سبتمبر، حصان طروادة خاصتنا

اللحظة الأكثر قداسة في التاريخ اليمني المعاصر
عمران مصباح
September 25, 2024

سبتمبر، حصان طروادة خاصتنا

اللحظة الأكثر قداسة في التاريخ اليمني المعاصر
عمران مصباح
September 25, 2024
الرئيس اليمني الأسبق عبدالله السلام أثناء العرض العسكري-الصورة من وكالة فرانس برس

المبالغة إزاء أمر ما تستدعي النفور، عدا الإفراط في التمسك بسبتمبر، وفي هذه اللحظة تحديدًا. فهو أمر مفهوم وجلي إلى الحد الذي لا يتوجب معه التبرير. لقد أصبحت علاقتنا بسبتمبر تتعزز عامًا بعد آخر. وهي الآن أعمق من كل اعتناق، وليس للأمر بعد وطني ذو نزوع عاطفي أعمى، أو أسطورية تغذي مزاج الشاعر، ولا نكوص لاستجلاب الماضي الجميل في مواجهة الحاضر السيئ، بل لإدراك متأخر بأن هذه اللحظة هي الأكثر قداسة في كل التاريخ اليمني، وواحدة من أعظم الأفعال التغيرية في الحياة البشرية. لذا، عند الاقتراب من الكتابة عنه ينتابني شعور كبير بالارتباك، لاعتقادي أن الأغاني، كل الأغاني، أقل من التعبير عما حصل، وجميع مفردات الغزل لا تكفي لإعطاء سبتمبر حقه من المدائح.

وليس من السهل على أي إنسان أن يمضي بمغامرة الخطأ فيها يعني خسارة حياته. لهذا الخلود أقل قيمة أمام السلال ورفاقه، فما قاموا به أكبر من كل مقابل كان من المفترض أن يحصلوا عليه.

 فروسية الأبطال

أيضًاً الفهم بأن سبتمبر المجد كله، ورغم أهميته لم يكن بتلك الوردية. فمعرفة قيمة هذا الحدث الذي فتح الزمن لبلد عاشت على مدى قرون خارج التاريخ، كانت تكلفته كبيرة، تمثلت في خسارته بشكل كامل، وقضاء عشرة أعوام تحت حكم الإمامة، أي أكثر من ثلث عمري دفعته في سبيل هذ الإدراك، يا له من ثمن باهظ! فالمشهد ببساطة أن تكون في أزهى لحظات حياتك، أي في الثامنة عشرة من عمرك، وبينما تحاول فتح باب الحياة لأحلامك، يُغلق الأفق بعودة الخرافة، الخرافة بكل ما فيها من تخلف، وعنصرية.

وكأنه كان لا بد أن تحدث هذه الانتكاسة لكي يعود لسبتمبر الاعتبار، ولو على مستوى الوعي، سبتمبر الذي بقي لسنين مجرد شعلة توقد في المساء، ويوم إجازة في النهار، بينما كان يفترض أن يُكرَّس مثل حكايات الخيال بكل ما فيها من صعوبة وتعقيد، لأنه كذلك. فالأفعال الثورية تستمد أسطوريتها من فروسية أبطالها، وليس من السهل على أي إنسان أن يمضي بمغامرة الخطأ فيها يعني خسارة حياته، ومع ذلك يستمر، بالرغم أن نسبة الفشل فيها أعلى من النجاح، والأكثر سموًا أن العمل ليس لتحقيق مكسب شخصي، بل في سبيل إنقاذ مجتمع، ونقله إلى مستوى آخر. لذا، حتى الخلود أقل قيمة أمام السلال ورفاقه، فما قاموا به أكبر من كل مقابل كان من المفترض أن يحصلوا عليه.

سبتمبر بالنسبة لليمنيين أكثر علوًا حتى من اعتباره يومًا مجيدًا، أو ثورة للاستبدال بالسلطة، وتغير الحكم. إنه ولادة مكتملة لبلد بقي ألف عام خاضع لسلالة تدعي الحق الإلهي بالسلطة، وتستخدم في حكمها أكثر الوسائل تخلفًاً. إنه حصان طروادة خاصتنا، دخلنا عبره للعصر، ويمكن إخضاع المسألة للقياس الواقعي. فعلى سبيل المثال، حتى أواخر الخمسينات لم تكن المدارس في شمال البلد تتجاوز عدد الأصابع، بينما في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كانت السينما تجتاح المدن اليمنية، بلغت قرابة أربعين دار سينما، ووصلت إلى مدن صغيرة، كالقاعدة، ويريم، وزبيد والتربة، وغيرها.

