تعد الحركة النقابية العمالية إحدى أهم روافد الحركة الوطنية اليمنية؛ نظراً للأدوار المتعددة التي لعبتها في صناعة التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تاريخ اليمن المعاصر، بل مثلت في مراحل تاريخية معينة طليعة النضال الوطني ووقوده الحارق في سبيل حرية اليمن ووحدته وتقدمه الاجتماعي. وهي أدوار تنسجم مع طبيعتها الحداثية وموقعها في نظام الإنتاج الاجتماعي وحجمها الوازن في الخريطة الاجتماعية والديمغرافية للمجتمع اليمني.
تسلطٌ هذه المادة الضوءَ على دور النقابات والاتحادات العمالية في مجرى النضال الوطني المناهض للاستعمار البريطاني في جنوب الوطن، وصولاً إلى تحقيق الاستقلال الناجز، وتغطي الفترة الزمنية الممتدة (1935– 1967).
إلماحة تاريخية:
يمثّل الموقع الجيوسياسي لمدينة عدن أهمية استراتيجية فريدة، فهي تقع عند نقطة تلاقي البحر الأحمر والبحر العربي. وميناء عدن يعد نقطة اتصال عالمي بين شرق الكرة الأرضية وغربها، وبين شمالها وجنوبها، ما جعلهما (أي المدينة والميناء) محط أطماع الدول الاستعمارية التي تنافست على السيطرة عليهما، منذ مطلع القرن السابع عشر الميلادي، حتى تمكنت بريطانيا من احتلال عدن في 19 يناير/ كانون الأول 1839.
كانت الدوافع وراء احتلال بريطانيا لعدن ولمينائها، تتمثل في الآتي:
لقد واجه اليمنيون الاحتلال البريطاني ببسالة منذ أول وهلة، لكن فارق التسليح والإمكانيات والأساليب المخادعة التي استخدمتها بريطانيا، قد مكّنتها من فرض سيطرتها على الجنوب اليمني طيلة (129) عامًا، خلال الفترة (19 يناير 1839 – 30 نوفمبر 1967).
انتهج الاحتلال البريطاني أساليب شتى في فرض سيطرته على عدن وعموم الجنوب اليمني وإدامتها؛ إذ لجأ إلى استمالة السلاطين والحكام الإقطاعيين المحليين، وذلك بتقديم الإغراءات المالية والمساعدات، وعقد ما سُميّت حينها بـ"معاهدات الولاء والصداقة"، التي تجاوز عددها عشية الحرب العالمية الأولى (18) معاهدة. وقد نصّت هذه المعاهدات على تعهد الحكومة البريطانية بحماية أراضي السلاطين والأمراء المحليين، مقابل تعهدهم لبريطانيا بعدم إقامة أية صلات أو اتفاقيات مع أي دولة أجنبية بدون موافقة الحكومة البريطانية. وبذلك ضمنت بريطانيا تأمين سيطرتها على عدن وحمايتها من أي تهديدات خارجية، وأصبح السلاطين والأمراء المحليون تابعين أذلاء لها، يأتمرون بأمرها.
في العام 1937، تعززت أهمية "مستعمرة عدن" لدى التاج البريطاني، وجرى فصلها عن حكومة بومباي، وأصبحت تابعة مباشرةً لوزارة المستعمرات في لندن. على إثر ذلك استحدثت بريطانيا ما سُميّت بـ"معاهدات الاستشارة"، التي مثلت أسلوبًا جديدًا في تعزيز سياسة الحماية وتعميق نفوذها. فقد فرضت هذه المعاهدات على السلاطين والأمراء المحليين تعيين مستشارين بريطانيين يرسمون السياسات الداخلية والخارجية للسلطنات والإمارات، ومن أشهر أولئك المستشارين الضابط البريطاني "إنجرامس" الذي لعب دورًا كبيرًا في توسيع النفوذ البريطاني في المحميات الشرقية.
