تمتنع البنوك وشركات الصرافة منذ نهاية مارس/ آذار الماضي، عن تسليم الحوالات لمستحقيها في حال كانت مرسلة بالدولار الأمريكي بموجب تعميم صادر من "بنك صنعاء المركزي" يُلزمها باعتماد الريال السعودي في الحوالات وعديد من المعاملات المصرفية والمالية.
يشكو مواطنون وتجار ومتعاملون في الأسواق من هذه الخطوة المفاجئة، التي تسببت بأزمة نقدية خانقة منذ سريان هذا التعميم الذي يتزامن مع احتدام صراع مصرفي واسع بين أطراف الصراع في اليمن، إذ يُبدي كثير من المواطنين دهشتهم وصدمتهم من السياسات والإجراءات والقرارات التي تتخذها سلطة صنعاء التي لا هدف لها سوى مفاقمة معاناتهم، إضافة -بحسب محللين وخبراء اقتصاديين- إلى التضييق على مختلف الأنشطة الاقتصادية والمصرفية، من دون تقديم أي حلول لكثير من المشكلات والأزمات المعقدة بفعل الصراع والانقسام في اليمن.
تشهد صنعاء ومناطق نفوذ جماعة أنصار الله (الحوثيين)، أزمةً نقدية خانقة، زادت بشكل كبير وملحوظ منذ شهر مارس/ آذار الماضي، بالتزامن مع صدور قرارات من سلطة صنعاء، وقرارات مماثلة بالرد عليها من الحكومة المعترف بها دوليًّا، جعلت جميع مناطق نفوذ الطرفين على صفيح هذا الصراع الساخن والمتأجج، الذي يُلقي بالمزيد من التبعات التي تشدّد الخناق على الأسواق والعملة المحلية، والبنوك والقطاع المصرفي، وعلى المواطنين اليمنيين بشكل عام، في ظلّ تردٍّ معيشي واسع، يفوق قدراتهم على تحمله.
يعتبر خبراء اقتصاد أنّ الصراع المحتدم خلال الفترة الماضية، والقرارات المثيرة للجدل، سيكون لها تبعات وخيمة في تعميق الانقسام النقدي بين شمال اليمن وجنوبه، في ظل وضع اقتصادي متردٍّ وتدهور معيشي يطال معظم سكان اليمن، وعملة منهارة ومجزَّأة بين طرفي الصراع.
وتكشف كثير من القرارات الصادرة من السلطات النقدية لطرفَي الصراع -خصوصًا بعض القرارات الأخيرة الصادرة عن "بنك صنعاء المركزي" التابع لجماعة أنصار الله (الحوثيين)- عن تخبط وعشوائية واضحة، تؤكّد عدم امتلاك هذه السلطات أي رؤية سليمة لإدارة السياسات المالية والنقدية، مع انتهاجها سياسات متهورة وغير منضبطة في إدارة المال العام، ووفق توصيف خبراء اقتصاد؛ عبارة عن صواعق اقتصادية واجتماعية متعددة يصعب السيطرة عليها.
معلومات من مصادر مطلعة تفيد أن لدى سلطة صنعاء كتلة نقدية كبيرة من العملة السعودية تسعى بكل الطرق إلى ضخها للتداول في سوق الصرف بصنعاء ومختلف مناطق نفوذ "الحوثيين"، لأسباب غير معروفةٍ بالضبط أغراضُها، إذ يأتي ضخ هذه الكتلة النقدية بالتزامن مع عمليات سحب متواصلة للدولار الأزرق.
وتواصل سلطة صنعاء منذ العام الماضي، إصدارَ قرارات مصرفية تُثير الجدل والتساؤلات حول الفائدة المرجوة منها، في ظل ما تضيفه من تبعات وأعباء ثقيلة ومكلفة على البنوك والقطاع المصرفي والأسواق التجارية، ومعيشة المواطنين، إذ لا يزال القطاع المصرفي والبنوك تعاني أضرارَ "قانون منع التعاملات الربوية" الذي كان بمثابة القفز إلى المجهول، حيث لم يترك لمؤسسات الجهاز المصرفي أيّ خيار لإدارة أعمالها وأنشطتها بطرق سليمة.
وصولًا إلى قرار طرح عملة معدنية للتداول من فئة 100 ريال، التي اعتبرها البنك المركزي للحكومة المعترف بها دوليًّا غير قانونية، وحذّر من التعامل معها، في حين فوجئ الجميع بقرار آخر يُلزم البنوك والقطاع المصرفي التعاملَ بالعملة السعودية بدلًا من الدولار في التحويلات المالية وعديد من المعاملات النقدية والمصرفية الأخرى، في إطار مناطق نفوذ سلطة صنعاء.
