التراتب الاجتماعي في حضرموت

من الأسطورة إلى حالات الوعي المجزأ
أحمد صالح الجبلي
November 19, 2022

التراتب الاجتماعي في حضرموت

من الأسطورة إلى حالات الوعي المجزأ
أحمد صالح الجبلي
November 19, 2022
Photo by: Shohdi Alsofi - © Khuyut

نظرًا لبعض التباين في بعض من المسارات التاريخية الاجتماعية السياسية التي شهدتها المناطق اليمنية، ترانا لا نقف على تراتب اجتماعي موحّد لكلّ اليمن، وإنّما على لوحات مناطقية من التراتب الاجتماعي، فيها المشترك بين كل المناطق، وفيها المختلف الذي يتباين بدوره من منطقة إلى أخرى. 

أسارع إلى القول بأنّ ما أعرضه هنا من مقاربات للتراتب الاجتماعي في حضرموت، لا يمكن عدّه إلّا من نماذج منهجية للتفكير حيال المكونات الاجتماعية في اليمن، وحضرموت عيّنة للبنية الاجتماعية في هذا الصدد. 

 لقد تطرّق لهذا الشأن العديدُ من المهتمّين، رأيت من الأفضل أن أوزّعهم على مجموعتين: مجموعة السابقين، والأخرى المحدثين.  

أولًا- تراتب السابقين: نموذجًا للسابقين، أعرض هنا –وهو بالتأكيد لا يفي بالغرض– المقاربة الخرافية التالية: ثمّة بعض الروايات المتداولة في المجتمع الحضرمي بشأن التراتب الاجتماعي، منها –كما ينقلها بامؤمن– تلك الأسطورة الحضرمية التي تروي كيفية تشكّل المجتمع الحضرمي، فتقول: نظم في قديم الزمان سباق بين الأجداد الذين كانوا آنذاك متساوين، ووضع في نهاية السباق كتاب (رمز العلم)، وسيف (رمز القوة)، ومسحاة (رمز الضعف). فاستلم الأول الكتاب فكان جد العلماء من السادة والمشايخ (فئة التعالي)، واستلم الثاني السيف فكان جد القبائل حملة السلاح (فئة التسلّط). أما الجدّ الثالث فقد فاجأه البول أثناء السباق فجلس ليبول ووصل آخر المتسابقين فاستلم المسحاة إذ لم يجد غيرها، فكان جد الضعفاء والمساكين (فئة التمسكن)، ولقب بـ"البخسوس" (والبخسوس اسم لحشرة زراعية غير ضارة، وهي الخنفساء). وقد ضرب به المثل في المسكنة والتذلل والمسالمة، فقيل في المثل: "تبخسس تسلم". وفي العهد السلاطيني ظهر في المجتمع العبيد الأفارقة الذين جلبهم السلاطين والأمراء وبعض الأثرياء لحمايتهم وخدمتهم.

 من جهته، ينسب سرجنت إلى بعضهم تقسيمهم الطبقات في حضرموت إلى ثلاث طبقات، هي: الملوك، العسكر، العلماء. وقد وقع الملك والعلم في أيدي العلويين، بينما الجانب العسكري في أيدي القبائل "العرب"، على اعتبار أنّ بقية طبقات وفئات المجتمع لا يعدّون من الشعب، لأنّ دمهم "فرث"، "لا يسلّف ولا يقضي". 

ثانيًا- تراتب المحدثين: ينظر الباحثون المعاصرون إلى التراتب الاجتماعي نظرة مختلفة؛ فنجد الصبان يشير إلى أنّه في حضرموت، ترتبط العادات والتقاليد بدرجات السُّلّم الاجتماعي، فما يسمح لطبقة لا يسمح لأخرى. ويبدأ التراتب الطبقي من الأعلى بطبقة "السادة"، السلاطين، القبائل، المشائخ (مشائخ العلم)، القرار (القروان)، المساكين (الحويك)، الحاشية، وأخيرًا الضعفاء.

من جانبه، يأتي بامطرف بترتيب مختلف عن الصبان، فيقول إنّ صورة المجتمع الحضرمي، على عهد المعلم عبدالحق (هو شاعر شعبي عاش في القرن الثالث عشر الهجري)، أنه مجتمع مجزأ –كما هي حالته اليوم– إلى طبقات، كل واحدة منها تحاول جهدها استغلال الأخرى والاستعلاء عليها. والناس في ذلك المجتمع، كما هي حالتهم اليوم، مقسّمون إلى سادة ومشائخ وقبائل وحضر، كل قطاع منهم يتحرك أفقيًّا في سلّم اجتماعي بدائي، وإن اتفقوا في بعض مظاهر الحياة العامة وسبل كسب العيش.

