مع بداية العشر الأوائل من شهر ذي الحجة، حسب التقويم الهجري وحتى ثالث أيام التشريق، تمتلئ شوارع وأحياء العاصمة صنعاء، مثل بقية المدن، بالأعلاف والمواشي من أبقار وأغنام وماعز، في ظاهرة تتحول معها العاصمة إلى ما يشبه حظيرة واسعة، تتعالى فيها أصوات الحيوانات التي تعرض للتضحية، وتُفترش شوارعها بالأعلاف وروث البهائم، وتزاحم فيها المركبات والمشاة، وتختلط كل هذه الأصوات مع أصوات التكبير والتهليل المنبعثة من العربات والمحلات في الأسواق.
دم وأذى
مع أول أيام عيد الأضحى، العاشر من ذي الحجة، وما يليه من أيام التشريق الثلاثة، يتزاحم الناس في صنعاء، كبقية المسلمين في أنحاء العالم، لشراء وذبح الأضاحي، في تجسيدٍ للسُّنّة، لكنها في صنعاء أخذت منحى آخر يحرفها عن مسارها الذي كان الغاية منه التقرب إلى الله، والتوسعة على بعضهم، وإعفاء الفقراء والمساكين من حاجة السؤال والطلب.
محمد الجرموزي، تحدث لـ"خيوط"، عن معاناة سكان الحي الواقع في نقم بجانب حديقة (برلين)، قائلًا: "اكتظ الشارع المجاور لسوق نقم المركزي بالأبقار والأغنام والماعز، للحدّ الذي أعاق حركة مرور سكان المنطقة، علاوة على مخلفات وقاذورات المواشي التي جلبت الحشرات بشتى أنواعها".
ويضيف الجرموزي: "مشاهد لا تقتصر على شارع أو حي في عاصمة البلاد، بل باتت هي الصورة العامة للمدينة، والوجه القبيح الذي يتعارض كليًّا مع العيد بوصفه مناسبة للبهجة والخروج للتنزه برفقة العائلة والأصدقاء، خاصة أنّ الوضع زاد سوءًا مع أول أيام العيد، حيث عمد الكثير من الجزّارين، والمضحين إلى ذبح أضاحيهم في الشوارع ورمي أحشائها على جوانب الطرقات، ولنا أن نتخيل بشاعة الوضع وكارثيته، خاصة أننا نعيش صيفًا مشتعلًا!".
يشاطره الرأي عبدالله القيز، الذي تحدث لـ"خيوط"، بالقول: "لا أعرف كيف يفكر هؤلاء الذين بدلًا من أن يتقربوا إلى الله بفعل الخيرات في هذه الأيام المباركة، يشقون على الناس في ذهابهم ومجيئهم نتيجة ما يخلقونه من غوغائية تمس حياة السكان عامة، لكني بقدر ما أناشد في الناس وفي الجزارين روح الإسلام التي تحث على النظافة وعدم إيذاء الناس، والتي تعتبر إماطة الأذى عن الطريق صدقة، أتساءل عن دور الجهات المعنية التي تسمح بأن يخرج الأمر عن حدود السيطرة لدرجة تهديد الصحة العامة".
تتحول شعيرة الأضاحي إلى عبء صحي؛ بسبب سوء التنظيم والإدارة للجهات المعنية، إذ كيف يعقل أن يُترَك الحبل على الغارب، دون تنظيم وتحديد مواقع وعمل ضوابط تضع في الاعتبار الصحة العامة؟!
الحاج صالح المطري، من سكان شارع خولان، تحدث لـ"خيوط"، عن حادثة عنيفة وقعت معه شخصيًّا بسبب انتشار المواشي في الشارع وعلى جنبات الطريق، قائلًا: "خرجت يوم الثامن من ذي الحجة لشراء مكسرات العيد من شارع خولان، حيث تنتشر هناك محلات بيع الزبيب والمكسرات، وعلى حين غرة، هاجمني ثور كان قد فك وثاقه، ولولا لطف الله ثم تعاون عددٍ من الرجال في الإمساك به، لكان قضى عليّ".
ويتابع المطري: "أحد الحاضرين قال لي إن الثور نفسه كان قد تسبّب بأضرار بالغة بسيارة كانت واقفة بالقرب منه بالأمس، إذ ردع السيارة برأسه حتى هشم زجاج أحد النوافذ".
سوء تنظيم
بالرغم من التراجع الكبير في شراء أضاحي العيد بسبب الوضع المادي من جراء الحرب التي بلغت سنتها العاشرة، تراوحت أسعار الأضاحي بين 150 و250 دولارًا، وهو ما يقف حائلًا بينها وبين متناول الغالبية العظمى من الناس، وبالرغم من هذا الكساد، لا يعرف أسامة الحائطي، لماذا هذه الهرولة الكبيرة باتجاه تكديس العاصمة بالمواشي، لكنه يعتقد في حديث لـ"خيوط"، أنّ سبب هذه المشاهد المنفرة التي تساهم في انتشار الحشرات ومعها الأمراض والأوبئة، هو تقاعس الجهات المعنية من القيام بدورها على أكمل وجه، ويضيف الحائطي: "يضحّي المسلمون في مختلف بقاع الأرض، وهي شعيرة يتمسّك بها كل مقتدر مسلم، لكنها تتحول إلى عبء صحي في الحالة اليمنية؛ بسبب سوء التنظيم والإدارة للجهات المعنية في البلدية والمجالس المحلية وصندوق النظافة والتحسين، إذ كيف يعقل أن يُترك الحبل على الغارب دون تنظيم وتحديد مواقع وعمل ضوابط تضع في الاعتبار الصحة العامة، والوجه الحضاري لصنعاء، بصفتها مدينة وعاصمة للبلاد؟!"