رئيس جمعية البنوك اليمنية، محمود ناجي، يؤكّد في تصريح لـ"خيوط"، أنّ البنوك تلقّت في آخر أيام شهر رمضان، تعليماتٍ من البنك المركزي في صنعاء، تطلب منهم التعامل بالريال السعودي بدلًا من الدولار فيما يتعلق بالحوالات، حيث أدى ذلك -وفق ناجي- إلى بعض الارتباكات للبنوك، مشيرًا إلى أنّ جمعية البنوك تعمل حاليًّا على مراجعة البنك المركزي بشأن هذه التعليمات.
من جانبه، يتطرق المحلل المصرفي، علي التويتي، في حديثه لـ"خيوط"، إلى نقطة في غاية الأهمية لدى تحليله للقرارات الأخيرة المثيرة للجدل الصادرة عن سلطة صنعاء؛ منها التعميمُ الأخير الذي يلزم البنوك والقطاع المصرفي التعاملَ بالريال السعودي بدلًا من الدولار فيما يتعلق بالحوالات، مُرجعًا السببَ الرئيسي الذي دفع لتنفيذ هذا التعميم، إلى انخفاض الحوالات الخارجية بعد تصنيف "الحوثيين" جماعة إرهابية، من وزارة الخارجية الأمريكية.
وتتخذ غالبية البنوك والمصارف العاملة في اليمن من صنعاء مركزًا رئيسيًّا لإدارة عملياتها المالية والمصرفية، إذ يتكون القطاع المصرفي اليمني من 17 بنكًا، منها أربعة بنوك إسلامية، ويتسم السوق المصرفي بالتركز، حيث تسيطر ثلاثة بنوك على أكثر من 50% من إجمالي أصول وودائع البنوك، وهي: بنك اليمن الدولي، وبنك التضامن الإسلامي، وبنك التسليف التعاوني الزراعي. وتمتلك خمسة بنوك حوالي 73% من إجمالي فروع البنوك في البلاد.
يشدّد ناجي على أن جمعية البنوك ناشدت مرارًا وتكرارًا طرفَي الصراع بضرورة تحييد القطاع المصرفي والاقتصاد بشكل عام، والنأي به عن التجاذبات السياسية الدائرة.
كتلة نقدية كبيرة وأزمة سيولة
في السياق، حصلت "خيوط" على معلومات من مصادر مطّلِعة، تفيد أنّ لدى سلطة صنعاء كتلة نقدية كبيرة من العملة السعودية، تسعى بكل الطرق إلى ضخها للتداول في سوق الصرف بصنعاء ومختلف مناطق نفوذ "الحوثيين"، لأسباب غير معروفةٍ بالضبط أغراضُها، إذ يأتي ضخ هذه الكتلة النقدية بالتزامن مع عمليات سحب متواصلة للدولار الأزرق، وفق هذه المصادر المطلعة، خصوصًا بعد قرارها وقف التعامل بالطبعات القديمة للدولار الأبيض، في ظل كثير من التساؤلات عن مصير هذه الكتلة النقدية من الدولار للطبعتين، سواء التي تم إيقاف التعامل بها، أو تلك التي يتم تداولها قبل فرض الريال السعودي في عديدٍ من التعاملات المالية والمصرفية.
تبرز في هذا الخصوص، كثيرٌ من الذرائع التي يتم التحجج بها؛ كتغطية الشحة القائمة في السيولة للعملة المحلية، الريال اليمني، من مختلف الأوراق النقدية، بالنظر إلى المشكلة الواسعة التي تخلّفها باستمرار تقادمُ الأوراق النقدية المتداولة لجميع الفئات، حتى الفئات الكبيرة مثل 1000 ريال، إضافة إلى تلف معظم الأوراق النقدية من الفئات الصغيرة، التي أصبحت مندثرة وغير صالحة للاستخدام والتداول، يأتي ذلك مع مرور أكثر من 12 عامًا من تداول أسواق هذه المناطق عملةً جديدة مطبوعة، في الوقت الذي ترفض فيه سلطة صنعاء قبول أي فئة من الأوراق النقدية التي طبعتها الحكومة المعترف بها دوليًّا؛ الأمر الذي فاقم من أزمة السوق النقدية في مناطق نفوذ "الحوثيين"، وانعكس ذلك في تدهور العملة المحلية التي فقدت قيمتها، حيث ساهمت مثل هذه الإجراءات والسياسات التي يغذّيها الصراعُ القائم بين الطرفين، في تجزئة العملة الوطنية، وانتشار نظامين مختلفين للتداول النقدي والتعاملات الاقتصادية والتجارية والمصرفية.
