بين تنفيذ حكم الإعدام بحقّ زوجها المدان بقتل فلذات كبديهما الثلاث، يوم الأربعاء 16 يونيو/ حزيران 2021، وبين وقوع الجريمة الصادمة للمجتمع صبيحة الجمعة 28 يونيو/ حزيران 2019، أمضت عائشة حسين الخلقي، والدة الفتيات الضحايا، زهاء 720 يومًا تطوف أروقة المحاكم في قضية رأي عام شديدة الخصوصية.
تواجه الأم المكلومة نوعًا من التنمّر المجتمعي في أوساط النساء، فبعض بنات جنسها يعتقدن بأنه كان عليها العفو عن زوجها، فيما تبدي أخريات لومًا وتقريعًا لها لأنها لم تقدم التنازلات للزوج، والنأي بالفتيات من أن يصبحن ورقة مساومة في خلافاتهما.
بعد تنفيذ حكم الإعدام، تروي السيدة عائشة الخلقي (30 سنة) لـ"خيوط"، أن أغلبية النساء في محيطها الاجتماعي كنّ يسألنها: "هل نهنئك أم نعزّيك؟ فمهما كان، هو زوجك وسوف تتحسرين عليه، وفي الوقت نفسه، فرحنا بالانتصار لبناتك"، أما هي فكانت تردّ عليهنّ قائلة: "بإمكانكن تهنئتي فقط، فأنتن لا تعرفن معنى الحزن ولا معنى القهر".
بداية الخلافات الزوجية
قبل الغوص في كواليس الجريمة، تروي والدة الفتيات الضحايا: ملاك (14 سنة)، رغد (12 سنة)، رهف (7 سنوات)، أنّ ظروفهم المعيشية كانت "مستورة"، فزوجها كان يعمل في محل لبيع الهواتف النقالة بشارع القصر، وكان قد ورث مبلغ مليوني ريال يمني (قرابة 3 آلاف دولار).
تقول عائشة إنّ الخلافات مع زوجها، بدأت حينما توقّف عن العمل، وشارف مبلغ المليوني ريال على الانتهاء، حيث طلب منها إخراج البنات من المدارس الأهلية، وتوفير قيمة الرسوم الدراسية كمصاريف للبيت.
رفضت عائشة ذلك الطلب؛ لأن البنات كنّ متفوقات ويحصدن أعلى الدرجات في المدرسة -حسب إفادتها لـ"خيوط"- وأنها كانت تأمل إدخالهن كلية الطّب، مشيرةً إلى أن شقيقة زوجها وجدت له عملًا براتب شهري 40 ألف ريال، لكنّه آثر الجلوس في البيت، ثم وجدت له عملًا في مستشفى الكويت، لكنه تغيّب عن العمل أربعة أيام في بداية أوّل شهر.
"إذا لم تلتزم بالدوام الوظيفي هذه المرّة وتشتغل، فسوف أشكوك عند عائلتك، أو أذهب ببناتي إلى بيت أهلي". تقول عائشة عن الإنذار الأول الذي وجهته لزوجها، مشيرة إلى أن ردّة فعله كانت شديدة اللهجة: "إذا فكّرتِ بفعل ذلك، فسوف أحرق قلبك"، وحينما سألته الزوجة توضيحًا أكثر بشأن تهديده، أجاب: "سأحرق الشّقة مع البنات".
في غرفة الأمّ، وجد شقيقها الفتيات جثثًا مسجّاة تحت البطانيات، فنادى شقيقته مذهولًا من هول المشهد. وتضيف أن سكّان العمارة دخلوا معها وشقيقها وحاولوا إجراء تنفس صناعي للبنات دون جدوى.
اتفاق ما قبل الجريمة
لم تأخذ عائشة تهديد زوجها على محمل الجدّ، فأقصى ما توقعته أن يفرّ بالفتيات بعيدًا عنها، وقبل يوم واحد على الجريمة، اتفق الزوجان على اقتسام أثاث منزلهما وإيداع نصفه في بيت شقيق الزوجة والنصف الآخر في بيت شقيقة الزوج، على أن تذهب الأم مع بناتها إلى بيت أخيها، ويبقى الأب في بيت شقيقته لمدّة شهر واحد، يبحثان خلاله عن منزل آخر جوار مدرسة البنات، وفي الوقت نفسه يستطيع الأب الالتزام بدوامه الوظيفي.