ومن المعلوم أن الاستعمار البريطاني عمل على تقسيم الجنوب اليمني إلى محميات شرقية هي: سلطنة القعيطي (في الشحر والمكلا)، وسلطنة الكثيري (في سيئون)، وسلطنة الواحدي (في بئر علي) وسلطنة المهرة، وغيرها.
ومحميات غربية وهي: إمارة بيحان، وسلطنة العوالق العليا، وسلطنة العوالق السفلى، وسلطنة العوذلي، وسلطنة الفضلي، واتحاد دثينة، وسلطنة يافع العليا، وسلطنة يافع السفلى، وسلطنة لحج، ومشيخة العقربي، ومشيخة العلوي، ومشيخة الحواشب، وإمارة الضالع، ومشيخة شعيب، ومشيخة مفلحي، ومشيخة ردفان.
لقد حرص الاستعمار البريطاني على إبقاء هذه المحميات في حالة تخلف شديد وعدم استقرار، وعمل على تعميق التناحر القبلي والمناطقي، تجسيدًا للمبدأ الشهير "فرّق تسد". في مقابل ذلك حظيت "مستعمرة عدن" باهتمام خاص، نظرًا لموقعها الاستراتيجي ومينائها الذي لبّى مصالح بريطانيا الاقتصادية والعسكرية والاستراتيجية، ومع ذلك لم يعمل الاستعمار على إيجاد قاعدة اقتصادية حقيقية في عدن، بل حرص على توظيف الميناء كمنطقة ترانزيت لاستقبال البضائع وتمويل السفن بالبترول والفحم.
لم يقف نهج الاستعمار البريطاني عند هذه الأساليب "الناعمة"، بل استخدم كذلك أساليب "خشنة" لإخضاع القبائل والمناطق التي لم يتمكّن من استمالتها، حيث استند إلى "سلاح الجو الملكي" (R.F.A) و"قوات محمية عدن" المسمّاة (اللّيوي LEVIES) وأجهزة المخابرات، لإحكام سيطرته وقمع أي مقاومات محلية.
رغم هذه الأساليب الاستعمارية وتنوّعها، لم يلِن لليمنيين قناة ولم تهِن لهم عزيمة عن منازلة الاستعمار البريطاني، التي بدأت على هيئة مقاومات قبلية وانتفاضات عفوية، أخذت تتطور مع مرور الزمن حتى اكتسبت طابعًا وطنيًّا وتنظيمًا حديثًا بظهور النقابات العمالية والأحزاب والتنظيمات السياسية الوطنية، مطلع النصف الثاني من القرن العشرين.
لعب نشوء التنظيمات والأحزاب السياسية والصحافة العدنية والأندية الثقافية، دورًا مهمًّا في نشأة وتطور النقابات العمالية، وأبرز تلك التنظيمات: "رابطة أبناء الجنوب العربي"، و"الجبهة الوطنية المتحدة"، و"الاتحاد الشعبي الديمقراطي".
المقدمات الموضوعية لنشوء الحركة العمالية:
بدأت الحركة العمالية الحديثة بالنمو، وبشكل ملحوظ، منتصف ثلاثينيات القرن العشرين في الشطر الجنوبي من الوطن، وبالتحديد في مدينة عدن.
وقد ساهمت عدة عوامل في هذا التشكُّل، أبرزها:
بالإضافة إلى تطوير ميناء عدن لأغراض خاصة به، فمن خلاله سيطرت الشركات البريطانية الاحتكارية على التجارة الداخلية والخارجية، وكل هذا خلق فرص عمل استقطبت العديد من العمال، سواء العدنيين أو العمال الوافدين من خارج عدن.
