الأمثال "الحسيَّة" في اللغة اليومية

حين يُجرَّم المكتوب ويُستحسَن المسموع!
صلاح الأصبحي
September 17, 2023

الأمثال "الحسيَّة" في اللغة اليومية

حين يُجرَّم المكتوب ويُستحسَن المسموع!
صلاح الأصبحي
September 17, 2023
اللوحة للفنان سعد علي

قد تبدو الظاهرة اعتياديةً للبعض ولا تستحق التأمل، لكنها في الحقيقة جديرة بالنظر وتفحص جوانبها، وتتبع جذورها المتصلة بالثقافة والمجتمع، ومقاربة دلالاتها.

فنحن -الباحثين والكتّاب- غالبًا ما ننأى بأنفسنا عن تناول مثل هذه القضايا، رغم إدراكنا أنها تحمل الكثير من الدلالات الخاصة بمجتمع ما والواقع الذي يقبع وسطه هذا المجتمع، فهناك العديد من النظريات الثقافية والنقدية والفلسفية والأنثروبولوجية التي اهتمت عن كثب بدراسة سلوكيات الفرد، وثقافته وطريقة تفكيره، والخروج بنتائج دقيقة جدًّا لا يمكن تجاهلها ألبتة وبصورة علمية لا تقبل الجدال، هذا النمط ساد غربيًّا، أما عربيًّا فلا أثر له.

لقد أثار استغرابي وضاعف حيرتي هو رؤيتي شغفًا يمنيًّا بترديد الأمثال ذات الإيحاءات الجنسية أو ما تتسم بإباحية لفظية مباشرة دون أقنعة، يتلفظ بها القائل ويتلقّاها السامع بكل حفاوة وتقبُّل، وتؤدّي الغرض بدقة دون استهجان أو نفور أو تذمر من خدشها للحياء أمام الملأ، وتحظى بمكانة وتقبل وسلاسة حتى لو كانت مثيرة للازدراء والخجل.

تختزل ثقافتنا المتجذرة في الأعماق رمزية الرجولة والشكيمة والكمال في الفحولة الجنسية الشبقية التي تعد صفة مؤهلة لنيل الإعجاب والتقدير من الآخر وكفيلة بالتغلب على العيوب وغفرانها، وعلى العكس لا يمكن تجاوز فقدان الفحولة مع وفرة سمات أخرى محببة من خلق وأخلاق ونبل، هكذا يمكن توصيف تقديسنا للفحولة، وتأثير ذلك على طبيعة تفكيرنا ولغتنا اليومية المتخمة باستعمالات جنسية متوارية بجلباب "مَثَل" ما أو انصباب نعت الشيء الجميل والمحبب إلى نفوسنا بربطه برمز الفحولة للذكر أو الأنثى باللفظ العامي المتداول.

وهنا نجد أنّ المسألة أصبحت بالفعل مسألة نسق ثقافي متجذر وشائع ويُمارَس بشكل يومي وله شعبية كبيرة، وهذه الصفات متحققة بالفعل، وهي ذاتها التي خصها الناقد السعودي (عبدالله الغذامي) كعلامات للنسق، وكلها تنطبق على تفشي المَثَل الجنسي في الثقافة الشعبية والسلوك اليومي اليمني، ولطالما أننا اعتبرناها ظاهرة نسقية تمجد الاستفحال وتعتبره نموذجًا للجمالية والكمال وتحقق المراد، فمن اللازم أن نبحث عن الأسباب التي عززت من قوة هذا النسق ومكّنته من الاستحواذ.

من أهم المؤثرات والإشكاليات التي يمكن اعتبارها فاعلة في هذا السياق، الكبت الجنسي والحرمان الاجتماعي اللذان يطغيان على الواقع وبسببهما أصبح الفرد في هذا المجتمع المحافظ يرى العالم والوجود من ثقب المؤخرة وحلمات النهد والسيقان الأنثوية كمكبوت جنسي يجاهر بكبته بطريقة غير مباشرة لا إرادية دون أن يعلم بحالة التأزم العاطفي التي يعانيها، حتى وإن كان متزوجًا أو له من الأولاد والأحفاد ما له إلا أن لعابه يسيل حين يسمع حديثًا عن الجنس، ولذا فهو يتلفظ به مثلًا أو تركيبًا لغويًّا متداولًا دون وعي، ففي مجتمع يعاني من غلاء المهور وتردي الوضع الاقتصادي لم يعد فيه بلوغ مرحلة إفراغ الكبت والوصول لحالة الإشباع العاطفي أمرًا هينًا ومتاحًا، فمن الطبيعي أن تنعكس هذه العقدة على السلوك.

والذي ليس مكبوتًا فهو شبِقٌ كثير الشغف واللهث وراء الجنس حتى ولو لفظيًّا، وهذا أيضًا مما يفسر سطوة المَثَل الجنسي، كما أنّ غياب ثقافة التمدن والتحضر وتعاظم الأمية وطغيان ثقافة القبيلة وسلوكياتها، كل هذا هيّأ الأجواء للتداول الجنسي اليومي في الأسوق وفي المجالس وفي البيع والشراء وفي مختلف أنماط الحياة، إضافة إلى ما جلبته الشبكة العنكبوتية من إتاحة جنسية إباحية في المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي وانتشار المسلسلات المليئة بالمشاهد الفاضحة التي كسرت الحاجز النفسي، فتقلصت المسافة بين الجنس وبين الإنسان، ولم يعد للحشمة والترفع عن اللغة العارية وجود يحزم إباحية القول والتفكير والخيال في مجتمع للجنس أولوية فيه على ما سواه.