يعتقد الباحث الاقتصادي، رشيد الحداد، في حديثه لـ"خيوط"، أنّ الإجراء كشف عن وجود كتلة نقدية ضخمة من العملة السعودية في السوق اليمني، وهذا الإجراء جاء في أعقاب وقف التعامل بالدولار الأبيض (الطبعات القديمة)؛ كون التعامل بالعملات القديمة من الدولار، فتح الباب أمام التلاعب بأسعار صرف العملة الأجنبية، تحت ذريعة أن تلك العملات قديمة، وتفعيلُ البنك في صنعاء وحدة التعاملات بالنقد الأجنبي، يأتي في إطار ضبط السوق، والحفاظ على الكتلة النقدية الأجنبية من التسريب.
وفقًا للبيانات الصادرة عن البنك المركزي قبل الحرب، عام 2014، فقد بلغ حجم الودائع ذات العائد في البنوك قرابة (2.2) تريليون ريال، حيث كانت تدرّ عوائد للمودعين بحوالي 230 مليار ريال سنويًّا، تستفيد منها مئات الآلاف من الأُسَر، في حين تؤثر مثل هذه القرارات والإجراءات التي يتم اتخاذها من فترة لأخرى بشكل كبير على معيشة المواطنين وتلك الأُسَر، وتدفعها إلى الفاقة والفقر.
خلال الفترات الماضية انتهجت البنوك طريقة "تقشُّفية"، يرجع سببها إلى السيولة وتأثير عديد من القرارات الصادرة من السلطات الحاكمة، منها مبلغ شهري محدد لا يتجاوز 40 ألف ريال للسحب من الودائع، في حين تتركز الصعوبة في سحب مبالغ كبيرة من الودائع أو غيرها من المعاملات والتحويلات المصرفية بالدولار الأمريكي.
سياسات تفاقم معيشة المواطنين
وفق تحليلات سياسية ومصرفية، فإنّ ممارسات البنك المركزي في صنعاء والبنوك الأخرى حول التلاعب بفارق سعر العملة، تعطي رسالة سلبية وغير مسؤولة للتجار، بأن سعر الصرف السائد في مناطق صنعاء ليس حقيقيًّا، وأن سعر الصرف في مناطق سلطة عدن هو السعر الفعلي، وعليهم تقييم أسعار السلع وفقًا لذلك السعر، وهذا ما يفسر الارتفاع المستمرة للأسعار، رغم الثبات النسبي لسعر الصرف.
انتقادات واسعة تُوجّه لسياسات وإجراءات "بنك صنعاء"، التي يرى كثيرون أنها تفاقم اختلالات القطاع المصرفي، وتؤدي إلى مزيد من التآكل للعملة التي فقدت قيمتها بشكل كبير في مناطق نفوذ "سلطة صنعاء"، إذ يشير محللون ومسؤولون مصرفيون إلى القيود التي فرضها "بنك صنعاء" على البنوك، من خلال "قانون التعاملات الربوية" وما تلاه من إجراءات وقرارات ساهمت في فرض المزيد من التعقيدات أمام البنوك التي تضيق مساحة عملها بشكل كبير.
منها، على سبيل المثال، الصعوبة البالغة التي تواجهها البنوك في السحب النقدي من أرصدتها لدى البنك المركزي في صنعاء، إذ إنّ عليها إضافة نفس المبلغ الذي يريد أيّ بنك سحبه، حيث أصبح البنك المركزي يتقاسم الأرصدة المحفوظة لديه للبنوك وصناديق التقاعد، على قاعدة التلاعب بفارق سعر العملة.
يرى خبراء اقتصاديون ومصرفيون مثل هذه الإجراءات، صورةً بشعة من المراباة والاستغلال، والتربح المفرط من أموال وأرصدة البنوك، إلى جانب أن البنك المركزي باعتماده سعر الصرف السائد في مناطق سلطة، يجعل سعر الصرف السائد في مناطق سلطة صنعاء غير حقيقي، وهذا يتناقض مع مهام وسياسات البنك الهادفة إلى استقرار سعر الصرف، وعدم تدهور سعر الريال مقابل العملات الأجنبية.