تتذكّر عائشة أنها صبيحة يوم الجريمة ذهبت لتنظيف بيت شقيقها، على أن تبدأ البنات بتجميع أغراضهن ريثما تأتي الأمّ لنقلهن مع نصف الأثاث المتفق عليه إلى بيت شقيقها. تتذكّر أيضًا أنها قبل أن تغادر الشقة أمسكها زوجها عند الباب، وقال لها: "ألن تعودي إلى هنا، ألم تنسي شيئًا؟"، الأمر الذي أثار استغرابها، لكنها لم تفهم منه شيئًا.
أكملت عائشة تنظيف منزل شقيقها وعادت إلى شقّتها، لكنّها نسيت مفاتيح الشقّة في منزل أخيها، فطرقت الباب، لكن لم يجبها أحد. تقول إنّ أعصابها بدأت بالتوتّر عندما كررت طرق الباب دون ردّ، فطرقته بعنف حتى سمع الجيران طرقاتها على غير العادة. ومن هاتف جارتها اتصلت بشقيقها ليوافيها بالمفتاح إلى الشقة، وكانت تظن أن زوجها أخذ البنات وهرب.
في غضون دقائق وصل شقيقها. تقول عائشة: "فتحنا الباب ودخلنا. كانت الصالة مغمورة بالمياه، وذهبت إلى غرفة البنات وكانت غير مكتملة الترتيب، وبرميل الماء الذي جهزّته لنقل الأواني ممتلئ بالماء".
في غرفة الأمّ، وجد شقيقها الفتيات جثثًا مسجّاة تحت البطانيات، فنادى شقيقته مذهولًا من هول المشهد. وتضيف أن سكّان العمارة دخلوا معها وشقيقها وحاولوا إجراء تنفس صناعي للبنات، لكن دون جدوى. تضيف عائشة بحرقة وأسى: "أسعفناهنّ وعملنا لهن كهرباء إنعاش، لا فائدة ..."؛ تتصفح صورهن في هاتفها المحمول وتختنق بالكلمات.
ضبط الأب الجاني بعد 24 ساعة
تقول عائشة إن زواجها كان تقليديًّا، وأن زوجها يكبرها سنًّا بنحو 10 سنوات، حينها كانت أكملت الثانوية العامة. وبعد الجريمة انحصر همّها في كيفية الاقتصاص لبناتها. "كان يخُّيل لي أنّ بناتي يتحدّثن فيما بينهن بأن أمهنّ قوية وسوف تأخذ بحقّهن"، تضيف الأم المكلومة.
بعد 24 ساعة على ارتكاب الجريمة، ألقت الشرطة القبض على الأب الجاني، في فندق بشارع تعز- جنوب العاصمة صنعاء، بحسب مركز الإعلام الأمني التابع لوزارة الداخلية، والذي أشار إلى أنّ الأب كان في حالة ندم عند القبض عليه، وقد بث الإعلام الأمني تسجيلًا مصورًا لاعترافات المتهم.
وكان نص المادة (233) في القانون رقم 12 لسنة 1994، بشأن الجرائم والعقوبات في اليمن، والذي لا يعاقب الأب/ "الأصل" إذا اعتدى بالقتل أو الجرح على "الفرع"/ الابن أو الابنة، أثار مخاوف عائشة من احتمال ضياع حقّ بناتها وإفلات الزوج من عقوبة الإعدام إلى الحبس.
وتتذكر عائشة مواقف مريبة لزوجها، إذ تقول إنه أخبرها "قبل رمضان بشهور" بأنّه "سوف يذهب إلى السجن"، وأنه كرر على مسمعها العبارة نفسها مضيفًا إليها أنه اطّلع على القانون الذي ينص على أنّ "الأصل لا يؤخذ بالفرع". "قال لي سوف أفعل شيئًا يحرق قلبك وأرتاح في السجن"، تؤكد عائشة.
هذه المخاوف دفعتها لاستئناف دراستها الجامعية (كانت توقفت بعد الثانوية)، من بوابة كلية الشريعة والقانون. أكملت دراسة السنة الأولى، وتطمح للعمل محامية، متعهدة بالتطوع لحماية قضايا الطفولة والنساء ومناصرة الضحايا في مثل هكذا قضايا.
المحامي قُطيش: "الحكم جاء بالإعدام تعزيرًا لسقوط القصاص في حق الأب؛ وذلك لبشاعة الجرم المنسوب إليه، حيث قتل البنت الصغرى أولًا بخنقها وتنكيسها داخل خزان مملوء بالماء حتى فارقت الحياة، ثم فعل ذات الفعل بالوسطى، وحينما قاومته البنت الكبرى، قام بخنقها وقتلها بذات الطريقة".
