ترجمات
مقال جريجوري دي جونسون(*)
لا تملك السعودية سجلًا طيبًا فيما يخص الانحياز إلى طرف ضد طرف آخر في اليمن. ففي العام 1962 دعمت الملكيين-وكان ذلك نتيجة هواجس القلق التي انتابتها من الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومن الثورات الجمهورية التي كانت تجتاح المنطقة حينئذ- بقيادة آل حميد الدين، وهم عائلة ملكية تنتمي إلى المذهب الزيدي الذي يعد فرعا للإسلام الشيعي. ولكن بعد مرور ثمان سنوات، وبعد توقف الاحتراب الأهلي، وجد آل حميد الدين أنفسهم منفيين في الخارج، فيما سيطر الجمهوريون على الدولة في صنعاء.
وفي العام 1994 مدت المملكة العربية السعودية يد العون للاشتراكيين الجنوبيين في محاولة الانفصال الفاشلة التي قاموا بها من جنوب البلاد. وكان دافع السعوديين هذه المرة أنهم كانوا لا يزالون غاضبين من موقف الرئيس السابق علي عبد الله صالح المؤيد للدكتاتور العراقي صدام حسين، خلال الأزمة التي قادت إلى حرب الخليج الثانية 1990-1991.
بعد ذلك بعقدين شعرت السعودية بمخاوف من تنامي النفوذ الإيراني، ومن احتمال ظهور جماعة شبيهة بحزب الله اللبناني، على حدودها الجنوبية. فقادتها مخاوفها تلك إلى شن عمليات عسكرية ضد جماعة الحوثيين. واليوم، بعد مضي ثمانية أعوام على ذهاب السعودية إلى القتال في اليمن، ها هي تبحث لنفسها عن مخرج.
الجدول الزمني المفرط في التفاؤل الذي وضعته السعودية، واستراتيجيتها البائسة في الحرب، كانا نتيجة لتشخيص الوضع في اليمن تشخيصًا خاطئًا. وهو شيء يشبه ما يجري الآن
ابتداء من أكتوبر/ تشرين الأول 2022، أي منذ انتهاء الهدنة التي تمت برعاية الأمم المتحدة، أجرت السعودية محادثات أحادية الجانب في عمان بهدف التوصل إلى اتفاقية دائمة مع الحوثيين، واستبعدت إلى حد كبير الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا من هذه المناقشات. بعدئذ، أعلنت الصين، في 10 مارس/ آذار، رعايتها لتوقيع صفقة بين السعودية وإيران تقضي بإعادة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين.
تعهدت إيران، باعتبار ذلك جزءًا من الصفقة، بإيقاف تشجيع الحوثيين على تنفيذ هجمات صاروخية عابرة للحدود على المملكة العربية السعودية، وكذا وضع حد لتهريب شحنات الأسلحة السرية إلى الجماعة. ومن ناحيتها وافقت السعودية على التخفيف من نبرة خطاب "إيران انترنشونال"، القناة الفضائية الناطقة بالفارسية التي يُعتقد أن السعوديين يقفون وراءها.
في السياق ذاته قال مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة إن الصفقة ستعبد الطريق لإنهاء الحرب في اليمن، وهي النغمة نفسها التي رددها المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن هانز غروندبرغ أمام مجلس الأمن الدولي بعد ذلك بأيام.
ذلك بالضبط هو ما تراهن عليه المملكة العربية السعودية؛ أن تعقد صفقات ثنائية، في الوقت الذي تزيح فيه ملف اليمن ليحتل درجة ثانية من الأهمية، كما لو كانت سائقًا يكتفي بمتابعة حادث ما عبر مرآته الأمامية. وفي الواقع، وبعد كل شيء، هذا النهج كان قد نفع ولي العهد محمد بن سلمان في الماضي. فهو كان يقع في الخطأ، ثم يفلت من العواقب، ما جعله يبدو محصنا من آثارها. وهذا انطبق عليه بعد عملية الريتز كارلتون، كما انطبق عليه بعد الاستقالة الإجبارية لرئيس الوزراء اللبناني( سعد الحريري)، أو حتى بعد قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي.
محمد بن سلمان لديه خطط طموحة للتنمية الاقتصادية في المملكة، ابتداءً بـ "نيوم"، المدينة المستقبلية المخطط تشييدها في السعودية، مرورا بالخطوط الجوية الجديدة، وصولا إلى ترجمة الثروة النفطية في البلاد إلى نفوذ سياسي. لكن إنجاز كل ذلك يجعل السعودية بحاجة إلى بيئة أمنية مستقرة. وهذا يساعدنا على فهم الأسباب التي دفعت محمدًا إلى عقد صفقة مع إيران، وإجراء محادثات مع الحوثيين.
الاستراتيجية البائسة
وفي ما يظهر، لدى محمد بن سلمان أيضًا اعتقاد بأنه، في عهد "التنافس الاستراتيجي" (1)، يمكن للسعودية أن تكسب من إيقاع الولايات المتحدة بالصين، أي من ضرب إحداهما بالأخرى، أكثر مما تستطيع أن تكسبه من الاصطفاف إلى جانب شريك واحد بصفة دائمة، كما كانت تفعل في الماضي.
