لم تكن التيارات السَّلَفيّة في اليمن، بشقَّيْهَا، المتشدِّد وغير المتشدِّد، في وارد الدخول إلى ميدان العمل السياسي، حسب المواقف التي كان يعلنها -جهارًا نهارًا- قياديّوها ومنظِّروها، ولا سيّما أنّ الاتفاق كان يبدو قائمًا بينها على الوقوف ضدّ العمل الحزبي؛ لعَدِّهِ -حسبَ رؤيتهم- طريقًا إلى تفريق المسلمين وإضعاف شوكتهم وتنفيذًا لمخططات أعدائهم، وهو الأمر الذي يتوقَّف عليه الاشتغال السياسي، بل إنَّ الخلاف السلفي-السلفي كان يشتدّ أحيانًا حول تأسيس جمعيات خيريّة مجتمعية، إلى درجة أن يُخرِجَ بعضُ قياداتِ الفصائل السلفية المتشدِّدة وأتباعِها فصائلَ وشخصياتٍ سلفيةً من دائرة السلفية، بل إنّ بعض هؤلاء كان يصل بهم الأمر إلى حدّ إخراج الفصائل والشخصيات المخالفة، ولو في مجرّد الوسائل والفرعيات، من دائرة أهل السنة والجماعة.
ولا يبدو لي أنّ هناك أمرًا دَفَعَ قياداتٍ ونُخَبًا سلفيّةً إلى مراجعة مواقفها، وإعادة النظر في أفكارها، إزاء ممانعة المشاركة في العمل السياسي، أكثر من النفوذ الذي حصل عليه فَصِيْلٌ إسلاميٌّ محليٌّ، هو حزب التجمع اليمني للإصلاح، الذي يُمثِّل الجناحَ السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في بلادنا، بعد أحداث الاحتجاجات التي شهدها عام 2011م، في إطار ما عُرِف وقتها بـ"الربيع العربي"، واحتدم الجدل في الأوساط اليمنية حول توصيفها، بين من عدّوها ثورةً ومن عدّوها أزمةً.
فقد كان النفوذُ الذي حظِيَ به حزبُ الإصلاح ذو التوجّه الإخواني، بمثابة جرس إنذار أدّى دويًّا قويًّا في الأوساط السلفيّة، موصلًا رسالةً مؤدّاها أنّه إذا لم يلحق السلفيّون بقطار العمل السياسيّ والتنافس الحزبيّ، فإنّه سيفوتهم، ولم يصدر هذا الانطباع أو الاستنتاج عن فراغ، وإنما بُنِيَ على جملة حيثيّات، كانت لها دلالاتها في السياق العام آنذاك، قد يكون أوضحها ما يتعلّق بطبيعة التنافس الخاصّ السَّلَفيّ الإخوانيّ وأبعاده، في ظل الحالة التي كانت تبرز بشكل واضح في الوسط السلفيّ، من الميول إلى حزب المؤتمر الشعبي العام، وتفضيلهم إيّاه، وبعضهم كان يعلن تأييده العلنيّ المباشر له بكل وضوح.
وقد أسهم النفوذُ الإصلاحي في المؤسَّسات الرسمية والأوساط الشعبية، وتأثيره على القرار العام للدولة والحكومة، فيما بعد تشكيل حكومة الوفاق الوطني (حكومة باسندوة)، في ديسمبر 2011م، بذلك الشكل الذي دفع الكثيرين إلى محاولة التقرُّب منه والتودُّد له، في استشعار بعض السلفيين خطورةَ سيطرة فرع حركة الإخوان على القرار السياسي بالبلد، وكان هذا التوجُّس مبنِيًّا على أساس الاحتكاكات التي تكرّر حدوثها بين الجهتين أو الجهتين الإخوانية والسلَفية، من مثل التنافس على مساجد ومراكز علميّة، وكسب ودّ جهات داعمة وراعية؛ ولذلك فقد اقتنعت بعض القيادات السلفية بأنّ الدخول في ساحة المشاركة السياسية من ضروريات المرحلة وحاجياتها وتحسينياتها، وهذه المهمة تحتاج إلى أن يكون لهم كيانٌ سياسيّ تحت مسمّى حزب، وكان الاتجاه الإحساني (جمعية الإحسان الاجتماعية) الأكثر اقتناعًا بهذا، وتنظيرًا له، ودعوةً إليه، وهو الذي يُصَنَّف -من بعض السلفيين أنفسهم- بكونه قريبًا من الإخوان؛ بحكم أنّه -حسب هذا التعليل- يتبع التيار السروريّ الذي ينتسب إلى "محمد سرور بن نائف زين العابدين" الذي جمع بين السلفية والإخوانية، حتى قيل إنه مؤسّس ما يمكن وصفها بـ"السلفية الإخوانية".
