تقع سردية "الحقل المحترق" في 233 صفحة- قطع صغير، ويدور السرد حول نهايات دولة الخلافة الإسلامية (الإمبراطورية العثمانية)، وبداية ظهور المتوكلية اليمنية. شخوص الرواية كثيرة، وبطلاها الرئيسيان: " آق ديلك بيك"- الوالي التركي وآخِر والٍ عثمانيّ على اليمن، والبطل الآخَر أمير المؤمنين تاج الدين بن سراج الدين الفاتح، وابنه الأكبر عبدالمطلب، وللولد حضور كبير، وسرعان ما يتوارى الوالد مقتولًا بيد ابنه.
يتمحور السرد حول البطلين: آق ديلك بيك-الوالي العثماني على الشمال اليمني، وحضوره في السرد منذ البداية إلى النهاية؛ فهو البطل الرئيس. يبدأ رسم الرواية من ولادته في ليبيا التي كان والده واليًا فيها.
وُلِّدَ آق من إحدى إماء الوالي، ولم يعترف به والده إلا تحت التهديد. والده مسيحي مرتد من أصل يوناني. تسرد الرواية حياة الطفل الشقي بدقة متناهية، ابتداءً من لعب أطفال القصر به كمركوب لهم، إلى التهديد بإدخال قصبة عصير في مكان ما، إلى التصاقه بنساء القصر، والرضاعة منهن، أو من مصّ حلمات النساء المحرومات، وينسب إليه الرضاعة من لبوة.
يقضي خمسة عشر عامًا في فرنسا بكل مجونها وآدابها وموسيقاها، والباخرة التي نقلته عائدًا للوطن يعيش فيها مغامرة مع زوجة الحاج الكازاخي. والتوصيات التي سبقته إلى دولة الخلافة، كرسته "إلهًا" عكس ما هو عليه وما يتمناه.
ويرسم السارد تصويرًا ضافيًا ودقيقًا لشخصية "آق ديلك". يتسلم فرمانًا عاليًا بتعيينه واليًا عسكريًّا على السعيدة بعد لقاءين بالإمبراطور ورئيس الوزراء. يُعيَّن إلى جانبه طبيبًا شعبيًّا، ويبدو أنه جاسوس معه وعليه، فيتخلص منه لاحقًا.
يتذكر رصده لصناعة الأسلحة في فرنسا، ورغم وجود فيضي باشا إلى جانب الوالي إلّا أنَّ "تنساكي أفندي"- الطبيب الشعبي كان حضوره في السرد قويًّا، فهو ممّن عمل في حفر قناة السويس، وعمل في مرفأ الحديدة في صيدلية صغيرة، وفي تصدير البن إلى أمريكا وفرنسا وبريطانيا. كان شديد السخرية بالوالي؛ فقتله. عقب لقائهما يسأله الوالي عن حظوظه في حكم اليمن، وما الذي يريده هؤلاء الحفاة من تكريس أنفسهم أنبياء، يردّ عليه: "المال".
في بداية المشوار في اليمن يستغرق شهرين في ترتيب الجيوش، وقمع التمردات. يتضمن السرد الرحلة في بحر القلزم، ومعرفة الإنجليز بأمرهم، ومساءلتهم عن وجهتهم. يورد السارد الكابوس المنامي للوالي عقب وصوله اليمن؛ فقد حلم بمجموعة من الغرباء يركضون خلفه لوضع نحلة لاسعة في جيب سترته. اصطدم بكومة من النساء على رؤوسهن عمائم سُود، وحاول الانسراب، لكن إحداهن عمدت إلى استخدام أكثر الأسلحة إلى نفسه فتكًا- التعري؛ مما أجبره على قطع الشخير.
رافقه في الرحلة من كبار المسؤولين، كنعان باشا، وحسن تحسين باشا، وعلي سعيد باشا، وحاكم صنعاء مصطفى باشا، وهؤلاء ترددت أسماؤهم في تاريخ الولاة الأتراك في مواقع عديدة.
القسم الثاني من الرواية مكرس للحالة في صنعاء، ولدور أمير المؤمنين الواثق بالله تاج الدين بن سراج الدين الفاتح، واستنفار عسسه لتتبع الوالي الأجنبي. يرسل الوالي آق أحمد فيضي باشا لاقتراض خمس مئة ليرة من أمير المؤمنين لمواجهة التمرد في "قدار"؛ فيردّ الأمير: "عندما ضاجعت زوجتي لم أكن لأنجب إمبراطورية الخلافة"، ونصح أمير المؤمنين فيضي باشا قائلًا: "هذا الشعب لا يستقيم إلا بالصميل؛ أحرقوا حقولهم، وسيعود للركوع تحت أقدامكم".
