يشكو الأربعيني عمار هادي، من صعوبة في التنفس، ويعاني من ضيق في الشعب الهوائية، وتحسُّس في جيوبه الأنفية تجاه الأتربة والدخان وعوادم السيارات.
يعيش هادي في مدينة صنعاء التي ترتفع 3666 متراً عن سطح البحر، والمعروفة بنقص الأوكسجين، كما أنها (بحسب تقرير الجودة البيئية للحياة في بلدان العالم) تعاني من انحسار في المساحات الخضراء، وبالمقابل من تلوث شديد في الجو، مما تسبب بإصابته وكثيرين غيره بأمراض تنفسية.
بملامح حزينة تحدث هادي عن تفاقم حالته الصحية، خلال السنوات الثلاث الفائتة، بينما كان يعتمد في التداوي على ما يقرره له الصيدلاني، أو ما ينصحه به بعض أصدقائه من أدوية، مؤكداً في تصريح لـ "عوافي"، بأن جميع تلك الأدوية التي استخدمها لم تخفف معاناته بل زادت من المضاعفات التي أوصلته إلى مرحلة الخطر، حد قوله.
حين وجد هادي صعوبة بالغة في التنفس ومعاناة وصفها بـ"العذاب" لجأ إلى أخصائي أمراض تنفسية، الدكتور منصور ثابت، حيث يتلقى منذ أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الفائت العلاج تحت إشراف الأخصائي، آملاً في استعادة قدرته على التنفس بشكل طبيعي دون معاناة.
ليس أكثر ألماً من محاولة مضنية لمريض يمر بمرحلة متقدمة من أحد الأمراض التنفسية، ولا يستطيع الحصول على جرعة هواء نقية. الأصحاء القادرون على التنفس جيداً لا يشعرون بمقدار عذاب ذلك المريض الذي لا يهمه شيء آخر في الحياة غير التنفس.
إحصائيات مفزعة
أعلنت وزارة الصحة في صنعاء نهاية تشرين الثاني/ ديسمبر الفائت، في مؤتمر صحفي أن عدد الإصابات المسجلة بالأمراض التنفسية العلوية (الأنف، والجيوب الأنفية، والحنجرة، والبلعوم، والقصبة الهوائية، والشُّعب الهوائية الكبرى، والنزلة البردية، والتهاب الحلق، والتهاب الجيوب الأنفية، والْتِهاب الرُّغامَى والقصبات)، بلغت مليونين و106 آلاف و534 حالة.
بينما بلغت حالات الإصابة بالأمراض التنفسية السفلية (تتضمن ثلاثة أنواع من العدوى الرئيسية: التهاب الشعب الهوائية، التهاب القصبات، الالتهاب الرئوي) 760 ألفاً و656 حالة، توفي منها 7 حالات، وفقاً لبيان وزعته خلال المؤتمر، وبلغ عدد الالتهابات التنفسية "حادة وخيمة" أربعة آلاف و550 حالة، توفي منها 322 حالة.
وأفادت الوزارة أن هناك عوامل عديدة أدت إلى انتشار مثل هذه الأمراض، من أهمها "النزوح، وانتشار الأمراض الجلدية والتنفسية، وانعدام المياه والصرف الصحي، واستهداف المرافق الصحية بالقصف المباشر، وغير المباشر"، بالإضافة إلى "انعدام المشتقات النفطية في المرافق الصحية، ومنع دخول الأجهزة التشخيصية، والأدوية الحيوية، وهذا ساهم في تفاقم الوضع الوبائي في البلد".
أسباب قصور التشخيص
تمثل الأمراض التنفسية المتعددة مثل الانسداد الرئوي المزمن، الربو، التهابات الجهاز التنفسي الحادة، السل، سرطان الرئة، عبئاً كبيراً على المجتمعات، (من بينها المجتمع اليمني)، خاصة في ظل ضعف الوعي المجتمعي في التعامل معها والوقاية منها، مروراً بقصور في الأجهزة المساعِدة على تشخيص هذه الأمراض بدقة عالية، وفق منتدى الجمعيات الدولية للرعاية التنفسية (FIRS).