تطور نضالات الحركة العمالية في مواجهة الاستعمار وسياساته:
يمكن التمييز بين ثلاث مراحل تطورية مرت بها الحركة العمالية النقابية في نضالها الوطني والاجتماعي ضد الاستعمار البريطاني وأعوانه، وذلك على النحو الآتي:
أولًا: مرحلة البدايات الأولى (1935 – 1950):
بدأت الحركة العمالية تتحسس طريقها من خلال أشكال أولية على نحو "جمعيات ونوادٍ عمالية"، اتخذ بعضها طابعًا مناطقيًّا، ومن أبرزها:
وإزاء تنامي عدد الجمعيات والنوادي العمالية، قامت الإدارة الاستعمارية بسنّ "قانون النقابات" عام 1942، كعملية استباقية من طرفها لتقييد حركة العمال، مثل اشتراط عدم الشروع بأي إضراب إلا بعد إشعار صاحب العمل، والتعريف بالجمعية أو النقابة التي ستنفذ الإضراب والقائمين عليها.
ولكن ذلك لم يُثنِ العمال عن تنفيذ الإضرابات؛ فقد شهد عقد الأربعينيات سلسلة من الإضرابات والانتفاضات العمالية التي كانت دوافعها -في الغالب- مطلبية، كالمطالبة بتحسين ظروف العمل ورفع الأجور.
وفي تطور لافت للنضال العمالي ضد السياسات البريطانية، خاض عمال ميناء عدن عام 1948، معركة شرسة ضد الاستعمار البريطاني احتجاجًا على تقسيم فلسطين ودور بريطانيا الداعم لقيام دولة إسرائيل. وقد واجهت السلطات الاستعمارية هذه الانتفاضة العمالية بعنف وحشي، وقامت بطرد الكثير من العمال إلى الشطر الشمالي "المملكة المتوكلية" حينها، وإلى ما عُرف بـ"المحميات الشرقية والغربية". وكان لهذا الحدث أثره الحاسم في تبلور وعي العمال بضرورة تنظيم أنفسهم في إطار نقابات عمالية منظمة وقوية.
ثانيًّا: مرحلة الارتقاء والنضوج (1951 – 1962):
في مستهل خمسينيات القرن العشرين، بدأت الحركة العمالية اليمنية في التعبير عن نفسها بين ثلاثة تيارات سياسية، هي:
وعبّر هذا التيار عن مصالح البرجوازية التجارية العدنية التي ارتبطت بالمستعمر. وعُرف بالنزعة الانفصالية الضيقة التي نادت بالحكم الذاتي لأهالي عدن. واتخذ مواقف عدائية تجاه العمال المهاجرين القادمين، سواء من المناطق الجنوبية أم من الشطر الشمالي.
وقد مثلت الرابطة أولى المنظمات السياسية في جنوب اليمن، ورفعت في بادئ الأمر شعارات تنادي بوحدوية الجنوب، وشعارات قومية، وشعارات وطنية ضد الاستعمار.
وانخرط في صفوف الرابطة خليط من السياسيين من ذوي التوجهات السياسية والمنابت الطبقية المختلفة. فقد ضمت في صفوفها من أبناء الأسر السلاطينية والعائلات الغنية إلى جانب القوميين والماركسيين. وبسبب هذا الخليط غير المتجانس، شهدت الرابطة انشقاقات في صفوفها، لاسيما عام 1955، بعد أن شاركت قيادة الرابطة في انتخابات المجلس التشريعي الشكلية، التي أشرفت عليها السلطات الاستعمارية في "مستعمرة عدن".
بدأت الحركة العمالية والنقابية وعموم فصائل الحركة الوطنية تتبين بوضوح أنه بدون وحدة النضال ضد الحكم الإمامي في شمال البلاد والاستعمار في جنوبها لا يمكن أن يحقق الشعب اليمني أهدافه الوطنية والاجتماعية
شهدت بداية هذه المرحلة توالي نشوء النقابات العمالية؛ فقد شهد العام 1951، نشوء نقابة "رابطة عمال الصناعات المتنوعة"، وفي 1952، تأسس "اتحاد عمال وموظفي شركة عدن للطيران". وخلال العام نفسه والعام الذي تلاه، تأسست نقابة عمال شركة "البس"، ونقابة عمال شركة "لوك توماس"، وعمال شركة "كوري براذرز" وغيرها. وقد وصل عدد النقابات والاتحادات العمالية حتى العام 1955، إلى (12) نقابة واتحادًا عماليًّا.