الحقيقة، باستثناء سبتمبر، لدي نظرة مختلفة عن التاريخ، تتحفظ اتجاه الاحتفاء المفرط به، بل، وتقع على النقيض مع من يغالي في التفاخر بالموروث. وذلك لتصور شخصي مغاير، وله أسبابه الخاصة، منها أن التباهي بالماضي يقع على الإرث المادي القديم، وما تبقى من دلائل ملموسة على مجد البلد في تلك الحقب، لكن ذلك التغني يقتصر على البحث عن التفوق أمام هزيمة آنية، ويتوقف عند ذلك الحد دون المساهمة بشكل عملي في التصحيح. بينما سبتمبر يتميز بأن إرث فكري، والاستناد إليه سيحدث إنارة في الوعي الشعبي، بل إن المضي في تصوراته يدفع نحو الأمام، وبشكل أفضل، أي أن رؤية ثورة 26 سبتمبر لم تتقادم، بل تزيد حداثة.

ثورة سبتمبر تتساوى مع تلك الثورات التاريخية، بسعيها إلى تغيير شكل بلد كليًا، بقيت تحكمه سلطة ثيوقراطية تعتمد على التجهيل بشكل رئيس.

المشترك الثوري

هناك ثورات كثُر عبر التاريخ البشري، وعلى رأسها الثورة الفرنسية، التي يتعامل معها العالم على أنها الأعظم، ويتخذها المؤرخون مرجعًا في التاريخ الحديث، باعتبارها أسست لفكرة الثورات، وعند الاطلاع على كل الثورات العظيمة ونتائجها ثمة شيء مشترك، يتمثل بالتغيير الجذري الذي أحدثته، عبر الانتقال من النقيض إلى النقيض. لذا، ومن هذا الباب، فإن ثورة سبتمبر تتساوى مع تلك الثورات التاريخية، لتغييرها شكل بلد كليًا. لكن عند مراعاة الفارق في المستوى الثقافي قبل القيام بالثورات، بين بعض المجتمعات، والمجتمع اليمني، والتي بقيت تحكمه سلطة ثيوقراطية تعتمد على التجهيل بشكل رئيس، ولم يعرف التنوير قط، فإن ذلك يمنح الثورة اليمنية قيمة مختلفة، لأن اللامتوقع عظيم دائمًا. 

ومثلما استطاعت الإمامة العودة، رغم عدم وجود حاضن شعبي لها، تستطيع الجمهورية استعادة الأمور، وخلفها هذا الزخم الشعبي الكبير.

تأسيس للسياسة

أيضًا، باعتقادي أن رفض سبتمبر ليس خلافًا سياسيًا يجب قبوله، بل فكرة ترتقي للخيانة. وبالطبع، لا أقصد هنا تجريم مناهضي سبتمبر، رغم معقولية ذلك. لكن، على الأقل، وصم كل من يجد أفضلية في نقيضه. ولا أعرف هل هذا تطرف أكثر مما يجب، لكن، مؤخرًا، وبسلوك شخصي، اتخذت موقفًا بمقاطعة كل من لا ينتمي لسبتمبر. مثلًا، الفنان أبو نصار، بعد معرفتي قبل فترة قصيرة بأنه كان منحازًا بشكل كلي للملكية، وساندهم بالأغاني طيلة فترة الحرب مع الثورة، بقيت مستغربًا لماذا استمر المجتمع يسمع له، بل ويروج له بصفته ثائرًا في وجه أسرته الإمامية، بينما كان يجب الإقلاع عن كل ما غنى، فالجمهورية تتقدم على الفن، كما أن ثورة سبتمبر هي من أسست للسياسة، والحياة، والتعايش. ولا مشكلة في الاختلاف تحت هذه المظلة، بينما من ينتمي لما قبلها، هو بسلوكه هذا يقوض خيار التعدد.

بالرغم من أن الحسرة لا تطرق الباب، من أجل الدخول إلى صدر الفرد، فما الحال مع خسارة جسيمة مثل سبتمبر، لأن ما تم فقدانه من قبل المجتمع اليمني لا يوجد مشاعر قهر بإمكانها أن تكون موازية له، فالأمر يفوق العاطفة والعقل، إلا أن ما يجب إدراكه هو أن التاريخ صراع، والسلطات ليست أبدية. ومثلما استطاعت الإمامة العودة، رغم عدم وجود حاضن شعبي لها، تستطيع الجمهورية استعادة الأمور، وخلفها هذا الزخم الشعبي الكبير، وحتمًا سيحدث هذا، لكن، ما هو غير معلوم، يكمن في توقيت اللحظة فقط.

في الأخير، أريد القول إنني منذ طفولتي أحلم بالكتابة والنشر، لكنني، وبكل صدق، لم أفكر على الإطلاق بأنه سيأتي يوم أكتب فيه عن حدث حصل قبل ولادتي بعقود، لأن خياراتي بصفتي شابًا يجب أن تكون، وبشكل مبالغ به، منحازة للتصورات الحالمة، ومن مسلمات الأحلام أن تسبق الواقع، لكن لأول مرة يصبح الماضي المتحقق هو الحلم بذاته، لتفوقه، وبشكل مطلق، على الحاضر، أو حتى على ما نتوق إليه في المستقبل القريب.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English