتحفظ على المحتجزين، ليس بأيدينا أي سلطة لإطلاق سراحهم، بل إنه من الممنوع علينا كشرطة أقسام الحديث معهم. تأتي التوجيهات من أعلى؛ إما بالإبقاء على فلان من الناس أو إطلاق سراحه، وهذا أمر يترتب عليه التأكد ما إذا كان اسم المعتقل وارد في كشوفات جهاز الأمن والمخابرات أم لا".

وأضاف المصدر: "المعتقلون بالمئات، وهذا هو السبب -حد علمي- لإشراك الأقسام في عمليات الاعتقال، إذ تمت آلية الاعتقال، كالتالي: يتم الإيعاز لعقال ومساعدي عقال الحارات للإبلاغ عن أي نشاط أو تحضيرات للاحتفال بذكرى ثورة 62، يقوم هؤلاء بإبلاغ أقرب قسم، ليأتي أفراد من الشرطة على متن طقم، لإلقاء القبض على من تم الإبلاغ عنهم".

ويتابع المصدر: "هذه ليست الطريقة الوحيدة التي تم عبرها القبض على عشرات من الأشخاص، معظمهم من الشباب، فقد تم إلقاء القبض على أشخاص أثناء مرورهم من نقاط التفتيش التي انتشرت على طول الشوارع الرئيسية والفرعية في أمانة العاصمة منذ 20 أغسطس، لكنها بلغت أوجها في 24 سبتمبر/ أيلول، وغيرها من المحافظات التي تسيطر عليها حكومة صنعاء".

الإحصائيات الحقيقية لأعداد المعتقلين ما تزال غير معروفة، بالرغم من تداول عشرات الأسماء منها إعلاميًّا، وما يزال مصير الغالبية العظمى منهم مجهولًا، فيما تم الإفراج عن بعضهم بعد توقيع تعهدات بعدم المشاركة والدعوة لأي نشاط مهما كان. 

تهديد فج وهراوات ملونة

تجدر الإشارة إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي ضجت بتهديدات شديدة اللهجة تتوعد كل من يفكر بالاحتفال؛ بعضها صادرة من أشخاص موالين لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، وبعضها الآخر صادرة من مسؤولين في الجماعة، منها ما قاله نصر الدين عامر، رئيس مجلس إدارة وكالة الأنباء اليمنية سبأ (التابعة لحكومة صنعاء)، ورئيس الهيئة الإعلامية لجماعة أنصار الله (الحوثيين)، الذي صوّر خروج الناس للاحتفاء بمؤامرة للضغط على حكومة صنعاء، متهمًا من يخالف أوامر الجماعة التي قررت منع الاحتفال، إلا بالطريقة التي حددتها، بأنه يلعب بذيله، ومتوعدًا إياهم بخلع الرأس، صاحَب هذه التهديدات أيضًا انتشار كبير لمدنيين يحملون هراوات (صمول) ظهر كثير منها مطليًا بألوان العلَم الجمهوري، في مشاهد تهدف بوضوح إلى ترويع المواطنين ومنع أي مظاهر للاحتفال. مواطنون أكّدوا أنّ هؤلاء الأفراد، الذين يتبعون جماعة أنصار الله (الحوثيين)، استخدموا أساليب الترهيب لقمع أي محاولة لإحياء ذكرى الثورة.

فيما تتعاظم مخاوف المواطنين من أن تكون هذه الاعتقالات والتهديدات تمهيدًا لسلب اليمنيين آخر مراكز هويتهم السياسية التي ما يزالون يتشبثون بها كطوق نجاة كلما تكاثفت محاولات اجتثاثها. في السياق، حذرت منظمات حقوقية يمنية ودولية الطرف المسؤول عن هذه الاعتقالات، التي تعد انتهاكًا صارخًا لحرية التعبير وحق المواطنين في الاحتفال بالمناسبات الوطنية. وطالبت بالإفراج الفوري غير المشروط عن المعتقلين، ووقف الانتهاكات بحق المواطنين.

أحد الناشطين الحقوقيين في صنعاء، طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنية، تحدث لـ"خيوط"، عن وقائع الاحتجاز: "لا يوجد مبرر قانوني لاحتجاز هؤلاء الأشخاص، والاحتفال بذكرى وطنية حق، يجب أن يكون مصونًا ومحميًّا للجميع".

تجدر الإشارة إلى أنّ الإحصائيات الحقيقية لأعداد المعتقلين ما تزال غير معروفة، بالرغم من تداول عشرات الأسماء منها إعلاميًّا، وما يزال مصير الغالبية العظمى منهم مجهولًا، فيما تم الإفراج عن بعضهم بعد توقيع تعهدات بعدم تكرار الاحتفاء أو المشاركة والدعوة لأي نشاط مهما كان، والخروج بضمانة. 

تعدّ ثورة 26 سبتمبر نقطةَ تحولٍ في التاريخ اليمني الحديث، إذ إنّها وضعت نهاية لحكم الأئمة الذين حكموا شمال اليمن عقودًا طويلة، لكن الأحداث الأخيرة تُظهر مدى التوتر القائم بين جماعة الحوثيين والمجتمع المدني في تفسير هذه الأحداث التاريخية والاحتفاء بها.

•••

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English