كما تنامى الحراك النقابي بصورة مطردة، ففي العام 1955 نفّذت النقابات حملة مقاطعة انتخابات مجلس عدن التشريعي، التي رأت أنها انتخابات شكلية وتلبي مصالح السلطات الاستعمارية، وقد انضمت لحملة المقاطعة تلك، كل الهيئات والمنظمات الوطنية، عدا حزبي "الجمعية العدنية" و"رابطة أبناء الجنوب".
لقد كانت هذه المقاطعة بمثابة تظاهرة مهمة، كشفت عن قوة الحركة العمالية وأهميتها. كما مثلّت أول موقف سياسي للنقابات، ليس فقط ضد الاستعمار، وإنما أيضًا ضد الأحزاب السياسية التي شاركت في تلك الانتخابات "المزيفة".
لقد كان من نتائج مشاركة الرابطة في هذه الانتخابات، أن حدث انشقاق بعض الوطنيين والنقابيين منها، وقيامهم بتأسيس كيان سياسي جديد هو "الجبهة الوطنية المتحدة"، بزعامة محمد عبده نعمان الحكيمي رئيس نقابة المعلمين، وعبدالله الأصنج رئيس نقابة شركة طيران عدن، ومحمد سالم علي رئيس نقابة عمال المواصلات، وعبدالقادر الفروي رئيس نقابة شركة "لوك توماس"، وعبده خليل سليمان رئيس نقابة عمال الميناء، وعبدالله عبدالرزاق باذيب سياسي وصحفي ذو تأثير واسع.
وبدأت الحركة العمالية والنقابية وعموم فصائل الحركة الوطنية تتبين بوضوح أنه بدون وحدة النضال ضد الحكم الإمامي في شمال البلاد والاستعمار في جنوبها لا يمكن أن يحقق الشعب اليمني أهدافه الوطنية والاجتماعية.
إعلان "الجبهة الوطنية المتحدة" عبّر أساسًا عن وجود جناح يساري في الحركة الوطنية في ذلك الوقت، وخاصة في 1955، وعن تطلعات العمال وصغار الموظفين والطلبة إلى الحرية والوحدة الوطنية.
لقد أدرك الاستعمار البريطاني خطورة هذا النهج الجديد الذي أرسته الجبهة الوطنية المتحدة، فعمل على نفي قادتها، وكان أبرز من تم نفيه محمد عبده نعمان، الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة ورئيس نقابة المعلمين.
استمرت عملية نفي القيادات النقابية والسياسية، وكذلك العمال؛ فحتى بداية العام 1956، وصل عدد العمال المنفيين من عدن حوالي (700) عامل. سبّب هذا النفي أزمة في الكوادر المجرّبة والواعية في قيادة النقابات، الأمر الذي اضطر الجبهة الوطنية المتحدة والنقابات إلى التفكير الجدي في إنشاء اتحاد يضم كل النقابات في عدن.
تشكيل مؤتمر عدن للنقابات:
يعد تأسيس مؤتمر عدن للنقابات في 3 مارس/ آذار 1956، أهم حدث ميّز تلك المرحلة، فقد مثّل المؤتمر إطارًا نقابيًّا توحيديًّا لجميع النقابات التي بلغ عددها في ذلك الوقت (25) نقابة، وهي:
وتشكلت قيادة مؤتمر عدن للنقابات من: زين صادق الأهدل رئيسًا، وعبدالله عبدالمجيد الأصنج أمينًا عامًّا، وعضوية: علي حسين القاضي، وعلي عثمان جرجرة، وعبده خليل سليمان، ومحمد سعيد مسواط، ومحمد سالم علي، وعبدالله علي عبيد، وعبدالقادر فروي، ومحمد أحمد الزليخي، وغيرهم.
وقد تضمّن النظام الأساسي للمؤتمر شعارات تقدمية، ودخلت فيه عناصر قيادية تقدمية كان لها إسهام كبير في تنظيم الحركة العمالية.