يبلغ عدد عمّال النظافة في العاصمة صنعاء، قرابة 3200 عامل، راتب العامل منهم قرابة 50 دولارًا، يقفون أمام غزو الإسطبلات والقذارة التي تنطلق دفعة واحدة، وفي أيام يفترض أنها للراحة وللقاءات الحميمة بالأهل والأصدقاء، والتقاط الأنفاس- مكتوفي الأيدي، إذ ما الذي قد تفعله يد مكشوفة للمخاطر في ظل هذه القيامة التي كانت تحتاج لجهود الجميع لِلَجْمِ جماح تدهورها؟ العم محمد، عامل نظافة، يشكو لـ"خيوط"، المهام الملقاة على عاتقهم، خاصة في أيام الأعياد والمناسبات الدينية، منوهًا إلى أنّ ما يتقاضونه لا يغطي تكلفة زيارة واحدة للطبيب، مضيفًا: "للتو تعافيت من إسهال حادّ، تم تشخيصه بأنه كوليرا، ولولا لطف الله وتسخيره لي طبيب خير أعفاني من تكاليف الكشف والعلاج، لكان انتهى أمري تمامًا، وها نحن الآن وجهًا لوجه أمام هذا الهول الذي ظاهره التقرب إلى الله، لكن أبعاده قد تأتي علينا، كوننا نتعامل مباشرة مع هذه المخلفات دون أدنى حماية".
يقول مواطنون إنّ الأمر يمس صحتهم وسلامتهم، خاصة مع التمادي الملحوظ الذي استباح الشارع، بحجره وبشره وشجره، وحوّلَ المناسبةَ ومعها المدينة إلى حلبة (ماتادور) لمصارعة الأمراض والمخاطر المحتملة.
ردح سياسي
تنظر منى محمد، صحافية، إلى المشكلة من زاوية غير مطروقة كثيرًا، حيث ترى أنّ الإعلام يساهم بشكل أو بآخر في تفاقمها أو معالجتها، حيث تقول لـ"خيوط": "عند مواجهة أزمةٍ ما، إما أن يسلط الإعلام الضوءَ عليها للفت انتباه المعنيين لها، ووضعهم في موقف المساءلة العلنية، ومن ثمّ العمل على معالجتها، وإما تتخذ منها أطراف الصراع المسيطرة على وسائل الإعلام، وسيلةً للمناكفة والردح السياسي، وهو ما يحدث مع القضايا ذات الصلة الوثيقة بحياة الناس وسلامتهم".
وتتابع: "صارت الإشارة إلى الأزمات والمشاكل المتصلة بنا نحن المواطنين، محاولة للاصطياد بالماء العكر، وتشهير بسمعة هذا الطرف أو ذاك، بعيدًا عن المسؤولية الوطنية والأخلاقية للصحافة والإعلام".
"نحن -الصحافيين- نعاني من القولبة، ورمي التهم، والمجازفة بحياتنا في كل الأحوال، فيما لو رفعنا الـ(لا) بوجه هذا العبث، وهذا التهاون غير المسؤول ممن تقع عليهم مسؤولية الحفاظ على وجه المدينة الكبيرة بالشكل الذي يليق بها باعتبارها عاصمة سياسية وتاريخية لليمن"؛ تنهي محمد حديثها.
تحذير ورقي
على صعيد متصل، كان مدير فرع مؤسسة المسالخ بأمانة العاصمة، أحمد إدريس، قد أوضح في تحذير تم نشره في موقع 26 سبتمبر أنه تم تجهيز مسلخين رئيسيين في نقم ودار سلم لذبائح الأضاحي الكبيرة (أبقار وإبل) إلى جانب بقية المواشي، علاوة على تحديد سبعة مسالخ فرعية أخرى بمديريات الأمانة لاستقبال الأضاحي، مؤكدًا أنه سيتم تنفيذ حملات لضبط المخالفين؛ تصريح رسمي يرى فيه مواطنون أنه مجرد حبر على ورق، ولا صحة لأي حملات على أرض الواقع.
محمد الموقي، مالك ملحمة، يقول لـ"خيوط"، إنه يحرص على إزالة مخلفات مواشي ملحمته أولًا بأول، بمنأى حتى عن أي حملة، مضيفًا: "صحيح أني اضطررت إلى ربط عدد من المواشي التابعة لي في أشجار الرصيف الوسطي، لكني ملتزم تمامًا بالتنظيف وإزالة المخلفات بدافع ذاتي، مع العلم أني أستطيع التملص مثل غيري من أي التزام بإعادة الشارع لسابق عهده قبل موسم عيد الأضحى".
الموقي يشير إلى أنّ الشارع لم يكن أفضل حالًا قبل موسم الأضاحي، إذ إنّ الرصيف الوسطي كان مقرًّا لرمي النفايات التي يمر عليها عمّال النظافة بعد أن تكون القطط والكلاب قد نثرتها في أرجاء الشارع.
يقول مواطنون إنّ الأمر يمس صحتهم وسلامتهم، خاصة مع التمادي الملحوظ الذي استباح الشارع بحجره وبشره وشجره، وحوّل المناسبةَ ومعها المدينة إلى حلبة (ماتادور) لمصارعة الأمراض والمخاطر المحتملة.