"التابو" الجديد في صنعاء

جماعة مستبدة حوَّلت الجوع إلى فضيلة!
محمد الكرامي
September 14, 2023

"التابو" الجديد في صنعاء

جماعة مستبدة حوَّلت الجوع إلى فضيلة!
محمد الكرامي
September 14, 2023
.

في منتصف العام 2014، شنّت جماعة أنصار الله (الحوثيين) حملة إعلامية موسعة على حكومة باسندوة التي رفعت في تسعيرة النفط، ودعت بثورة على الحكومة، محرّضةً على إسقاطها عبر شعارات ولافتات وخُطب رنانة لزعيم الجماعة. ولكن بعد سنوات قليلة من انقلابها على الدولة وتسلمها زمام الحكم، تحول الجوع إلى فضيلة؛ حيث أزاحت شعارات أبي ذر الغفاري الثائرة على الجوع من جدران العاصمة، وأحلّتْ محلها ملصقاتها الدينية التي تمتدح الصبر والزهد والافتقار، وتزايد انتشارها تدريجيًّا مع استمرار انعدام الرواتب وتفاقم أعداد المتسولين.
تكشف التداعيات البصرية للملصقات على الجدران واقعَ الحياة اليومية في صنعاء؛ إذ تتشكّل مشهدية المدينة من المفارقات البصرية للخطاب السياسي. ويمكن رصد التحول في الخطاب الحوثي بملصقات من العام 2014 ضد الدولة من قبيل: "عجبت ممن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه"، وفي العام 2019 صارت ملصقات الجماعة: "لا خير فيمن يسعى وراء الخبز والغاز، ويتقاعس عن جبهات الشرف والعزة والكرامة".

فزع الجوع

في السنوات الأخيرة، تحول "الجوع" إلى تابو جديد يُمنع الحديث عنه أو الإشارة إليه في صنعاء، ومن اللافت أن سلطة "الحوثي" تسامحت في البداية مع تحول نبرة اليوتيوبر مصطفى المومري في نقده للفساد في النيابة العامة والقضاء، إلا أنها ألقت القبض عليه بعدما قال بالصوت والصورة إن الناس جائعون في صنعاء، دون اعتبار للتحشيد الإعلامي الذي قام به المومري لصالحها منذ بداية الحرب، لا سيما مع اشتداد المعارك في جبهة مأرب، وتبنيه خطاب الجماعة العنصري تجاه المرأة خصوصًا.

وتزامنت حملة الاعتقالات ضده مع بقية زملائه الناشطين على اليوتيوب: أحمد حجر، وأحمد علاو، وحمود المصباحي، على خلفية انتقادهم الفساد والجوع، ونسبت لهم اتهامات مفبركة، من بينها أنهم أذاعوا أخبارًا وبيانات وإشاعات كاذبة بغرض تحريض الناس على الفوضى والخروج إلى الشوارع واقتحام الوزارات، كما حوكموا غيابيًّا.

وفي نهاية العام الماضي، نشر الناشط حمدي المُكحَّل العديدَ من الفيديوهات التي تندد بالتجويع الممنهج من سلطة أنصار الله (الحوثيين)؛ مستخدمًا نفس الخطاب الذي استخدمته جماعة الحوثي ضد الدولة في 2014، إلا أنه في غضون أيام وُجد مقتولًا، وهو ما أثار غضبًا شعبيًّا في مسيرة شيعت جنازته وهتفت بإسقاط الحوثي، وأعلنت سلطة الحوثي في إب عن انتحاره من دون التحقيق في ملابسات الجريمة إلى اليوم.

خلال سنوات، عمدت المنظمات الإنسانية إلى تصوير الحرب في اليمن ككارثة إنسانية، أو بوصفها أسوأ أزمة غذاء عالمية، وهو نتيجة فصل الأمم المتحدة للملف السياسي عن الملف الاقتصادي باستمرار تقديم المساعدات الإنسانية إلى اليمن، مع عدم الاكتراث فيما يتعلق بشروط فك الحصار عن مدينة تعز والاعتقالات القسرية ومختلف الانتهاكات، وصولًا إلى التجويع.