ما من شك، أن واقع الاستغلال الذي مارسته الشركات الاحتكارية، وواقع القهر الذي مارسه الاحتلال البريطاني، وصعود القومية العربية، وأصداء ثورة 23 يوليو/ تموز 1952 المصرية، قد وفرت الأرضية الملائمة لنشوء النقابات وانتظامها في كيان نقابي موحد.
هذه الخطوة شكّلت أهمية كبيرة على صعيد الحركة العمالية والحياة السياسية في البلاد، فقد أصبحت الحركة العمالية قوة اجتماعية وسياسية مؤثرة في المشهد الوطني، واكتسبت نضجًا وتمرسًا في النضال. وتعددت أساليب نضالها بين الإضرابات والمظاهرات والانتفاضات، كما انخرطت بفاعلية في النضال الوطني الساعي إلى تحرير الشطر الجنوبي من سيطرة الاستعمار البريطاني، وتخليص الشطر الشمالي من قبضة الحكم الإمامي "الكهنوتي"، والتطلع إلى تحقيق الوحدة اليمنية.
شهدت الفترة من 1958 – 1960، حركة احتجاج عمالي، نشطة للغاية في عدن، إذ نُفّذ خلالها حوالي (130) إضرابًا عماليًّا ضد السياسات الاستعمارية والإجراءات التعسفية بحق العمال، بما في ذلك منع السلطة الاستعمارية اليمنيين والعرب من دخول عدن
ومع ذلك، لم يكن وضع مؤتمر عدن للنقابات منذ تأسيسه مستقرًا، فقد بدأت الانقسامات والصراعات تتكشّف بين اتجاهين أساسيين:
الاتجاه الأول: الاتجاه "التريديونيوني" الإصلاحي/ الاقتصادوي، بقيادة عبدالله الأصنج الذي أراد حصر نشاط المؤتمر والنقابات في الجانب المطلبي الاقتصادوي فقط، وعزله عن النشاط السياسي والنضال الوطني العام تحت دعاوى غير مقنعة.
الاتجاه الثاني: الاتجاه الثوري "اليساري"، الذي أكد على ارتباط وتواشج مسار النضال النقابي المطلبي بمسار النضال الوطني العام؛ فالقهر والاستغلال الذي يطال -سواء العمال أم المواطنين اليمنيين- ينبثق من منبع واحد وهو الاستعمار البريطاني وشركاته الاحتكارية وحلفاؤه من السلاطين والقوى الإقطاعية. وعليه أدركت القيادات النقابية الثورية أنه لا يمكن تحقيق خلاص جزئي للحركة العمالية إلا في إطار وحدة النضال الوطني، وتحقيق الخلاص العام لليمن من الاستعمار وأعوانه في الجنوب، ومن النظام الإمامي في الشمال.
يشير عمر الجاوي في كتابه "الصحافة النقابية في عدن (1957 – 1967)"، إلى أن محاولات الأصنج وجماعته لصرف النقابات عن الانخراط في النضال الوطني العام، جاء بتأثير من حزب العمال البريطاني الذي وضع ضمن أهدافه توجيه النقابات في المستعمرات على أساس "النقابية" المحددة سلفًا بالمطالب الاقتصادية والابتعاد عن السياسة؛ فلقد زار عدن الكثير من النقابيين الإنجليز بحجة المساعدة في تنظيم النقابات. ونتيجة لنشاطهم حدثت بعض التغييرات في تركيبة قيادة مؤتمر عدن للنقابات وفي الدستور "النظام الأساسي". وتمكن الخبراء المرسلون من النقابات البريطانية من إقناع قيادة مؤتمر عدن للنقابات، بتطرف الدستور الأول "ويساريته"، التي لا يمكن أن تساعد على إيجاد لغة مشتركة بين النقابات والشركات الاحتكارية في عدن.
وكان من ثمار هذه المساعي أن تم تغيير الدستور الأول للمؤتمر، وإصدار دستور جديد لم ينصّ لا من قريب ولا من بعيد، على نضال العمال من أجل تحقيق أهدافهم السياسية والطبقية المشروعة.
