في متجر صغير بصنعاء، يعود لحِقبة السبعينيات، يرتب أحد التجار الأقمشة التي تتكدّس منذ أشهر على الرفوف، بسبب تراجع حركة البيع والشراء، وسط تدهور معيشي واقتصادي كبير للسكان خلال الفترة الماضية.
يقول مالك المتجر المتهالك، لـ"خيوط": "لم يعد لدى المواطن من المال ليشتري، لهذا نعاني من حالة كساد غير مسبوقة".
وتابع: "تراجعت القدرة الشرائية للمواطن -بشكل كبير- خلال الأشهر الماضية، ولا أعلم كيف سأتمكن من دفع إيجار المحل نهاية هذا الشهر".
ويعيش سكان صنعاء، مثل عموم المناطق اليمنية؛ تحت وطأة أزمة اقتصادية خانقة في مدينة يقطنها أكثر من أربعة ملايين ونصف المليون شخص، معظمهم يعيشون تحت خط الفقر، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
رسوم وجبايات
في حي الصافية بصنعاء، يشكو أحد مالكي الأفران من التسعيرة الجديدة التي فرضها الحوثيون على أصحاب المخابز، موضحًا أنّه تكبّد خسائر فادحة خلال الأشهر التسعة الماضية.
وقال: "صباح كل يوم يأتي فريق من مكتب التجارة في المديرية، لغرض الوزن، وإن حدث خطأ غير مقصود يتم عمل إشعار بمبلغ ثلاثين ألف ريال. وبعد مكتب التجارة والصناعة تأتي الصحة والبلدية".
وأرغم الوضع الاقتصادي المتدهور العديدَ من الأسر على التقشف في ظل أزمة غذاء وشيكة في بلد يعاني ثلثا سكانه (الثلاثون مليونًا) من الجوع الحاد.
تضخم وانهيار
الخبير الاقتصادي، غمدان دغيش، قال لـ"خيوط": "إنّ اليمن تصنف من ضمن الدول منخفضة الدخل، وبالكاد يغطي الفرد احتياجاته الأساسية". موضحًا أنّ نسبةً كبيرة من السكان يعيشون تحت خط الفقر، وقد أثرت الأوضاع الحالية على هذا المستوى من الدخل المنخفض أصلًا من ناحيتين، كلٌّ منهما تعزز الأخرى، حيث تعيش البلاد حالة ما يعرف بظاهرة الركود التضخمي التي لم تكن متوقعة ما قبل سبعينيات القرن المنصرم، حيث سادت فكرة المقايضة بين التشغيل المرتفع والتضخم، بمعنى أنّ حالة التضخم كانت تترافق مع حالة الانتعاش الاقتصادي وانخفاض مستويات البطالة، ولم يكن من المتوقع حدوث الظاهرتين معًا.
وأكّد دغيش، أن البلاد دخلت في حالة من الركود الاقتصادي الحاد (الكساد) والتي تعزى إلى اختلالات كبيرة في كلٍّ من سوقي السلع والخدمات وسوق النقود؛ ففي سوق السلع والخدمات على سبيل المثال، زادت جوانب التسربات على جوانب الحقن، فمجموع الواردات والمدخرات والضرائب -التي تشكّل مكونات التسرب في الاقتصاد أكبر من مجموع الصادرات والاستثمار والإنفاق الحكومي الذي يشكل جوانب الإضافات في الاقتصاد، وهذا الاختلال يزيد من حالة الركود الاقتصادي.
دفعت هذه الظروف القاسية اليمنيين إلى خيارات متعددة، فباتت شوارع صنعاء تعج بالمتسولين، واستجداء الآخرين، وأصبح أكثر الناس بأمس الحاجة إلى المساعدة، وحاجاتهم تفوق قدراتهم المالية.
وأوضح بأن البلاد تعاني من أزمة سيولة كبيرة تشهدها، ليست ناتجة من انخفاض رصيد العملة، كما قد يظن الكثير، بل هي ناتجة عن انخفاض في العرض النقدي نفسه، مضيفًا: "العملة لا تشكّل سوى نسبة بسيطة من العرض النقدي، الذي تمثل النقود الائتمانية (نقود الودائع) نسبةً كبيرة منه، وكان حجم كبير من المعاملات الاقتصادية يتم من خلال هذا النوع من النقود، حيث أدّت الاختلالات إلى سحب العملة من الجهاز المصرفي الذي لديه القدرة على خلق النقود إلى شركات الصرافة التي ليس لديها القدرة على خلق النقود، ما أدّى إلى انخفاض حادّ في العرض النقدي، الذي بدوره ساهم في تعميق حالة الركود الاقتصادي الذي تعيشه البلاد، هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ ثانية تتمثل بالتضخم الذي أدّى إلى تآكل القوة الشرائية، لما تبقى من الدخل مما جعله أكثر انخفاضًا، وهناك أسباب عديدة أدّت إلى التضخم إلا أنّ السبب الرئيس لمشكلة التضخم الحاصل يُعزى إلى تدهور سعر الصرف مقابل الريال اليمني الذي كان له الأثر الكبير؛ نظرًا لاعتماد اليمن على نسبة كبيرة من استهلاكها على الخارج.