المجتمع الحضرمي فقير، وذلك هو حاله اليوم، يعيش معظم أهله على مكاسب الهجرة والتي كانت قد بلغت أوجها على عهد المعلم عبدالحق؛ فالذين ينعمون بخيرات المهاجر يستوردون حاجاتهم الاستهلاكية من الخارج مباشرة إذا كانوا من كبار الماليين؛ وإذا كانوا من صغار الماليين أخذوا حاجات ديارهم من أرباب الحوانيت المحلية الصغيرة.

ثم يقدّم، لوحة عامة عن العلاقات بين هذه الفئات الاجتماعية، فيقول إنّه إذا ازدهى العلويّ باتصال نسبه إلى البيت النبوي، تباهى الشيخ بأجداده وعلومهم وكراماتهم، وافتخر القبيلي بأعمال أجداده البطولية، وانكمش القروي والمسكين والضعيف وكأن لم يكن لهم ما يجوز أن يتباهوا به في مجتمعهم، مع أنّهم يمثّلون الطبقة العاملة والفلاحية في المجتمع التي يعتمد عليها اقتصاد البلاد وخدماته الأساسية الأخرى. والعلوي المحافظ لا يرتاد الأسواق إلّا الأضرحة والمقابر بعد الفراغ من معالجة الأضابير والكتب. ويستنكف القبيلي من الجلوس (بين الكِفَف) على حدّ تعبيرهم؛ أي أن يكون جليس حانوت بين كفتي ميزان.

من الواجب الإشارة هنا إلى أنّ الحديث عن الحالة المعيشية كانت أقرب إلى الضيق والشِّدّة منها إلى السَّعة والميسرة. فالمجتمع الحضرمي فقير، وذلك هو حاله اليوم، يعيش معظم أهله على مكاسب الهجرة والتي كانت قد بلغت أوجها على عهد المعلم عبدالحق؛ فالذين ينعمون بخيرات المهاجر يستوردون حاجاتهم الاستهلاكية من الخارج مباشرة إذا كانوا من كبار الماليين؛ وإذا كانوا من صغار الماليين، أخذوا حاجات ديارهم من أرباب الحوانيت المحلية الصغيرة.

وتجارة الواردات معظمها في أيدي بعض التجار الهنود المقيمين في الساحل الذين يقتصرون على توريد المواد الغذائية. وهناك بعض البيوت الحضرمية التجارية تقوم محليًّا وفي نطاق ضيق جدًّا، بعملية الاستيراد، وهؤلاء مع التجار الهنود يقيمون جسرًا تجاريًّا، غير متكافئ من حيث ميزانه التجاري، بين الهند وحضرموت. 

ويدور الحكّام والقُضاة والموظفون والجند في فلك التجار، ومنهم يقتنصون عيشهم وكينونتهم بالضرائب والعوائد والإتاوات والعطايا والهدايا والقروض والمعونات المالية. ومع ذلك يحيون حياة ضنك وعوز. أمّا الفقراء –وجلّ سكان حضرموت فقراء– فلا يجني الحكام وأتباعهم منهم غير أعمال السخرة. ولذلك ظلّ الفقراء كمية مهملة تولد وتتألم ثم تموت في حلقة دائمة الدوران في أجواء الجهل والمرض والقهر والحرمان. وتدور معظم الحرف الصغيرة على قطاعي الأسماك والزراعة.  

قريب من تراتب بامطرف، ما يذهب إليه الباحث عبدالله بوجرا الذي يقسّم المجتمع الحضرمي إلى ثلاث شرائح متراتبة أفقيًّا (الصحيح: رأسيًّا): السادة، والمشائخ أو القبائل، والمساكين أو الضعفاء.

وتحتل شريحة السادة المرتبة الأعلى، ويمتلك السادة شعورًا قويًّا بأنّهم يشكّلون وحدة اجتماعية واحدة، وخاصة في مقابل غير السادة. وتأتي في الدرجة الثانية بعد السادة شريحة المشائخ-القبائل، وتتتبع المشائخ نسبها إلى أجداد أوائل من العلماء المشهورين؛ أما القبائل فيزعمون انحدارهم من الأجداد المؤسسين لقبائلهم، ويدعي الطرفان أنّ قحطان هو جدهم الأول.

إنّ مكانة المشائخ والقبائل متساوية، ولهذا فهم يُشكّلون شريحة واحدة، وما يميّز بين الفئتين داخل هذه الشريحة، أنّ للمشائخ دورًا دينيًّا شبيهًا بدور السادة، وهم يشكّلون، كما وصفهم أحدهم "سادة ثانويّين". أمّا القبائل فهم الرجال المسلحون. والشريحة الأدنى هي المساكين أو الضعفاء، حيث يسود الاعتقاد أنّهم بلا نسب. 