كما تم تغيير الشعار من "الخبز، الحرية، السلام" ورفع شعار قومي: "وحدة، حرية، اشتراكية"، وتغيير الاسم من "مؤتمر عدن للنقابات" إلى المؤتمر العمالي عام 1958.
يضيف الجاوي قائلًا: يفسر هذا التقبُّل السريع لمثل هذه السياسة "الغربية" المنشأ، الانحياز الطبقي والفئوي للقادة في المؤتمر العمالي، الذين لم ينتموا حقيقةً إلى العمال. فعلى سبيل المثال: كان رئيس مؤتمر عدن للنقابات العيدروس واحدًا من أكبر التجار الوسطاء في عدن، والأمين العام للمؤتمر عبدالله الأصنج مديرًا لفرع شركة الطيران البريطانية (BOAC)، ولقد ساعدته السلطات والشركة في القفز على رأس مؤتمر عدن للنقابات.
هذا التغيّر لم يحُل دون تطور نشاط الحركة العمالية وتناميه. فقد شهدت الأعوام (1958 – 1960) حركة احتجاج عمالي، نشطة للغاية، إذ نُفّذ خلال الفترة المذكورة حوالي (130) إضرابًا عماليًّا ضد السياسات الاستعمارية والإجراءات التعسفية بحق العمال، التي منها قيام السلطة الاستعمارية بمنع دخول اليمنيين والعرب إلى عدن بهدف البحث عن فرص عمل ومنحها هذا الحق لغيرهم من الأجانب ومواطني دول الكمنولث. وكذلك قيامها بإصدار قانون "تنظيم العلاقات الإنتاجية" في أغسطس 1960، وقد تضمّن القانون تحريم الإضرابات، وإنشاء محكمة عمالية تقوم بحل الخلافات والمنازعات التي تحدث بين العمال وأرباب الأعمال. ومثّل هذا القانون سوطًا على رقاب العمال، وتسبّب بتداعيات كبيرة تمثّلت في حالة سخط عام وشمول الإضرابات العمالية مختلف القطاعات.
كان موقف قيادة المؤتمر العمالي مواربًا إزاء ذلك، فقد حاولت تقديم تنازلات للسلطات ودعت العمال للكف عن الإضرابات تحت ذريعة "الحفاظ على وحدة الحركة النقابية"، وفي الوقت نفسه لم تعترف بالقانون المعادي للعمال. غير أن القيادات النقابية الثورية واصلت تنظيم الإضرابات، بينما ظلّت القيادة الإصلاحية تصوّب جهودها نحو عقد اتفاقات بين النقابات وأرباب العمل من شأنها تخلّي العمال عن الإضرابات.
تواصلت -إذن- الإضرابات العمالية، بل اتسع نطاقها لتتخذ طابعًا جماهيريًّا أكثر تنظيمًا وعمقًا، رغم وجود قانون يمنع الإضراب ورغم الموقف المتخاذل للقيادة الإصلاحية في المؤتمر العمالي. وكان من أبرز تلك الإضرابات: إضراب نقابة العمال والفنيين 1961، وإضراب المزارعين في لحج وأبين والعواذل، ضد سيطرة الإنجليز على السوق المركزية لبيع الخضار والفواكه 1961، وإضراب عمال المصافي في يناير 1962، والانتفاضة الطلابية في فبراير 1962 ضد السياسة التعليمية الاستعمارية، وإضراب عمال القاعدة العسكرية في 11 أبريل 1962. كما شاركت النقابات العمالية بفعالية في تنظيم المظاهرات الجماهيرية التي اندلعت في 24 سبتمبر 1962 ضد انضمام عدن إلى اتحاد الجنوب العربي، أي قبيل اندلاع ثورة 26 سبتمبر في الشطر الشمالي بيومين فقط، تلك الثورة أطاحت بنظام الإمامة، وأعلنت عن قيام الجمهورية العربية اليمنية، وقد كان لهذا الحدث التاريخي أثره الكبير في تنامي نشاط الحركة الوطنية في الشطر الجنوبي كمًّا ونوعًا وتعزيز وحدة النضال الوطني. إذ أخذت الحركة العمالية، ومعها فصائل الحركة الوطنية الأخرى في عدن وعموم المناطق الجنوبية، على عاتقها دعم الثورة ونظامها الجمهوري الوليد، إيمانًا منها بوحدة النضال الوطني والمصير المشترك. وسارعت إلى تفويج الآلاف من العمال والفلاحين والشباب والطلبة المتطوعين إلى شمال الوطن للذود عن الثورة ضد هجمات القوات الإمامية المدعومة من المملكة العربية السعودية والسلطات الاستعمارية البريطانية، ودول أخرى.
