عن "سعيد الجريك" صاحب الصباح

وضع قفلًا على فمه فغدت صورته رمزًا للتكميم
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 6, 2025

عن "سعيد الجريك" صاحب الصباح

وضع قفلًا على فمه فغدت صورته رمزًا للتكميم
محمد عبدالوهاب الشيباني
January 6, 2025
.

هو الأستاذ سعيد علي صالح الجريك (سعيد الجريك)، صاحب جريدة الصباح، وأحد آباء الصحافة الجديدة في اليمن.

وُلد في قرية (جَنِّن) في بني شيبة الغرب عام 1935، هاجر باكرًا مع والده إلى بر الدناكل، حيث كان الأب أحد الرموز الاجتماعية في مدينة بربرة الصومالية، وفيها اكتسب القليل من اللهجات السواحلية الشعبية والقليل من الإنجليزية، إلى جانب تلقيه تعليمًا تقليديًّا دينيًّا باللغة العربية في المدينة ذاتها.

بعد سنوات قليلة من هجرته الصومالية، عاد إلى مدينة عدن، حيث أكمل فيها تعليمه برعاية مباشرة من شقيقه الأكبر محمد علي الجريك، الذي كان هو الآخر واحدًا من الشخصيات الاجتماعية المعروفة في مدينة عدن، حين كانت المدينة تتعافى بعد الحرب العالمية الثانية بفعل توجهات وزارة المستعمرات بلندن والسلطة الاستعمارية البريطانية في المدينة بتحويلها إلى مركز متقدم في المنطقة لخدمة الأغراض الاستعمارية في النواحي الاقتصادية والجيوسياسية بحكم موقعها الجاذب، ولتفادي تأثيرات نشاط الحركات الوطنية المناهضة للاستعمار التي بدأت تظهر في المنطقة.

من عدن إلى شيفلد

بدأ سعيد الجريك حياته المهنية بتدريس اللغات، بحكم معرفته المتقدمة باللغتين، لكنه في نهاية الخمسينيات، وتحديدًا في العام 1958، هاجر على ظهر باخرة إلى بريطانيا ليستقر في مدينة شفيلد البريطانية مدرسًا لأبناء الجالية، وكانت هذه المدينة في ذلك الوقت حاضنة متقدمة لكثير من اليمنيين العاملين في قطاعات الخدمات أو أولئك المتقاعدين الذين انخرطوا بصفتهم مقاتلين في صفوف دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية التي كانت فيها بريطانيا رأس الحربة فيها إلى جانب فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. لم يترك سنوات إقامته في شيفلد تمر هباء، فانخرط في دراسة علم الأدلة الجنائية في جامعتها العريقة.

يقول ربيع ردمان في ترجمته لمقال كيفن سيرل الأكاديمي البريطاني المختص بالدراسات الاجتماعية المعنون بـ(من اليمن إلى يوركشاير):

"قَدِمَ الجزءُ الأكبر من اليمنيين في شفيلد من محمية عدن، وخاصة ممن ينتمون إلى مناطق يافع والشعيب والضالع، وكذلك من شمال اليمن من مناطق رداع وجُبَن والشَّعِر والحديدة، ويمكن رؤية بعض هذه المناطق على خريطة وزارة الخارجية والكومنولث".

حين عاد الجريك إلى عدن، لم يعمل في مجال تخصصه الدراسي، وعمل مدرسًا لغير الناطقين بالعربية، وبدأ يكتب لبعض الصحف العدنية، ومنها فتاة الجزيرة لصاحبها محمد علي لقمان المحامي، واتسمت مقالاته بأسلوبها التهكمي الساخر، فتحولت هذه التجربة إلى رغبة كبيرة عنده للدخول في المعترك الصحافي بذات السقوف التعبيرية للصحافة المستقلة، فقام بإصدار صحيفة الصباح في أبريل 1966، لتكون صوتًا جديدًا ومختلفًا في حياة الناس.

قبل سفر الجريك إلى شفيلد بقليل، عاد إلى القرية لحضور عرس ابن أخيه، ويقول عبدالقادر الشيباني في استعادة سيروية عن تلك الواقعة:

"بعد وصولي القرية بأسابيع قليلة [في العام 1958] أُقيم عرسًا كبيرًا لوهيب محمد علي الجريك، حضره أركان العائلة من الشرق والغرب، ومن عدن حضر والد العريس وعمه سعيد علي الجريك، الذي تواجد في القرية ومعه مجموعة من الكتب التي أهداني بعضها، مثل كتاب (النكبة والبناء)، وكتاب (معالم من تاريخ العالم) للزعيم الهندي نهرو.