بالمقابل، نجد تراتبًا اجتماعيًّا أكثر تفصيلًا عند بعضهم، كما هو مع الباحث بن شيخان الذي يذكر أنّ التراتب الاجتماعي في غيل باوزير يتكوّن، من أعلى إلى أدنى، من الطبقات التالية: 

- طبقة السادة: وهم طبقات، ولو أنّهم قلة.

- طبقة المشائخ: وهم طبقات؛ والشيخ (شيخ العلم) هو من انتسب إلى من اشتهر بالمشيخة من أمد بعيد.

- طبقة العسكر: وهم طبقات. والعسكري هو اليافعي.

- طبقة القبائل: وهم من يحملون السلاح (من غير العسكر الرسميين)، وهم الحضارم الأصليون.

- طبقة الحضر: هم من لا ينتمون لا إلى السادة ولا إلى المشائخ ولا إلى القبائل ولا إلى العسكر. وهؤلاء لا يحملون السلاح، ويقال لهم "الضعفاء"، ويشكّلون الأغلبية. (الضعفاء وليس المساكين!).

- الصبيان: الصبي هو من استند لقبيلة وخضع لها وصار في حماها.

- العبيد: وهم طبقات. ويطلق أيضًا على المستخدمين بشكل عام.

بتطور الوعي، بُعيد الحرب العالمية الثانية، تغيّرت الكثيرُ من القيم والعادات والتصنيفات. كما كان لتأثير الهجرة دورها الكبير في تعديل هذه المفاهيم والتصنيفات التي كانت سائدة في المجتمع آنذاك. ويصل الوعي الوطني ذروته إثر الاستقلال الوطني في عام 1967م، عندما اهتزّ هذا السلّم الطبقي اهتزازًا عنيفًا، فتداخلت طبقاته وجاءت مفاهيم جديدة أدّت إلى تصدّع هذه الطبقات ونسفها. 

يشير الباحث روديونوف إلى أنّه في حضرموت، تسري لفظة "قبيلة" على أكثر من مستوى قبلي؛ فهي تسري على الاتحاد القبلي، والقبيلة الكبيرة، والقبيلة الصغيرة، وعلى مجموعة عشائر أو عائلات. وزيادة على ذلك، فإنّها لا تُستخدم فقط بالنسبة للقبائل، بل بإمكان ممثّل السادة أو العبيد القول: "قبيلتنا...". 

بصدد البنية القَبَلية، ولغرض تسليط ضوء أكثر عليها، أُورد هنا ما يسجّله روديونوف الذي يشير إلى أنّه في حضرموت تستخدم مجموعة من الاصطلاحات القبلية للتعبير عن المستويات والجماعات القبلية، أهمها:

- قبيلة: يسري هذا الاصطلاح على القبيلة، أو من يدخل فيها من القبائل.

- آل، فصيلة، بن: فروع القبيلة، مجموعة أسرية – عشائرية، عشيرة.

- بيت، دار: عشيرة.

- مكتب: مصطلح قبلي يعني العشيرة التي تمحورت على الأرض للإشراف على المساحة (حامية).

- عائلة: أسرة غير منفصلة، أو منفصلة.

- فخيذة: يمكن إرجاعها إلى المستوى "آل"، "فصيلة"، "بن" و"عائلة".

غير أنّ الاصطلاحات للأقسام القبلية: بطن، عشيرة، وغيرهما، غائبة عن اللغة القبلية في حضرموت. 

_____________________

المراجع:

- بامطرف، محمد عبدالقادر: المعلم عبدالحق، عدن، دار الهمداني للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1983م.

- بامؤمن، كرامة مبارك سليمان: الفكر والمجتمع في حضرموت، صنعاء، دار التيسير للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة 2006م.

- بن شيخان، سامي محمد: نفحات وعبير من تاريخ غيل باوزير، مكتب الثقافة – عدن (د.ت).

- بوجرا، عبدالله: الصراع السياسي والتراتب الاجتماعي في حضرموت، في: تامينيان 1997.

- روديونوف، ميخائيل: عادات وتقاليد حضرموت الغربية، ترجمة د. على صالح الخلاقي، إصدارات جامعة عدن، الطبعة الأولى 2003م.

- سرجنت، روبرت: حول مصادر التاريخ الحضرمي، ترجمة: د. سعيد عبدالخير النوبان، جامعة عدن (د.ت). 

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English