الثلاثينيّ عبدالله محسن، أحد مشتهي الأكلات الشعبية (السلتة، الفحسة، العصيد)، أصيب بتسمم غذائي في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، بأحد المطاعم العاملة بمنطقة وسط العاصمة اليمنية صنعاء، أثناء تناوله على الغداء "الفحسة"؛ وهي وجبة تتكون من لحم مطبوخ على درجة حرارة عالية، مضافًا إليها "المَرَق" والبهارات، ويتم تناولها مع الخبز.
يشرح محسن لـ"خيوط"، ما حصل له، بالقول: "بعد الانتهاء من تناولي هذه الوجبة ومغادرتي المطعم، بدأت أشعر بمغص في البطن، وما هي إلا لحظات حتى اشتدّ ذلك المغص ليتطور إلى قيء متواصل وصداع، حينها أخذني أحد الأصدقاء إلى وحدة صحية قريبة، وبعد إجراء الفحوصات الطبية اتضح أنّني أصبت بتسممٍ غذائي؛ قرر لي الطبيب -على إثرها- بعض الأدوية والمغذيات، وأُعطيَت لي في ذلك الوقت للحدّ من تفاقم وضعي".
ويحمّل محسن وزارةَ الصحة، في المقام الأول، مسؤوليةَ الإهمال وعدم تفعيل الرقابة للاهتمام بنظافة المطاعم الشعبية، بالإضافة إلى مسؤولية الجهات الأخرى التي لا تقوم بواجبها الرقابي وتفعيل لجان التفتيش المستمر وتنظيم حملات توعوية دورية لتعريف الناس بمخاطر إهمال النظافة والالتزام بالمواصفات والمعايير الصحية التي تسعى للحفاظ على صحة المستهلك.
وتنتشر المطاعم المتخصصة بمثل هذه الوجبات في صنعاء ومدن يمنية أخرى، في الأسواق والمناطق الشعبية وأماكن بيع (القات)، والأسواق التجارية، وأماكن النقل والمواصلات التي يطلق عليها "الفِرْزات"، لكن بعض هذه المطاعم لا تلتزم بالنظافة والمواصفات والمعايير الصحية التي ينبغي توافرها بالضرورة، في مثل هذه الأعمال الخاصة بتقديم وجبات الطعام.
إنشاء هيئات قياسية
في السياق، يحمّل إبراهيم مسعد -أحد المواطنين- في حديث لـ"خيوط"، ملّاكَ المطاعم مسؤوليةَ عدم الاهتمام بمظهر ونظافة المكان، حيث يقول: "في كثير من المطاعم لا يعيرون اهتمامًا لنظافة المكان ومظهره، إذ يعمد البعض إلى استئجار "دكاكين" صغيرة بمبالغ زهيدة، ومن ثَمّ تحويلها إلى مطعم لتقديم الوجبات، إضافة إلى استعانتهم بعاملين لا يملكون الخبرة في إعداد الطعام والحفاظ على نظافة الوجبات التي يعدّونها ونظافة المكان، الأمر الذي يجعل صحة الناس عرضة للعديد من الأمراض والأوبئة".
تنقلت في عدة مطاعم شعبية في العاصمة صنعاء، واكتشفت عدم وجود فرق بين سياسة أصحاب المطاعم في مسألة توخي استبدال مياه غسل الأطباق، وفي عدد من التفاصيل الأخرى المتعلقة بتحري النظافة".
مسعد، ينصح بإنشاء هيئات ومعاهد يشرف عليها متخصصون في الطهي وإعداد الوجبات اليمنية الشعبية، لتأهيل الشباب والعاملين في هذا الجانب، في مهارة الطبخ وإعداد الطعام، إلى جانب اختبار مدى تطابق وجبات هذه المطاعم مع ما يفترض أن تكون عليه، طبقًا لمعايير معينة تضعها هذه الهيئات، حفاظًا على صحة المستهلكين الذين يرتادون المطاعم، خاصة الشعبية منها.
ويلاحظ أنّ كثيرًا من هذه المطاعم عبارة عن "دكاكين" صغيرة، لا تتجاوز مساحتها ثلاثة أو أربعة أمتار، ممّا يدفع ملاكها إلى وضع طاولات الطعام في الرصيف، وإعاقة حركة مرور الناس من أجل استقبال الزبائن وتقديم الخدمة.
ويتحدث أحد العاملين بمطعم في منطقة الحَصَبة (شمال صنعاء)، لـ"خيوط"، عن الطريقة التي تتم بها عملية التنظيف، قائلًا: "عندما ينتهي الزبون من أكل الطعام، يتم رفع الأطباق، وغسلها في حوض الغسيل، دون أن يتم استبدال المياه على رأس كل ساعة من قبل معظم العاملين على غسل الصحون والأطباق".
ويتابع: "تنقلت في عدة مطاعم شعبية في العاصمة صنعاء، واكتشفت عدم وجود فرق بين سياسة أصحاب المطاعم في مسألة توخي استبدال مياه غسل الأطباق، وفي عدد من التفاصيل الأخرى المتعلقة بتحري النظافة".