وأوعز ذلك إلى تدهور سعر الصرف الذي أدّى إلى ضعف أداء السلطات النقدية الناتج من انقسامها، وما ترتب عليه من ظهور سعرَي صرف لعملة واحدة.
وعانى اليمنيّون، على مدار عقود من حكم الرئيس السابق علي عبدالله صالح، من حروب وأزمات اقتصادية متلاحقة ناتجة عن سوء الإدارة، من جهة، وما شهدته البلاد من صراعٍ مسلحٍ على السلطة بين جماعة الحوثيين، والقوات الحكومية، المدعومة من التحالف العسكري الذي تقوده السعودية، منذ ما يقارب التسع سنوات، تسبّب بأسوأ أزمة إنسانية في العالم، بحسب الأمم المتحدة ومنظمات دولية.
ودفعت هذه الظروف القاسية اليمنيّين إلى خيارات متعددة، فباتت شوارع صنعاء تعج بالمتسولين، واستجداء الآخرين، وأصبح أكثر الناس بأمس الحاجة إلى المساعدة، وحاجاتهم تفوق قدراتهم المالية.
ركود كامل
قال أستاذ الاقتصاد في جامعة تعز، محمد القحطاني لـ"خيوط"، إنّ الحكومة لم تقم بأي خطوات لمعالجة التضخم الحاصل في السوق؛ نتيجة سوء إدارة الاقتصاد الكلي، الذي يعاني من مشكلات حقيقية في المتغيرات الكلية، كالتضخم وسعر الصرف، ونمو إجمالي الناتج المحلي، وبالتالي فإنّ البطالة تشكّل تحديًا كبيرًا للدولة، وأن الأخيرة لا تقوم بحل هذه المشكلات.
وعن الحلول، أوضح القحطاني، بأنه يجب العمل على تطبيق حزمة من الإصلاحات؛ أهمها توحيد سعر صرف الدولار الأمريكي، بحيث يكون هناك سعر واحد، وإلغاء كافة أسعار الصرف المعمول بها حاليًّا، وتعويم الدولار عند مستوى متوسط، وعدم صرف رواتب موظفي الدولة في الخارج بالدولار؛ وإلزامهم العودةَ إلى داخل البلاد، وتخفيض عدد السفارات والقنصليات والملحقيات العاملة في السلك الدبلوماسي اليمني، ما سيؤدي إلى توفير مبالغ كبيرة للخزينة العامة.
وأضاف: "يجب على الحكومة اتخاذ خطوات لمواجهة الفساد في الأوعية الإيرادية للدولة، وإصلاح مصافي عدن، والعمل على رفع الطاقة الإنتاجية لمصافي مارب، والتسريع بإنشاء مصافٍ في حضرموت، وإلغاء قرار تحرير المتاجرة بالمشتقات النفطية، وتفعيل شركة النفط وفروعها بالمحافظات، بحيث تعود للعمل كما كانت قبل الحرب، ومواجهة تهريب العملات الأجنبية خارج إطار الجهاز المصرفي، والحد من فوضى محلات الصرافة والتلاعب بأسعارها".
وفي السياق، قال محمد هايل، وهو خريج اقتصاد من جامعة تعز، إنه يعيش حالة قلق شديد من تكلفة النقل الذي ينعكس في النهاية على أسعار المنتجات. وأضاف محمد: "لم يكن الوضع مأساويًّا في السابق كما هو الآن؛ نظرًا للأزمة الاقتصادية وانهيار العملة، وسوء إدارة الخدمات، وتراجع التجارة الداخلية إلى ما دون الـ25%". وتابع: "إنّ الوضع الاقتصادي في البلاد لم يعد يفرق بين غني وفقير، وأن الطبقة المتوسطة في المجتمع لم تعد موجودة".
وأكّد أنّ سوء الوضع ونقص الحاجيات الأساسية لدى الناس، دفع جزءًا كبيرًا منهم لشراء السكر والدقيق والأرز بالكيلو أو لطلب المساعدة من المنظمات الدولية التي تقلص عملها بشكل كبير عما كان في سنوات الحرب الأولى.
مستقبل ضبابي
بالرغم من نجاح الهدنة التي ترعاها الأمم المتحدة -انتهت أوائل تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022 وتوسّطت فيها في نيسان/ أبريل 2022، دون أن يتوصّل أطراف النزاع إلى اتّفاق لتمديدها حتى الآن- لكنّ الوضع ظلّ هادئًا نسبيًّا على الأرض في خفض حدة الصراع المسلح، فإن الأزمة الإنسانية ما تزال تطحن أكثر ثلثي اليمنيين الذين يكافحون لتأمين لقمة العيش بعد قرابة تسع سنوات من الحرب المستعرة.