في مطلع السبعينيات، ومع تنافس اليمنيين في البناء الذي فتح مضماره الرئيس إبراهيم الحمدي، تكاتف السكان الفقراء مع أحد الميسورين في قريتي النائية شرق جبل صبر في محافظة تعز وسط اليمن، وبنوا مدرستهم الصغيرة. أسموها "مدرسة محمد طه ناجي"، تكريماً له كأحد المساهمين في بنائها. ابتدأت المدرسة بعدد من الفصول الدراسية البسيطة البناء هي أول وآخر ما عرفته قريتي من تعبيرات ومظاهر الحياة الحديثة حتى مغادرتي لها في الشهور الأخيرة من القرن العشرين.
تفتقر قريتي، للحد الأدنى من الخدمات، فلا كهرباء، ولا مياه، ولا اتصالات، ولا طرقات معبّدة، شأنها في ذلك شأن أغلب الريف اليمني المُفقَر، والذي يشكل 70 في المئة من قوام الجغرافيا اليمنية.
ويعتمد السكان هناك بالدرجة الأساسية على زراعة مساحات صغيرة من الأراضي وتربية المواشي، قبل أن يعرفوا الطريق إلى المدينة والغربة، بحيث اكتسبوا من حرفهم كعمال، مهارات لم تشكّل فارقًا حقيقيًّا في الوضع الاقتصادي البدائي للأهالي.
ومع كل هذا الجمود، فتح قدوم معلمين ومعلمات إلى مدرستنا الصغيرة، من خارج القرية، نافذة للوعي. بدأ مع هذا الإشعاع الضئيل رؤية كيف أن العالم أكبر وأوسع مما نتصور، وأن هناك مساحات مترامية خلف الجبال التي تشكل حدود القرية. وكفرد في هذا المجتمع المنغلق، كان العالم بالنسبة لي ينحصر في المسافة التي كنت أقطعها بين الجبال والأودية لرعي الأغنام أو لجلب المياه من الآبار. ومع بناء المدرسة، بدأت أتوق لمعرفة المزيد عن الحياة.
على بساطة التعليم وانخفاض جودته، شكّل الفرصة الوحيدة الجيدة التي أصادفها لأول مرة في حياتي القروية القاحلة، وكذا الحال بالنسبة لغالبية اليمنيين من غير الفئات القليلة التي قدّر لها الانعتاق من هذا الواقع نسبيًّا بفرصٍ من ضمنها التعلم الجيد.
ومع وجاهة كل نقاش حول مسألة التعليم العام ومستوى جودته وجودة مخرجاته، إلا أنه مع كل الملاحظات والمآخذ عليه، صدّر للبلاد آلاف الكفاءات في مختلف المجالات، ومن سكان المدينة والريف.
ومنذ غادرت مع أسرتي القريةَ إلى مدينة تعز في أواخر التسعينيات، بحثًا عن حياة أفضل، وفرص جديدة في التعليم والخدمات والعمل، زرت الكثير من العزل والقرى والمناطق والمدن والبلدان. ومع ما أصادفه في طريقي من نعيم أو بؤس، تتنامى إلى ذهني دائمًا قريتي وسكانها وأطفالها بملابسهم الرثة، فأسأل نفسي: متى ستتاح لهم الفرصة كاملة لحياة لائقة، ولو في حدها الأدنى؟ متى سيأتي الوقت الذي نراها فيه تحظى، وبقية القرى اليمنية، بتعليم جيد، وصحة، وخدمات، وشبكة طرق سالكة؟
ما قد يراه العالم مجرد مبنى صغير متهالك، وقد تحوّل بعد ذلك إلى ركام وكومة أحجار، هو أكبر من ذلك بكثير بالنسبة لقرية بعيدة، نائية ومنسية. هو الخيط الأول للأمل بمستقبل أفضل، والدفاع الصغير في وجه التخلف والجهل.