في هذا المضمار لعبت المنظمة الشبابية للاتحاد الشعبي الديمقراطي، بقيادة النقابي عبدالله عبدالمجيد السلفي، دورًا رياديًّا إلى جانب المكونات الأخرى، أبرزها قبائل ردفان، بقيادة الشيخ غالب بن لبوزة الذي اشترك في القتال في صفوف القوى الجمهورية، ثم إثر عودته إلى الجنوب أسهم في تفجير ثورة 14 أكتوبر 1963، التي أعلنت بدء سريان الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني.
ثالثًا: مرحلة الحسم والانتصار (1963 – 1967):
جاءت الأحداث والتطورات التي شهدها الشطر الجنوبي من الوطن منذ بداية عام 1963، لتزيد من حدة الاستقطاب في أوساط الحركة النقابية، واضعة المؤتمر العمالي على مفترق طرق، ويمكن تبيان ذلك من خلال موقفين مهمّين:
الموقف الأول: انطلاق شرارة ثورة 14 أكتوبر 1963، من جبال ردفان، وبدء سريان الكفاح المسلح بقيادة الجبهة القومية ضد الاستعمار البريطاني، وقد أعلنت القيادات النقابية الثورية عن مساندتها لهذا الخيار، فيما وقفت قيادة المؤتمر العمالي على النقيض من ذلك؛ ووضعت رهانها على خيار المفاوضات مع الاستعمار.
ولمّا كشفت الأيام خطأ موقف قيادة المؤتمر العمالي، والتفاف الجماهير حول الجبهة القومية وخيار الكفاح المسلح، حاولت قيادة المؤتمر العمالي أن تتدارك الأمر؛ ففي منتصف العام 1965، أعلن عبدالله الأصنج وجماعته عن تشكيل "منظمة تحرير الجنوب المحتل"، وقد ضمّت هذه الجبهة قادة "رابطة أبناء الجنوب العربي" وعدد من السلاطين والمشائخ، وكان الهدف من وراء تشكيل هذه الجبهة هو مواجهة "الجبهة القومية" التي بدأت تكتسح الساحة الوطنية، لكن أتت الرياح بخلاف ما "يشتهي السفن".
"لقد وضع هذا الحدث النهاية المؤسفة لقادة المؤتمر العمالي كونهم اشتركوا مع الرابطة التي تعتبر أكثر المنظمات رجعية في المنطقة، وانتهى معهم تاريخ من الخداع السياسي للعمال من قبل القادة"، وفقًا لتوصيف عمر الجاوي.
الموقف الثاني: في مايو 1965، نفذ أول عمل تضامني عمالي، نظمته العناصر الثورية في النقابة العامة لعمال البترول، تضامنًا مع عمال المصافي الذين تعرضوا للطرد من قبل إدارة الشركة، وكان عددهم (200) عامل، حيث امتنع العمال عن العمل؛ ما تسبّب بشل الحركة في عموم البلاد، فقد تعطلّت المطارات والموانئ ووسائل النقل البرية في عدن وفي "المحميات الشرقية والغربية"، وبذلك استطاعت النقابة من خلال هذه الخطوة أن تُرغم إدارة شركة المصافي على إعادة العمال المطرودين ودفع رواتبهم كاملة.