زغاريد في قاعة المحكمة
يوم الثلاثاء 19 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، أقرّت محكمة جنوب غرب الأمانة، إعدام الأب المدان بقتل بناته تعزيرًا، وقوبل الحكم بزغاريد لنساء حضرن جلسة المحاكمة رفقة الأم، وبعد 3 شهور (19 فبراير/ شباط 2020) أيّدت محكمة الاستئناف حكم الإعدام.
وأوضح المحامي وضاح قطيش حينها، أن تنفيذ الحكم "سيكون في ساحة عامة ليكون عبرة لكلّ من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجريمة البشعة بحق أطفاله وبحق المجتمع"، مضيفًا أنه تطوع في الترافع في هذه القضية عن أولياء الدّم برفقة المحاميين عبدالرقيب القاضي.
جلسات محكمة الاستئناف
تقول عائشة إنها سجدت شكرًا لله يوم صدور الحكم الابتدائي بإعدام زوجها، وأنها كانت متخوفة من إطالة وقت المصادقة على الحكم في محكمة الاستئناف، مشيرةً إلى أن الناشطة الحقوقية هيفاء مالك، طلبت من القاضي عقد جلسات أسبوعية للبت في القضية. استغرقت القضية في محكمة الاستئناف ثلاث جلسات خلال ثلاثة أسابيع، وكانت عائشة متخوفة من أنّ المحكمة العليا قد ترفض الحكم.
وتقول في إفادتها لـ"خيوط"، إن ملف القضية أعيد من المحكمة العليا إلى النيابة، ومن النيابة إلى المحكمة الابتدائية؛ لأنّ المحامي المترافع مع الجاني لم يدوّن اسمه في الطعن، مشيرةً إلى أن هذه الإجراءات استغرقت زهاء أربعة أشهر "ذهابًا وإيابًا".
من محكمة النقض إلى الابتدائية
بمساعدة النيابة والمحكمة تم إيكال محامٍ للتوقيع على الطعن، موضحةً أنهم عادوا إلى النائب العام من المحكمة الابتدائية ثلاث مرّات، ومن محكمة النقض، أعيد ملف القضية إلى المحكمة الابتدائية مرتين بسبب الختم.
صباح يوم 16 يونيو/ حزيران 2021، نُفذّ حكم الإعدام تعزيرًا وسط ميدان التحرير في العاصمة صنعاء، بحضور القاضي عبدالغني السلمي، عضو نيابة جنوب غرب الأمانة. ورغم تعارض منطوق الحكم مع نص المادة (233) من قانون الجرائم والعقوبات، رأى حقوقيون أنّ الحكم كان موفَّقًا من الناحية الإنسانية والشرعية؛ وذلك لوحشية الجريمة وبشاعتها.
ويفسر المحامي وضاح قطيش، ذلك بأن "الحكم جاء بالإعدام تعزيرًا لسقوط القصاص في حق الأب، وذلك لبشاعة الجرم المنسوب إليه، حيث قام أولًا بقتل البنت الصغرى بخنقها وتنكيسها داخل خزان مملوء بالماء حتى فارقت الحياة، ثم فعل ذات الفعل بالوسطى، وحينما قاومته البنت الكبرى، قام بخنقها وقتلها بذات الطريقة".
طلاق الأم أثناء المحاكمة
رفضت عائشة البقاء مرتبطة بزوجها المدان بقتل بناتهما، قائلة لـ"خيوط": "كنت في حالة نفسية متعبة حينما أتذكر أنّه ما زال زوجي"، وبمساعدة إدارة السجن تمكنت من الحصول على الطلاق. وتروي أن الطلاق مكنّها من لملمة أعصابها والتحرر من كابوس الارتباط بقاتل بناتها. وتضيف: "كنت أشعر أنّ بقائي مرتبطة به جريمة في حق بناتي".
تبدي أمّ الفتيات قدرًا من رباطة الجأش، لكنها في الواقع شبه منهارة، فذكريات بناتها تحاصرها من كلّ اتجاه. بشاعة الجريمة أكبر من أن تستوعب أو أن تتجاوز آثارها بسهولة. تقول بعض صديقات عائشة عنها إنّها "محظوظة لكونها ما تزال على قيد الحياة".
رسميًّا، أُغلق ملف القضية بإعدام الأب المدان بقتل بناته الثلاث في عمر الزهور، فيما لا يزال على الصعيد الاجتماعي مفتوحًا للدراسة والتحليل، مثلما هي عبرات صوت الأم ما تزال مخنوقة بتساؤل: "كيف طاوعه قلبه فعل ذلك؟".