دائمًا، ما أذكِّر نفسي بمسؤولية الإسهام في تحقيق هذا الأمر، وتغيير حياة الناس للأفضل، مدركًا من واقع تجربتي البسيطة أن التعليم هو مفتاح التغيير الأهم، ومن هنا يتغذى أحد حوافز العمل العام داخلي باستمرار.
نحاول في مواطنة لحقوق الإنسان اليوم أن نضع مسائل التعليم، أولوية، سواء من خلال تسليط الضوء على الضرر الذي أصاب هذا القطاع المهم خلال السنوات الأخيرة من الحرب، أو المشاركة في رؤية المعالجات اللازمة التي من شأنها تحسين الخدمات في هذا الجانب والارتقاء بها.
حين تلقيت بلاغًا من فريق "مواطنة" في الميدان بأن مدرسة ضمن المديرية التي تضم قريتي تعرضت للتدمير من قبل أطراف النزاع، فتحت المستند، فإذا هي مدرستي الصغيرة. نعم، صراع وأقاويل وادعاءات للوطنية، طيران حربي وجماعات مسلحة، والضحية مدرسة، وأجيال كان هذا المبنى يشكل لهم نافذة لحياة أفضل.
ما قد يراه العالم مجرد مبنى صغير متهالك، وقد تحوّل بعد ذلك إلى ركام وكومة أحجار، هو أكبر من ذلك بكثير بالنسبة لقرية بعيدة، نائية ومنسية. هو الخيط الأول للأمل بمستقبل أفضل، والدفاع الصغير في وجه التخلف والجهل.
في وقت مبكر، من صباح الخميس، الرابع من يناير/ كانون الثاني 2016، شن طيران التحالف بقيادة السعودية والإمارات غارتين جويتين، على مدرسة محمد طه، ما أدى إلى تدمير فصولها الثلاثين تدميرًا شبه كامل.
شهود العيان لم يرصدوا تواجدًا مسلحًا داخل المدرسة، قبل واقعة القصف، غير أن هناك نقطة عسكرية تابعة لجماعة أنصارالله (الحوثيين)، كانت تبعد عنها 800 متر تقريبًا، يتواجد فيها حوالي ستة أفراد مسلحين إلى جانب عربة عسكرية؛ هناك أيضًا أحاديث عن أن المدرسة استخدمت قبل الهجمة استخدامًا عسكريًّا كمكان احتجاز من قبل جماعة الحوثيين.
ورغم مرور أربع سنوات على الهجوم، لا تزال المدرسة من الاتجاهات الغربية والشمالية والشرقية مدمرة بالكامل، ويبدو مشهد الركام ظاهرًا أكثر من اتجاه ساحتها.
ومع أنه لم يعد هناك شيء يذكر من مبنى المدرسة، إلا أن الطلاب يتوافدون يوميًّا للدراسة، بعضهم بثياب ممزقة رثة، يمشون -بعد هذه السنوات من إجهاض حلمهم- بين الركام بلا مبالاة.
كل صباح، تمتلئ ساحة المدرسة بالطلاب والمعلمين، قبل أن يتوجه البعض منهم إلى ما تبقى من فصول شبه مدمرة، دون القيام بتمارين طابور الصباح، والبعض الآخر يظل في الساحة وعند النوافذ وأبواب الفصول، وعلى سقف مستطيل لأحد جوانبها تمت تسويته بالأرض.
لم يعد هناك كراسٍ ليجلس عليها الطلاب، أو طاولات ليكتبوا على ألواحها، مع أن بينهم من هم دون سن 12 إلى 5 سنوات، وهم الفئة الأكثر تضررًا من هذا الخراب، فيما تسيطر الضوضاء على الجميع، حيث لا باب ولا نافذة؛ فقط الغبار والركام وأشعة الشمس الحارقة في نهار قرية قاحلة.
ومع أن كثيرًا من طلاب المدرسة تسربوا عنها، أو أصبحوا يعيشون في الشتات، إلا أن هناك من لا يزال يقطع مسافات طويلة إلى قلب الدّمار، اعتيادًا في كون هذه البقعة النائية من الأرض كانت تضم نافذة صغيرة نحو العالم، تضم مدرسة.