اتخذت قيادة المؤتمر العمالي موقفًا سلبيًّا حيال هذه القضية وتخلّت عن العمال، وكشفت هذه الخطوة عن حاجة العمال لقيادة نقابية ثورية تتبنى قضايا العمال وتقف إلى صفهم، قيادة بديلة عن القيادة المتربعة على رأس المؤتمر العمالي.
كما أكدت هذه الخطوة على قيمة الوحدة النقابية والتضامن العمالي؛ فوعي العمال وتضامنهم ووحدتهم، كفيل بإرغام الرأسمال المستغل للانصياع لشروطهم وتحقيق مطالبهم.
كان من نتائج ذلك أن تغيّر التركيب الداخلي للمؤتمر العمالي، فمن التسعة الاتحادات التي تشكّل قوام المؤتمر، انسحب ستة، وسموا أنفسهم بالنقابات الست، وهي:
تكشف التجربة النضالية للنقابات الست عن دروس مهمة في النضال الوطني، وأساليب العمل بين الجماهير. لقد حققت هذه النقابات الست انتصارات متتالية على القيادة الإصلاحية، واستطاعت كسب القاعدة العمالية العريضة، وذلك بفعل العوامل الآتية:
ومن المهم الإشارة هنا إلى الدور الذي لعبه "الاتحاد العام لعمال اليمن" في الشطر الشمالي (تأسس في 17 يوليو 1965) في دعم نضال الحركة العمالية في الشطر الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني. فقد أعلن الاتحاد موقفاً مؤيداً لثورة 14 أكتوبر 1963، فور انطلاقتها، وأكد على قضية الوحدة اليمنية منذ أول وهلة، إذ لم تأتِ تسمية الاتحاد منذ تأسيسه باسم "الاتحاد العام لعمال اليمن" عفوية، بل كان الهدف منها التأكيد على رفض العمال في الشطر الشمالي للتجزئة السياسية القائمة لليمن، وإلى عدم الاعتراف بشرعية القيادة النقابية المهيمنة على المؤتمر العمالي بعدن. ليس ذلك وحسب، بل قام الاتحاد بإقامة تنسيق مباشر مع النقابات الست الثورية في الجنوب، وعمل معها بشكل موحد ومنسجم, ومن ذلك: ما حدث في المؤتمر الثالث لاتحاد العمال العرب المنعقد في العام 1966؛ فقد رفض الأصنج، رئيس المؤتمر العمالي، السماح لممثلي النقابات الست بحضور المؤتمر، فما كان من الاتحاد العام لعمال اليمن إلا أن قام بمنح نصف مقاعده في المؤتمر لممثلي النقابات الست، وهكذا أمكن للنقابات الست إيصال صوتها وتفنيد ادعاءات رئيس المؤتمر العمالي- الأصنج.
بُعيد تحقيق الاستقلال تغيّر اسم المؤتمر العمالي إلى "الاتحاد العام لعمال اليمن الجنوبية"، وضم في إطاره (8) نقابات عامة بعد توحيد كياناتها، وشكّل له فروعًا في مختلف المحافظات الجنوبية، وأصدر صحيفة صوت العمال كصحيفة ناطقة بلسان حال الاتحاد.
1- د.أحمد عطية المصري، النجم الأحمر فوق اليمن، مؤسسة الأبحاث العربية، لبنان، ط3/ 1988.
2- د.سلطان عبدالعزيز المعمري، مساهمات ورؤى في بعض قضايا التاريخ اليمني؛ دراسات تحليلية تقويمية، ط1/ 1998.
3- عبدالله علي مرشد، نشوء وتطور الحركة النقابية والعمالية في اليمن، دار ابن خلدون - بيروت، وزارة الثقافة – عدن، ط1/ 1981.
4- عمر الجاوي، الصحافة النقابية في عدن (1957 – 1967)، مؤسسة 14 أكتوبر، عدن، (د.ت).
5- فيتالي ناؤومكين، الجبهة القومية في الكفاح من أجل استقلال اليمني الجنوبية والديمقراطية الوطنية، دار التقدم، موسكو، 1984.