من النادر انعدام مَثَل حسي لا يناسب أي مقام، أو حرص المتكلم على قول مَثَلٍ بلا إيحاءات، كأنما الثقافة الشعبية اليمنية زاخرة بإنتاج أكبر كمية من هذا النوع وسد احتياجات أبنائها.

وعندما استخدمت كلمة "تفشي" فهي مقصودة وبدقة؛ لأنها تكشف عن جوهر الظاهرة، بمعنى أنّ الأمثال الجنسية صاحبة حظوة وأهمية حتى لو كان هناك مثل لا يحمل إيحاء إيروتيكي يمكن استخدامه في السياق فإن الغلبة للمثل الجنسي، وهنا يكمن الاستغراب والاندهاش والحيرة إزاء هذه الرغبة الدائمة والعلاقة الوطيدة التي منحت هذا النوع من الأمثال أفضلية واستحسانًا واهتمامًا خاصًّا. 

لا يتأفف اليمني وهو يتفوّه بهذه اللغة الفاضحة الخادشة ليل نهار وكأنها شيء اعتيادي، حتى لو كان مثقفًا أو رجل علم وتقوى أو صاحب مكانة اجتماعية فيستحسن السامعون ما يقول وتنحصر ردة فعلهم على القهقهة والسخرية واستحسان نباهته النابية، وهذا يعني أنّ الأمر لا يقتصر على فئة بعينها من الناس السوقيين أو الهامشيين أو السفهاء لكن الوضع عام، وقد حدث أنّ قاضيًا فصل بين خصمين في قاعة المحكمة عبر إيراده لمَثَلٍ ما من هذه الأمثال دون تورع أو ترفع، كون المثل يتسم بالاقتضاب والبديهية وفيه رسالة مباشرة لا تقبل التأويل، وتلجم السامع وتدحض حجته بسهولة.

وإذا كانت الأمثال بشكل عام تعد حجة منطقية مقنعة، فإن الأمثال الجنسية تختزل المرء في عضوه الذكري وتعزز هيمنة العضو على الجسد ككل باعتبار الجسد تابعًا، وقيمة الإنسان في فحولته وشبقه، أضف إلى ذلك أنّ الخطر يكمن في النظرة الدونية تجاه الأنثى التي كرستها هذه الأمثال وغدت جزءًا من التعامل معها في ثقافة المجتمع وسلوكه، حيث تسمعها من الغالبية حين يدور الحديث حول المرأة، مما يكشف عن يقينية المجتمع بنسق ثقافي سلبي وتنصّله عن القبول بإعطاء المرأة مكانة لائقة بها، خلافًا لما ترسّخ في وعيه وتفكيره.

ومما يلفت النظر حول هذه الظاهرة وفرةُ هذا النوع من الأمثال وتغطية حاجة الإنسان في كل السياقات التي تمر عليه، فمن النادر انعدام مَثَلٍ حسي لا يناسب أي مقام، أو حرص المتكلم على قول مثَلٍ بلا إيحاءات، كأنما الثقافة الشعبية اليمنية زاخرة بإنتاج أكبر كمية من هذا النوع وسد احتياجات أبنائها، حتى لا يشحذونها من ثقافة وبيئة جغرافية أخرى، عجبًا لهذا الانحطاط والتردي الثقافي الذي نقبع وسطه دون أن نستشعر سذاجة تفكيرنا وهوسنا الفحولي، ومن الممكن لأي باحث في علم النفس أن يعتبر شيوع هذه الظاهرة ناجمًا عن معاناة شريحة كبيرة من هذا المجتمع من مشكلة "الكبت الجنسي"؛ ولذا تجده يداري عقدة النقص هذه ويتستر عليها بولعه الشديد بالحديث عن الجنس، سواء في الأمثال أو التراكيب العابرة أو النكت الخضراء، كل هذا لإزالة الشكوك عن معضلته.

ومن المتوقع أن بعض القراء لهذا المقال ستعتريهم الأنفة ويغمرهم النفور والتذمر من الكتابة عن مثل هذه المواضيع؛ لأنهم مشوّهون ثقافيًّا ومبنيّون على الزيف، وسيدعون الفضيلة والتقوى، وأنّ ما كتب هنا زورٌ وبهتانٌ لا يمت بصلة إلى واقعنا اليمني، رغم أنّ تراثنا العربي يزخر بالكثير من الكتب التي وثّقت كل ما يتصل بالجنس من قريب أو من بعيد، مثل: كتاب "الروض العاطر في نزهة الخاطر" للنفزاوي، وكتاب "تحفة العروس ومتعة النفوس" لمحمد بن أحمد التجاني، وكتاب "نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب" لشهاب الدين أحمد التيفاشي، ويا ما حوت كتب الأدب والتاريخ كالأغاني وغيرها من أخبار الجنس والغلمان والقِيان والمغامرات، لكن المفارقة في مجتمعنا أنه يتلفظ ليل نهار بلغة جنسية، وحين يقرأ عنه في رواية أو كتاب يستنفر ويعلن الحرب، لأنّ اللغة المسموعة في نظره لا تخضع لرقيب، أما اللغة المكتوبة فيقوم هو ذاته بدور الرقيب، وهذا الأمر منح الأمثال الجنسية تفشيًا في الاستخدام اللغوي ومهّد لها الطريق في الانتشار والسيطرة على لهجتنا اليومية، وهنا فإنّ الخلل ثقافي ونفسي واجتماعي في نفس الوقت، فطريقة التفكير والكبت والحرمان صنعت هذه الظاهرة، وتصحُّر ثقافة التأدب والرقي وجفاف المعجم اللغوي لدى المجتمع المباهي بفحولته، وعدّها سلاحه الفتاك في الوجود ورأس ماله في هذا العالم.

•••
صلاح الأصبحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English