وحينما ودعته في نقيل الشُحِّط وهو عائد إلى عدن عن طريق المجزاع، خلع من معصمه ساعته (أبو صليب) وأهداني إياها، وحينما رفضت، علل الأمر بأني في القرية أحتاج ساعة لمعرفة المواقيت، وأنه باستطاعته شراء ساعة غيرها من عدن".

وحين عاد الجريك إلى عدن في الثلث الأول من الستينيات لم يعمل تقريبًا في مجال تخصصه الدراسي، إذ عمل مدرسًا لغير الناطقين بالعربية في مدرسة اللغات بخور مكسر، وبدأ يكتب لبعض الصحف العدنية، ومنها فتاة الجزيرة لصاحبها محمد علي لقمان المحامي، واتسمت مقالاته بأسلوبها التهكمي الساخر، فتحولت هذه التجربة إلى رغبة كبيرة عنده للدخول في المعترك الصحافي بذات السقوف التعبيرية للصحافة المستقلة، فقام بإصدار صحيفة الصباح في أبريل 1966، لتكون صوتًا جديدًا ومختلفًا في حياة الناس؛ لهذا قامت السلطات الاستعمارية بإغلاقها بعد أقل من عام، بسبب نشرها موضوعات ساخنة بلغة ناقدة حادة، أغلبها بقلم الجريك نفسه، فقام بنشر صورته الأشهر وفي فمه القفل. الصورة التي تداولتها بعض الصحف العربية ذات التأثير، منها صحيفة النهار البيروتية، وغدت هذه الصورة، التي نشرت في مساحة افتتاحية بيضاء، ثيمة للتعبير عن تكميم الأفواه في عالم الصحافة، وفضاء التعبير في المستعمرة التي كانت تروج السلطات الاستعمارية لها بوصفها جنة الحرية في محيط مغلق.

الانتقال إلى الحديدة

تعرض في أشهر الاستقلال الأولى لمتاعب جمة، إلى درجة زجه في سجن الضالع بتهمة عدائه للسلطة وقربه من سلطة الاستعمار بذريعة تدريسه لبريطانيين، وبعد خروجه من السجن انتقل إلى مدينة الحديدة مثل كثير من الذين لم يُستوعبوا في إطار الدولة الوليدة، ومنهم رجال أعمال معروفون انتقلوا إلى المدينة الساحلية الوادعة لقرب طقسها من طقس مدينة عدن، وقبل ذلك للفرص الواعدة التي توفرت أمامهم.

كانت الحديدة قد تحولت إلى مدينة جاذبة بفعل الفرص الاقتصادية التي أتاحتها، كونها ميناء رئيسًا للجمهورية العربية اليمنية، إلى جانب تعدد الأنشطة فيها (زراعية، سمكية، صناعية)، حيث نشأت فيها مشاريع عملاقة، مثل مصنع أسمنت باجل، ومعامل متنوعة لصناعات تحويلية متعددة في مدنها الثانوية (القطيع والمراوعة والمنصورية)، وبفعل هذا الإيقاع المتسارع صارت المدينة حاضنة للقوى الجديدة التي تشكلت سياسيًّا ونقابيًّا بفعل هذا النشاط وتنوعه، ولم يزل الكثير من ممن عاشوا تلك السنوات بصخبها يرون في حديدة السبعينيات النموذجَ الحي للمجتمع المتعايش والمتعدد، الذي سرعان ما تم القضاء عليه بتحول المدينة إلى هامش مثل بقية المدن البعيدة عن مركز العاصمة، الذي بدأ يتصلب وينمو على حساب غيره من المدن الحضرية التاريخية.

هذا الجو النشِط حفز الجريك من جديد لإعادة إصدار صحيفة الصباح منها، فأصدرها تحت شعار (لسان حال الشعب)، فصارت الحديدة صحافيًّا تعرَّف بالصباح، ثم مجلة (الكلمة) التي أصدرها لاحقًا محمد عبدالجبار سلام، وهي مجلة ثقافية رائدة في المدينة ذاتها، في العام 1972، رغم عدم وجود قانون واضح ينظم عملية الإصدار والنشر الصحفي؛ لهذا كانت مثل هذه المطبوعات تتعرض للإيقاف بأمرٍ يصدره أي شخص متنفذ لم يرقه موضوع منشور فيها!

أولى متاعبه كانت بنشره موضوع اختلاس تورط به قاضٍ معروف، فاعتبرها بعض المتنفذين تجاوزًا، غير أن الرئيس الحمدي تغاضى عن ذلك، لكنه حين قام بنشر ملاسنات أقرب للدعابة بين الرئيس وأحد الصحفيين تم إيقافه مدة 18 يومًا، غير أن الكبيرة فيها كانت بسجنه في صنعاء 45 يومًا مع الإيذاء النفسي والجسدي في سجن القلعة بصنعاء، بعد أن طالَبَ لجان التصحيح باستجواب وزير الداخلية الذي تعدى على أملاك أحد المواطنين.