ويشكو كثير من عمال المطاعم، من انخفاض أجورهم، كما يوضح هذا العامل -الذي فضّل عدم ذكر اسمه- بقوله: "منذ اليوم الأول من التحاقنا بالعمل، يصارحنا المالك بأنّ الرواتب ستكون متدنية، لكنه يخبرنا أنّ بإمكاننا بيع بقايا (الطعام الراجع)، للأشخاص الذين يدفعون مبالغ بسيطة للحصول على أي طعام يسدّ رمق جوعهم، مثل "المهمشين والنازحين، والمهاجرين الأفارقة".
صمت بالرشوة
"الوساطة فوق القانون"، بهذه الكلمات الثلاث ردّ حلمي توفيق (اسم مستعار)، مالك مطعم، عند سؤاله عن دور الجهات العامة المختصة في عملية الرقابة على الخدمات التي تقدّمها المطاعم الشعبية في العاصمة صنعاء.
تكرار استخدام زيوت القلي طيلة الأسبوع، علاوة على تردي جودتها، يعتبر من الأخطار الجسيمة المحدقة بصحة المستهلكين.
يتحدث توفيق لـ"خيوط"، بالقول: "هناك أشخاص معروفون لدينا، سواء في وزارة الصحة أو في مكتب البلدية والأشغال، تربطنا بهم مصالح مشتركة. حين يتم النزول من قبلهم إلى المطاعم من أجل التفتيش، لا يُشعرنا ذلك بأي قلق، لأنّ الأمر معروف لدينا مسبقًا؛ سوف يتم دفع مبلغ من المال، بالإضافة إلى الغداء الذي يتناوله هؤلاء الأشخاص في المطعم، ويتم صرف النظر عن أي مخالفات قائمة".
من جهته، يؤكّد عبدالجبار علي، محاسب مالي في أحد المطاعم منذ أربع سنوات، لـ"خيوط"، أنّه لا وجود لعملية رقابة حقيقية من قبل الجهات الحكومية؛ لأنّ أغلب اللجان التي تقوم بحملات تفتيش، تبيع شرف مهنتها مقابل بعض المال، وفق تعبيره.
ويعكس الوضع القائم ما يقوله هذا المحاسب، مع غياب النظافة، والفوضى التي تطال عملية تقديم الخدمة، وعدم التزام البعض بالمواصفات والمعايير المطلوبة في مكونات الوجبات المقدَّمة.
ويشير الصحفي المتخصص في الجانب الطبي والصحي، في حديث لـ"خيوط"، إلى أنّ أغلب هذه المطاعم عبارة عن مرتع خصب لانتشار الأمراض والعدوى، بسبب عدم التزام أصحابها بإجراءات وتعليمات النظافة الصحية، مستغلة غياب رقابة الجهات الرسمية المتخصصة.
ويضيف أنّ تكرار استخدام زيوت القلي طيلة الأسبوع، علاوة على تردّي جودتها، يعتبر من الأخطار الجسيمة المحدقة بصحة المستهلكين.
الطعام الرخيص
يُرجِع الكثيرُ إقبالَ اليمنيين على هذه المطاعم، إلى تردي أوضاعهم المعيشية وضعف قدراتهم الشرائية، إذ يوضح الباحث الاقتصادي نبيل الشرعبي لـ"خيوط"، أنّ المواطن اليمني يبحث عمّا يملأ معدته، ويتناسب مع ما يملكه من مال. في حين القليل جدًّا، من ينتبه للجوانب الصحية فيما يأكل، ولذلك غدت المطاعم الشعبية وجهة للغالبية من ذوي الدخل المحدود باليمن.
وتؤكّد الجمعية اليمنية لحماية المستهلك، أنّ دورها شعبي مساند للجهات الرسمية وليست جهة تنفيذية، بمعنى أن دورها يقتصر على الرقابة، وإبلاغ الجهات الرسمية المختصة، مثل: الصحة، والبيئة، والمواصفات والمقاييس وضبط الجودة، وغيرها من الجهات المعنية بالضبط والإلزام.
ويقول صالح غيلان، أمين عام الجمعية، في حديثه لـ"خيوط"، إنّ لائحة الاشتراط بالنسبة للمحال الضيقة كالمطاعم الشعبية وغيرها، وفق قرار مجلس الوزراء رقم (111)، تنص على ضرورة أن تكون هناك مساحة كافية لمحل إعداد الأغذية ومحالّ تقديم الأطعمة، بحيث يكون المحل مقسّمًا إلى عدة أجزاء، مثل محل التحضير، والمطبخ، وصالة جلوس الزبائن، والمغسلة، والحمام، والمرافق الصحية الخاصة، وهو ما لا تتقيد به أغلب هذه المحالّ، حيث نجدها أشبه بدكان، تفتقر للتهوية والإضاءة المناسبة، والمرافق الصحية، والمعقمات والمنظفات.
*تحرير خيوط