فتمّ التشاوُر حول الحزب السلفيذ الوليد، من جميع الجوانب الهيكلية والتنظيمية واللوائحية، وكان ذلك بوجود ممثّلين عن التيار الحكماوي (جمعية الحكمة اليمانية)، إلى أن تمّ الاتفاق من الهيئة التأسيسية التي جمعت عددًا لا بأس به من فروع الجمعيّتين الإحسانية والحكماوية، في أمانة العاصمة والمحافظات، وبعد الإقرار، تم الشروع في خطوات التأسيس الرسمي، إلى أن أثمر ذلك عن إعلان ميلاد أول حزبٍ سلَفي في اليمن، تحت اسم "حزب اتحاد الرشاد السلفي"، وذلك في يوليو 2012م، ويبدو من ورود "الاتحاد" في الاسم، ما يشير إلى ما سبق ذلك من محاولة توحيد الصفوف السلَفيّة، المقتنعة منها بالعمل السياسي، مع إضافة قيادات وشخصيات ذات توجُّهٍ فرديّ، مثلما يبرز الحرص على إضفاء الطابع "السلفي" على الحزب، ولعله جاء على غرار "حزب النور السلفي" الذي كان قد تمّ تأسيسه -قبل ذلك- في جمهورية مصر العربية، عقب احتجاجات يناير 2011م.
لكنّ هذا "الاتحاد" لم يدُم طويلًا، بعد أن ضَعُف "الرشاد/ الرشد" لدى من تولّوا إدارته وكان لهم نفوذهم فيه أو سيطرتهم عليه، فحدثَت الانشقاقاتُ سريعًا، وليس السبب أكثر من استحواذ الفصيل الإحساني على أكثر المفاصل القيادية وأهمّها، وفي مقدمتها الرئاسة والأمانة العامة اللتان شغلهما إحسانيان من محافظة واحدة (محمد العامري، وعبدالوهاب الحميقاني)، هي محافظة البيضاء، التي كانت على مدى سنوات عدة، قبل ذلك وبعده، منطقةً من المناطق المهمّة بالنسبة إلى بعض التنظيمات المسلّحَة، وفي مقدمتها تنظيم القاعدة، وفي منطقة أمين عام الحزب تحديدًا.
فأدَّت هذه الاختلافات أو الانشقاقات التي شهدها "حزب اتحاد الرشاد السلفي"، إلى تأسيس حزب سلفيّ آخر، هو "حزب السلم والتنمية السلفي"، في فبراير 2014م، وكان أكثر من وقفوا خلفه، قبل تأسيسه وبعده، من التيار الحكماوي الذي يرجع إلى "جمعية إحياء التراث" في الكويت ورئيسها المؤسِّس الراحل الدكتور عبدالرحمن عبدالخالق، وهذا يزيد من توكيد ما سبق عرضه، بخصوص شعور الحكماويين بالضيم والإقصاء أمامَ نفوذ الإحسانين وسيطرتهم، فأصبح للسلفيين حزبان في اليمن، في فترة جدّ قصيرة، وبشكل يُشبه الانقسامات التي شهدتها الحركة السلفية في اليمن، بعد الانشقاقات التي شهدتها الحركة السلفية في اليمن، منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين الميلادي الماضي.
وكان المتوقَّع أن يشهد الحراك السياسي السلفي "الوليد" الهدوءَ والاستقرار، بعد تأسيس حزب السلم، إلى جانب حزب الرشاد، بما يعني أنّ لكلٍّ من التيارين السلفيين الحكماوي والإحساني، حزبًا خاصًّا به، وهما التياران اللذان كانا يبدوان منفتِحَين على العمل السياسي، على عكس التيار السلفيّ (التقليدي)، الذي يمثّله أتباع العلّامة الراحل/ مقبل بن هادي الوادعي، فلم يكن له أيّ اهتمام بالعمل السياسي، بل إنه كان له موقفه الرافض والمناهض للعمل السياسي والحزب، جملةً وتفصيلًا.
ومع هذا، ورغم ذلك التوقُّع؛ فقد ظلّ البنيان السياسي/ الحزبيّ السلّفيّ قابلًا لمزيدٍ من التصدّع والانقسام، وهو لا يزال غضًّا طريًّا، والأخطر من هذا أن نزعةً مناطقيةً، ذات رائحة انفصالية، برزت من بين الصفوف السلفية، وقادها بعض سلفيي المحافظات الجنوبية، ولهذا فقد تم تأسيس حركة في عدن، حملت اسم "حركة النهضة"، بقيادة "عبدالرب السلامي"، المحسوب على التيار الإحساني، وكانت بمثابة نواة لحزب سلفيّ يمنيّ ثالث، الأول من نوعه بصبغته المناطقية، ليس على المستوى السلفي فحسب، وإنّما على مستوى الأحزاب والتنظيمات السياسية اليمنية عمومًا، وقد عمل السلاميُّ في سنوات سابقة من الحرب القائمة وزيرًا للدولة، في مجلس وزراء الحكومة الشرعية، في تشكيلتها قبل الأخيرة.
وبمثل هذا التصرُّف، شهدت محافظة إب تأسيس حركة سلفية، من بعض الشباب السلفي الذين بدوا توّاقين إلى الخروج عن وصاية مرجعيات الجماعات وتوجيهات قياداتها وتعليمات منظّريها، وهي (حركة الحرية والبناء)، ورأس الشاب "يحيى الوجيه" الهيئةَ التأسيسية لها، وكانت هناك بوادر توحي بوجود نية للانتقال بها إلى حزب سياسي، قبل أن يتم الانتقال إلى الحرب التي لا تزال قائمةً، منذ أكثر من سبع سنوات، بعيدًا عن "الهدنة" التي لا تزال هشّةً وغير واضحة المعالم، رغم الإعلان عنها في شهر أبريل من العام الجاري.