تراهن السعودية على أن عقد صفقات مع إيران والحوثيين سوف تسمح لها بتخليص نفسها من الورطة في اليمن. وهذا في أحسن الأحوال نظرة قصيرة المدى. مثل هذه الصفقات لن تنهي الحرب الأهلية اليمنية التي تجري من تحت إلى تحت، وهي الحرب الأكثر أهمية
وقد صرح بعض المسؤولين السعوديين لمجلة "وول ستريت جورنال" قائلين إن محمد بن سلمان يعتقد أن هذا النهج "سيضغط على واشنطن، وسيدفعها في نهاية المطاف لتلبية مطالب المملكة المتعلقة بالحصول على مزيد من الأسلحة والتكنولوجيا النووية الأميركية". من سوء حظ المملكة العربية السعودية أن اليمن قد تبرهن على أن المغادرة منها ليس بالمهمة اليسيرة.
على غرار امتلاكها سجلا بائسًا فيما يتصل بدعم طرف ضد طرف في الحروب الأهلية اليمنية، كافحت الرياض كثيرًا لكي تفهم الصراع الحالي في اليمن كما ينبغي. قبل أن تدشن عملياتها العسكرية ضد الحوثيين في مارس/ آذار 2015، كانت تقول باستمرار لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما إن حرب استئصال شأفة الحوثيين لن تستغرق أكثر من ستة أسابيع. بعد ذلك، ما إن اتخذت السعودية قرار الحرب حتى ركنت بصورة حصرية تقريبًا إلى الضربات الجوية، معتقدة-وهي مخطئة بالطبع- أن القوة الجوية وحدها كفيلة بإخراج الحوثيين من صنعاء.
الجدول الزمني المفرط في التفاؤل الذي وضعته السعودية، واستراتيجيتها البائسة في الحرب، كانا نتيجة لتشخيص الوضع في اليمن تشخيصًا خاطئًا. وهو شيء يشبه ما يجري الآن. السعودية تنظر إلى اليمن فلا ترى إلا حربًا واحدة، بينما الحقيقة أن هناك ثلاث حروب؛ الحرب التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم القاعدة وضد الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، والصراع الإقليمي بين السعودية وإيران، وكذلك الحرب الأهلية اليمنية المحلية. كل واحدة من هذه الحروب الثلاث لها أسبابها ومساراتها المختلفة، وما يفيد في إنهاء واحدة لن يفيد في إنهاء الأخرى.
الخروج من الصراع
تراهن السعودية على أن عقد صفقات مع إيران والحوثيين سوف تسمح لها بتخليص نفسها من الورطة في اليمن. وهذا في أحسن الأحوال نظرة قصيرة المدى. مثل هذه الصفقات لن تنهي الحرب الأهلية اليمنية التي تجري من تحت إلى تحت، وهي الحرب الأكثر أهمية. فالحوثيون لن يتوقفوا عن قتال أعدائهم في الداخل اليمني، بغض النظر عن أي صفقة يبرمونها مع المملكة العربية السعودية. وهذه الحقيقة تمثل خطرًا داهمًا بالنسبة إلى المملكة التي من الممكن أن تجد نفسها منجرة بسهولة إلى التورط مجددًا بالصراع في اليمن.
ماذا سيحدث في حال سحبت السعودية كتائبها وغطاءها الجوي من مأرب، وتمكن الحوثيون وقتئذ من السيطرة على المحافظة بما فيها من حقول نفط وغاز، وهي الحقول التي يسيل عليها لعابهم منذ سنوات؟ ماذا لو تحرك الحوثيون جنوبًا باتجاه شبوة (هي الأخرى تتوفر فيها حقول نفط وغاز) وسيطروا عليها، وبذلك يقطعون الارتباط بين حضرموت وعدن، ما سيجعل وجود يمن جنوبي مستقل مستحيلًا من الناحية الجغرافية؟. في آخر مرة حدث ذلك، في يناير/ كانون الثاني 2022، أُجبرت دولة الإمارات العربية المتحدة على التدخل، فحركت بعضًا من قواتها بالوكالة إلى شبوة لدحر الحوثيين. هل سيحدث ذلك كرة أخرى؟ وإن حدث هل ستكون السعودية قادرة على البقاء متفرجة من الخطوط الجانبية؟.
في أعقاب الانسحاب السعودي، من المرجح أن القتال بين الحوثيين وبين ما تبقى من قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا سيستمر، بل من المرجح أنه سيشتد. وفي مثل هذا السيناريو، وعلى الأخص إذا شرع الحوثيون بالاستيلاء على مناطق، ستجد السعودية نفسها مجبرة على الدخول في الصراع مرة أخرى. فهي تتشارك مع اليمن حدودا طويلة، وهناك فرق بين دولة حوثية في الشمال وبين يمن موحد يسيطر عليه الحوثيون.
السعودية مستميتة على الخروج من اليمن، وهذا أمر يمكن فهمه وتبريره. لكن الرهان على أن إنهاء الحرب الإقليمية(2)، في اليمن سوف ينزع بطريقة ما فتيل الحرب الأهلية فيها هو رهان سيء بدون أدنى شك.
هوامش:
(*) جريجوري جونسون زميل غير مقيم في معهد دول الخليج العربي في واشنطن، وعضو سابق في هيئة خبراء الأمم المتحدة بشأن اليمن، ومؤلف كتاب "اللجوء الأخير، اليمن، القاعدة، والحرب الأميركية في شبه الجزيرة العربية"
(1) مصطلح أطلقه مؤخرًا بعض الباحثين السياسيين والاستراتيجيين الأميركيين على طبيعة العلاقة التي تحكم الولايات المتحدة وجمهورية الصين الشعبية.
(2) يقصد الحرب بينها وبين إيران. وهي إحدى الحروب الثلاث التي أشار الكاتب قبلُ إلى أنها تخاض في اليمن.
للاطلاع على المقالة الرئيسية:
https://agsiw.org/saudi-arabias-big-bet-in-yemen/