استقدم الجريك لصحيفته مكائن طباعية من عدن (مطبعة البيومي التي كانت تطبع صحيفة الكفاح)، ومطبعة حديثة أخرى من بريطانيا، وكانت الأخيرة تغري منافسيه للاستيلاء عليها؛ ولهذا حينما احترقت مطابع جريدة الثورة الرسمية بصنعاء في العام 1976، وتحت مبرر وجوب استمرار الصحيفة الرسمية، تم تفكيك مطبعة الصباح ونقلها إلى صنعاء دون استئذان صاحبها، ولم تسلم من عملية القرصنة مخازن الورق أيضًا، إذ تم الاستيلاء على أكثر من خمسين رولًا من ورق الطباعة، وحتى تبدو العملية مشروعة، وضع النهابة الرسميون مبلغًا من المال عند أحد أصدقائه من رجال الأعمال ثمنًا للمكينة والورق، وهو المبلغ الذي رفضه الجريك ولم يستلمه.

خاض الجريك من خلال جريدته الصباح الكثيرَ من المعارك مع متنفذي البر والبحر ورموز السلطة الفاسدة في صنعاء والحديدة وتعز، فتعرضت للإيقاف أكثر من مرة، آخرها مطلع الثمانينيات.

نهب المطابع والورق

وأولى متاعبه كانت في عهد القاضي عبد الرحمن الارياني بزجه في سجن القلعة بصنعاء في العام 1972 لمدة 45 يوما مع الإيذاء النفسي والجسدي على خلفية نشر الصباح لمجموعة مقالات ضد سياسة السعودية في اليمن ، والغريب ان عملية الاعتقال له تمت في منصة احتفال في صنعاء دعي اليه من الحديدة ، حين كان يجلس بالقرب من القائد العام.

في عهد الرئيس الحمدي قام بنشر موضوع اختلاس تورط به قاضٍ معروف، ومن أسرة مؤثرة، فاعتبرها بعض المتنفذين تجاوزًا، غير أنّ الرئيس الحمدي تغاضى عن ذلك، ولكن بعد ذلك تم إيقافه مدة 18 يومًا، حين طالَبَ لجان التصحيح باستجواب المحافظ ، بعد تعديه على أملاك مواطن بسيط.

توقفت الصحيفة في منتصف مايو 1976 في أطول فترة توقيف لها، بعدها قرر الانتقال للإقامة في قريته ببني شيبة، بعد أن أحس أنه لم يزل مستهدفًا، وحين عاد إلى الحديدة كانت الأمور قد تغيرت كثيرًا، ومنها واقعة الاستيلاء على المطبعة ومخزون الورق التي أشرنا إليها، إلى جانب تشتت عمّال الصف والفنيين.

ولهذا كان يقول: أنا سجين ومطارد من الشطرين، فعند حكام عدن كنتُ رجعيًّا إمبرياليًّا مواليًا للاستعمار، وعند حكّام صنعاء شيوعي جاء من عدن!

مع مطلع الثمانينيات، أعاد إصدار الصحيفة بحدود دنيا، وتوقفت بعد أعداد قليلة بعد نشره لموضوع عن الحرب العراقية الإيرانية، وانحيازه الصريح للجيش العراقي، الذي استدعى من السفير الإيراني بصنعاء الاحتجاج الشديد على الموضوع الذي رأت فيه السفارة تحريضًا واضحًا.

خلال بقية سنوات الثمانينيات، حاول الجريك الاستفادة من بقايا المكائن الطباعية في تنفيذ أعمال تجارية (فواتير وسجلات وإعلانات)، غير أن الأمور كانت تسير على العكس من رغباته، قبل أن تُصادر المطابع والعقار لصالح حكم تنفيذي أصدرته المحكمة لعدم إيفائه لضمان أصدره لأحد أقاربه.

وبعد ثمانية وعشرين عامًا، أعاد الجريك إصدار الصباح من جديد، بإشرافه، ورئاسة الصحفي المعروف أحمد صالح الحاج، في صنعاء عام 2008، لكنها توقفت مرة أخرى بعد أشهر؛ بسبب الأعباء المالية الكبيرة التي تراكمت عليها.

منذ خمسة وثلاثين عامًا، قرر الجريك الانتقال إلى المدينة الأحب إلى قلبه، عدن التي احتضنته في بواكير حياته، حيث صار بتجولاته وتأملاته جزءًا مهمًّا من معالم التواهي، لكنه منذ تعرضه لحادث سقوط في العام 2020، ومن ثم تعرضه لمتاعب صحية جمة وكبر سنه، صار يتلقى رعاية صحية خاصة في منزل ابنته بالمنصورة.

التمنيات للأستاذ الجريك بالشفاء ودوام الصحة.

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English