ومع استمرار سياسة التجويع، أصبح الناس يتدافعون إلى نقاط توزيع الصدقات والزكاة، ولكن حتى هذه الأخيرة قد منعها الحوثيّون، إذ فرضت الهيئة العامة للزكاة التابعة لسلطة الجماعة، على التجار والجهات الخيرية المختلفة عقوبات صارمة على مَن يقوم بتوزيع الزكاة وأية مساعدات خيرية؛ كي تُجمعَ أموالُ الزكاة من التجار إلى الهيئة الحوثية نفسها، ويتم الصرف عبرها. وتأتي جريمة "التدافع" في20 أبريل/ نيسان الماضي بصنعاء، التي راح ضحيتها 85 يمنيًّا على الأقل، وأُصيب أكثر من 322، بملابساتها الغامضة، إدانةً صارخة للحوثيين، على الرغم من أن السلطات وجهت جريمة تجويع الناس إلى مجرد حادثة تدافع.

التجويع والترويع
مع توغل شبح الجوع، أعلن نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين، وهي نقابة تمثل كل التربويين الذين يعملون في التعليم العام في اليمن، الإضرابَ الشامل في 20 يوليو/ تموز الماضي، في عموم مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين) حتى تستجيب الجماعة لمطالبهم. لكن سلطة الجماعة في صنعاء لوّحت أمام المطالبين بصرف الرواتب بالهراوة واتهامهم في العقيدة؛ إذ نفذت السلطات عمليات اعتقالات واسعة للمعلمين والمشاركين في الإضراب في مناطق كثيرة، وتصاعدت حملة دينية اتهمت المطالبين بالرواتب في عقيدتهم؛ ففي خطبة مفتي الديار اليمنية، رئيس هيئة علماء اليمن في صنعاء، يقول: "يتحدثون عن الرواتب، أنت تفسد عقيدة الناس، تفسد أفكار الناس، تصيب عقيدتهم".

في سياق متصل، يتهم أحد خطباء جماعة الحوثي في المسجد مَن يطالبون برواتبهم، بالخيانة والتفاهة والفساد، في فيديو أثار جدلًا واسعًا في أوساط الآلاف من متابعي ومرتادي شبكة التواصل الاجتماعي في اليمن.
ومع اقتراب ذكرى المولد النبوي، وهي المناسبة التي تشهد إهدار الملايين الضخمة من أموال الشعب، كتب الصحفي (مجلي الصمدي) تغريدة يقول فيها: "حقي وراتبي قبل النبي؛ النبي مش محتاج لي، أنا محتاج لراتبي"، ولكن ما كتبه قوبل بالضرب المبرح والاعتداء عليه من قبل مسلحين من سلطة أنصار الله (الحوثيين)، وبرغم الجريمة البشعة، نشر حسين العزي، نائب وزير الخارجية، تغريدة محذّرًا إياه من النشر مجددًا وعواقب عدم حذف التغريدة السابقة.

شرعنة الجوع

خلال سنوات، عمدت المنظمات الإنسانية إلى تصوير الحرب في اليمن ككارثة إنسانية، أو بوصفها أسوأ أزمة غذاء عالمية، وهو نتيجة فصل الأمم المتحدة للملف السياسي عن الملف الاقتصادي، باستمرار تقديم المساعدات الإنسانية إلى اليمن مع عدم الاكتراث فيما يتعلق بشروط فك الحصار عن مدينة تعز، والاعتقالات القسرية، ومختلف الانتهاكات، وصولًا إلى التجويع. ولكن الأسوأ من ذلك، هو أن الخطاب الحوثي يتعمد نقل صورة مختلفة عن الوضع في المدن الواقعة تحت سيطرته؛ حيث تتولى أجهزته الإعلامية الإنكار والترويج للعالم بأنهم مكتفون زراعيًّا على الرغم من أنه مجهود فردي محدود لبعض المزارعين من جهة، ومن جهة أخرى تتولى أجهزته الأمنية التكتيم وقمع الناس عن الحديث أو المطالبة برواتبهم؛ فإنّ الجوع اليوم لم يعد ناتجًا عن الحرب، بل أصبح أسلوبَ حكمٍ في صنعاء يتم تبريره وتشريعه دينيًّا وعقائديًّا؛ وبالتالي قمع كل مَن يعترض أو يعارض سياسة التجويع.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English