تلاحقت سنوات الحرب العجاف على شعبٍ ظلّ منهكًا لمئات السنين، بضعف الدولة، وتسلط القبيلة، واستشراء الفساد، إلى حدٍّ لا يمكن تصوُّره. ومع تلاحق سنوات الحرب، تلاحقت عليه قسوة الجوع والأوبئة والحصار والنزوح القسريّ، ولم يكن ذلك فحسب، بل تبع ذلك كله إيقافُ صرف المرتبات لما يقارب 80% من موظفي الدولة؛ وهم الموظفون الذين يقطنون خارج نطاق الحكومة المعترف بها دوليًّا.
منذ العام 2016، تم نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، ومعه تم نقل أحلام الموظفين وأحلام من يعولونهم ولقمة عيشهم وأمنهم النفسيّ وكرامتهم؛ وبذلك تم دفعهم إلى حافة الهلاك والتشرُّد والجوع والموت، لقد فقدوا بذلك مصدر عيشهم وسكينتهم واستقرارهم، وصاروا بلا حول ولا قوة ولا ملجأ ولا حائط يستندون عليه.
لقد اختلّ وضعُ المجتمع كله بإيقاف المرتبات، وتوقف معظم الموظفين عن العمل، وبقيَ مَن بقي مِنهم يعمل بدوامٍ جزئيّ، وصارت تنقُّلاتهم لتأدية مهام عملهم على نفقتهم الخاصة يقتطعونها من خبز أولادهم وقوتهم الشحيح الذي بالكاد يُغطّي متطلبات الحياة الكريمة.
وعلى مدى سنوات من الانقطاع، صار الراتب حلمًا مفقودًا، بل صار الناس لا يحلمون بعودته مطلقًا، لقد طغى عليهم اليأس وسيطرت عليهم الخيبة، فتوقفوا عن الحلم بعودته، وتكيّفوا على سياسة قطعه اللاإنسانية، غير أنّ ثمة تحركات أيقظت لديهم الحلم من جديد، واستعادت لديهم الأمل.
إنّ تشعّب الأمل كتشعّب الألم، وهما معًا خلطة هذا الشعب السحرية المفضلة منذ ألف عامٍ ربما، وهي الألف عام التي سُحِقَت فيها هُويته وكينونته، وصار بلا وطنٍ فعليّ، بل صار أجيرًا لدى جماعات تعاقبت على حكمه والتسلط عليه وتهميشه ونهب ثرواته.
ثمّةَ مفاوضات -كما يشاع- تحدث في أروقة مغلقة يشوبها الغموض، وثمّةَ صفقات تحدث ككل الصفقات التي تتم في مثل هذه الظروف، وجميعُها ليس الإنسان وحقوقه جزءًا منها، ولا الوطن عنصرًا من عناصرها، إذ يغيب عنها دومًا ما يحتاجه النّاس وما يطلبونه ويرجون حصوله ليعود التوازن إلى حياتهم.
لقد تزامن هذا الإيقاظ مع أحاديث عن مئات الحوالات المالية المنسيّة التي نسيَها مواطنو شعبٍ منهك بالحرب وآثارها طويلة الأمد، وهي حوالات لا يعلمون مدى صحة الأخبار حولها، وليسوا على يقين أنّ ثمة حوالات أصلًا يمكن نسيانها، لقد تهافتوا عليها يبحثون عن أسمائهم بين زحمتها لعلّهم يجدون فيها حوالة حدث نسيانها في لحظة هاربة من الزمن، قد تسد رمقهم أو توفّر لهم شيئًا من متطلبات الحياة الصعبة التي أثقلت كاهلهم ودفعتهم إلى حدّ العوز.
إنّ المرتبات قد تداخلت مع الحلم والوجع والصبر والتيه والضعف والقوة والوهن والجَلَد، اختلطت مع الحقيقة والخرافة، والواقع والأسطورة، والموت والحياة، والمرض والدواء، لا شيء من ذلك كله تحقّق على امتداد تاريخ الحرب وسنواته المثقلة بالبؤس والموت والحكايات الممتدة بين الحرب والحرب والبؤس والبؤس، إنّهم يتساءلون: هل كانوا يستلمون مرتبًا ذات يوم؟ هل انقطع؟ هل سيعود؟ هل عاد؟ هل كان حقيقة ملموسة؟ وإن عاد، ما هي الكلفة التي سيتحملونها على عاتقهم؟ ما الضريبة التي سيدفعونها مقابل عودته؟
إنّ تشعّب الأمل كتشعّب الألم، وهما معًا خلطة هذا الشعب السحرية المفضلة منذ ألف عام ربما، وهي الألف عام التي سُحِقَت فيها هُويته وكينونته، وصار بلا وطنٍ فعليّ، بل صار أجيرًا لدى جماعات تعاقبت على حكمه والتسلط عليه وتهميشه ونهب ثرواته، وإدخاله في نفقٍ مظلم وتنويم مغناطيسيّ لا يصحو منه إلّا ويدخل في غيره، وما الراتب سوى رمز لسلب كرامته وهُويته بين الماضي والحاضر، ومعادل موضوعي لخرائب روحه التي أُجبِر على التسليم بها، واعتبرها جزءًا لا يتجزّأ من شخصيته وسيرته الوجودية المعتمة والشديدة القسوة.
لم يعد الحلم بحياة طبيعية سوى العنصر المسروق من الهُوية المشروخة، لقد انشرخت الهُويّة إجباريًّا، وانشرخ معها وطن وحلم، وضاعت كرامة، وانجرح تاريخ عريق، لقد تقاذفنا جنرالاتُ الحرب، الذين لا هَمّ لهم سوى مواصلة رحلة الثراء، لقد سحقونا ومنعوا عنّا حتى المرتب الضئيل الذي كان بالكاد يسدّ الرمق، ويؤمّن الحياة، ولكنّه كان وكنّا، وبدونه فقدت الكينونة والكيان.