مع تقدم الصراع، تطور الاقتصاد اليمني بشكل متزايد إلى اقتصاد مزدوج بحكم الأمر الواقع، حيث تعمل كلٌّ من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، والحوثيين، باقتصادات وطنية منفصلة. يتجلى هذا الانقسام بشكل واضح، في انقسام سعر الصرف في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، ومناطق الحوثيين.
كما تُوجَّه كثيرٌ من الانتقادات للبنك المركزي الحكومي في عدن؛ بسبب "الطباعة النقدية المفرطة، وعديد من السياسات والإجراءات التي يتخذها وكان لها تبعات بالغة في تدهور العملة المحلية وسعر صرف الريال في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، في ظل قدراته الضعيفة في السيطرة على السوق النقدية ووضع حد للمضاربة التي تمثل أحد أهم أسباب تدهور وانهيار العملة المحلية.
الخبير الاقتصادي والمالي، أحمد شماخ، يؤكّد لـ"خيوط"، أنّ مختلف هذه المشكلات والأزمات في القطاع المصرفي سببها الرئيسي الانقسامُ الحاصل في اليمن، الذي أدّى إلى هذه التشوهات في سوق الصرف، وخروج كتلة نقدية كبيرة يتم تداولها خارج إطار الجهاز المصرفي، كما تسبّب ذلك بتفاقم معاناة اليمنيين، خصوصًا الموظفين، مع انقطاع مرتباهم منذ سنوات بفعل هذا الصراع والانقسام الذي يعتبر أكبر مشكلة تعاني منها اليمن.
شظايا انقسام السياسة النقدية والعملة
يقول البنك الدولي، في تقرير صادر العام الماضي 2023، إنّ انقسام السياسة المالية والنقدية، من التحديات الاقتصادية ذات التداعيات الأكبر من بين جميع التحديات الاقتصادية التي يخلفها الصراع، إضافة إلى تدفقات النقد الأجنبي وتسييل العجز المالي.
كانت الحكومة المعترف بها دوليًّا، قد نقلت مقر البنك المركزي إلى عدن عام 2016، وحينها أصبح البنك المركزي اليمني في عدن، في حقيقة الأمر، مؤسسة مشكّلة حديثًا، تمتلك إمكانية الوصول إلى الأسواق والأدوات النقدية، لكنها تفتقر إلى السيولة الكافية من النقد الأجنبي. وفي الوقت نفسه، ظلت صنعاء التي سيطر عليها "الحوثيون" المركزَ المصرفي والتجاري لليمن، واستفادت من تدفقات التحويلات المالية ومدفوعات وكالات المعونة المنفذة عبر النظام المصرفي الرسمي؛ كون عدد السكان الذين يعيشون في مناطق "الحوثيين" أكبر من عددهم في المناطق الأخرى.
في مواجهة الضغوط المالية المتزايدة، لجأت الحكومة المعترف بها دوليًّا إلى التسييل النقدي للعجز المالي. وضع انهيار إنتاج النفط وصادراته في عام 2015، المركزَ المالي والنقدي لليمن تحت ضغط كبير، وتدهور الميزان المالي العام للبلاد. ومع تحول السلطات بشكل متزايد إلى التمويل النقدي، ارتفعت استحقاقات البنك المركزي اليمني في عدن على الحكومة المعترف بها دوليًّا، بمتوسط 36% سنويًّا، في حين ارتفعت العملة المتداولة بنسبة 24%، كما استنفدت احتياطيات العملة الصعبة بسرعة، مما دفع البنك المركزي إلى التخلي عن الدولار بوصفه مرجعية، وتدهور استقرار الاقتصاد الكلي في ظل التضخم السريع وانخفاض قيمة العملة.
مع تقدم الصراع، تطور الاقتصاد اليمني بشكلٍ متزايد إلى اقتصاد مزدوج بحكم الأمر الواقع، حيث تعمل كلٌّ من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، والحوثيين، باقتصادات وطنية منفصلة. يتجلى هذا الانقسام بشكل واضح، في انقسام سعر الصرف في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا، ومناطق الحوثيين.
بالإضافة إلى ذلك، أدّى انخفاض قيمة العملة دورًا رئيسيًّا في الأزمة الإنسانية المتفاقمة في اليمن؛ فقد زاد متوسط تكلفة الأغذية الأساسية، التي يؤكد تحليل عوامل التضخم للبنك الدولي، أنّ انخفاض قيمة الريال لعب دورًا رئيسيًّا في ارتفاع تكلفة المعيشة بشكل كبير في اليمن، مع اعتماد البلاد الكلي على الواردات، وانتشار التسعير القائم على سعر الصرف، والفقدان التدريجي للثقة في العملة المحلية.