عندما سأل آق الوالي الجديد، الطبيب الشعبي "تنساكي"، الذي عاش في اليمن: "ماذا يريد هؤلاء الحفاة من تكريس أنفسهم أنبياء؟!"، فجاء الحل مبسطًا فوق ما تتصوره الاستراتيجيات: "المال"
الزمان
الزمن في الرواية دقيق ومتسلسل. يبدأ التاريخ بالرابع من تشرين العام 1918، يوم انهيار الإمبراطورية العثمانية- نهاية الحرب العالمية الأولى، كما يؤرخ لعمر الدولة العثمانية بست مئة عام. يظل الرابع من تشرين في صنعاء، البداية لانهيار الوجود التركي في صنعاء أيضًا، وعليه ومنه مدار الأحداث المأساوية التي شهدها الوجود الأجنبي غير المرحب به.
الرواية- "الحقل المحترق" ليست تاريخًا، ولا وثيقة تاريخية بأي معنى، والمتخيل فيها يقربها من غرائبية سرد غارسيا ماركيز، وجوزيه ساراماغو؛ فالسرد في الرواية يتتبع حياة البطل الرئيس منذ الولادة، ومدة الدراسة العسكرية في فرنسا، والوصول إلى السعيدة، ومأساة انهيار الإمبراطورية، ومحنة البطل التراجيدية من التشرد، إلى "التَّيَهْوُد"، إلى التسوُّل، إلى الجنون، والموت جوعًا.
المكان
المكان في الراوية ممتد ومتعدد وشاسع، فمن شمال إفريقيا إلى أنطاكية، إلى فرنسا، والرحلات من وإلى فرنسا، ومن أنطاكية إلى اليمن، وفي مناطق عديدة في اليمن السعيدة: بحر القلزم، صنعاء، الحديدة، باجل، لحج، ومناخة. ويتكرر اسم "قدار" بما يوحي وكأنها صنعاء، أو مناخة، أو صعدة، أو دَعَّان، حيث تم اتفاق "صلح دعان الشهير"، 1911. وعمومًا، فالمكان عائم في السرد، والصورة غير جلية بما يكفي؛ بسبب اتساع الرقعة، وتعدد الأمكنة، وزمانها البعيد، وتمثّل "قِدار" (المكان) بتكرارها وورودها، وتحديدها بالفرسخ، والإشارة إليها في اتجاهات مختلفة- لغًزا.
الرواية عمل إبداعي مائز، وسرد يرتفع إلى مستويات راقية في الشعرية والإتقان، وتدلل الرواية الحداثية في التصوير المتقن وغير المتكلف على مقدرة ريّان، وسعة معارفه، وقراءته للأحداث، ولأوضاع الخلافة العثمانية المنهارة، ورموز المتوكلية الآتين، ومآسي القبائل الأكثر جهلًا وتخلفًا.
يتقن السارد فنّ النكتة، ورسم الشخصيات حدّ السخرية؛ وهي مقدرة للراوي -أيّ راوٍ؛ فالبطلان الرئيسيان: آق ديلك بيك- الوالي التركي الذي تجلى إبداع السرد في التفنن في رسم شخصيته، والمأساة التي عاشها بعد انهيار دولة الخلافة، وجشع أمير المؤمنين تاج الدين بن سراج الدين، وابنه الأكبر عبدالمطلب ذي الفضائح الكاثرة، والمدموغ بقتل والده.
الراوية الحداثية والسرد الإبداعي، فضح سافر لمآل الخلافة الإقطاعية الشائخة، ولعبث وفساد أباطرتها، بمقدار ما هي كشف لحقيقة الرموز المتوكلية اليمنية؛ فعندما سأل آق الوالي الجديد، الطبيبَ الشعبي "تنساكي"، الذي عاش في اليمن: "ماذا يريد هؤلاء الحفاة من تكريس أنفسهم أنبياء؟!"، فجاء الحل مبسطًا فوق ما تتصوره الاستراتيجيات: "المال". وبالفعل الإجابة مبسطة، وساذجة أيضًا؛ فالمال وافر لدى الوالي التركي أكثر، وليس لدى أمير المؤمنين البخيل، ولكن للقتال ضد الأتراك أبعادًا كثيرة في مقدمتها الكرامة الوطنية المدفونة بالتخلف، والجهل، وتقديس الإمام.
وهناك ملاحظات بسيطة، لا تقلل من أهمية الرواية وروعتها، تتعلق بالإغراب في الأسماء، وهي مبررة طبعًا في الأسماء لحساسية الأمر بالنسبة للأسر، ولكن في النباتات والأشياء الأخرى، وإيراد مفردات تلجئ القارئ للمعاجم، غير مبرر.
السرد في الرواية يرقى إلى الأعمال الإبداعية الرفيعة، وفيه شاعرية وتصوير يتسم بالذكاء والتميز والثقافة العميقة الواسعة.