يقول أخصائي المعالجة التنفسية، الدكتور فتح الدين العماد، في حديث خاص لمنصة "عوافي" إن أكثر الأمراض التنفسية التي تصل إليه هي أمراض التضيق الشعيبي المزمن للقصبات الهوائية COPD، أمراض الربو Asthma، وأمراض السل الرئوي TB، بالإضافة إلى الالتهابات الرئوية الحادة الفيروسية، وإن كانت أقل من سابقتها في الانتشار ولكنها تنشط في فصل الشتاء أكثر، حد قوله.
أما عن أسباب غياب التشخيص الدقيق لطبيعة الأمراض التنفسية في اليمن، فيعزو الدكتور العماد ذلك إلى قصور الوعي المجتمعي في اللجوء الى الطبيب المختص في وقت مبكر، مشيراً إلى أن الكثير من المرضى يقومون باستخدام أدوية يحصلون عليها من قبل الصيدلاني أو عن طريق استشارة طبيب غير متخصص بالأمراض الصدرية.
ويلفت أخصائي المعالجة التنفسية إلى أن ندرة أخصائيّ الأمراض النفسية في المدن وعدم توفرهم في المحافظات البعيدة، والمناطق الريفية، ساهم بشكل كبير في عدم حصول المريض على الخدمة العلاجية السليمة، نتيجة التشخيص غير السليم في بداية المرض، منبهاً إلى أن ذلك، مع مرور الوقت، يفاقم حالته الصحية بشكل كبير".
مضيفاً: "بعض المرضى يستخدمون أدوية لها تأثيرات جانبية قوية دون أي روشتة طبية، فقط بمجرد أن صديقه أو قريبه استخدم هذا العلاج".
وتابع: "أما الجانب الآخر، بالنسبة للأجهزة والمعدات المساعدة للتشخيص فأصبحت متوفرة إلى حد كبير خصوصاً في المدن الرئيسية، ولكن بعضها غير متواجد مثل (مركز دراسة أمراض النوم وعمل فحوصات لها غير متوفر Sleep study لتحديد المتغيرات الخاصة بتوقف النفس أثناء النوم)، بالإضافة إلى أجهزة الايكمو (الرئة الصناعية) المستخدم في العنايات المركزة للمرضى المصابين بالتهابات حادة في الرئتين، وهذا ما افتقرنا له أثناء جائحة كوفيد-19، ومن الضروري جداً توفره في المستشفيات، على الأقل الكبيرة منها".
كما من الضروري، بحسب الدكتور العماد، "توفير جهاز فحص كفاءة الرئة المساعِد في تشخيص الأمراض التنفسية Asthma and COPD، الجهاز أصبح في السنوات الأخيرة متوفراً في بعض المستشفيات، ولكن من المهم وجوده في جميع المستشفيات لمساعدة الطبيب على التشخيص الدقيق".
الأطفال وحديثو الولادة
الأمراض التنفسية ليست مقتصرة على الشباب وكبار السن فقط، الأطفال أيضاً يتعرضون للإصابة بهذه الأمراض، إذ يؤكد أخصائي الأطفال وحديثي الولادة، الدكتور أحمد الشحري: تزايدت الأمراض التنفسية عند الأطفال والرضع خلال السنوات السبع الأخيرة، موضحاً بأن ذلك جاء نتيجة لعدة عوامل، منها المناعة البيئية (الطبيعية) وتلوثاتها، والغذاء غير الصحي، بالإضافة إلى قصور في الثقافة الطبية والوعي الصحي.
وأفاد الدكتور الشحري لمنصة "عوافي" أن الالتهابات الرئوية والمشاكل التنفسية تعتبر من الأمراض الشائعة عند حديثي الولادة، مبيناً بأن نقص الأوكسجين على الجنين داخل بطن أمه أو عند الولادة قد يتسبب في إصابته بشلل دماغي. وينصح بضرورة أن تكون الولادة تحت رعاية طبية كاملة من أجل أن تكون عملية الولادة آمنة تُجنب الأم ومولودها أي مضاعفات صحية خطرة.
الرعاية الطبية للأم والجنين عند الولادة، تحتاج إلى توفر إمكانيات مالية أصبحت شبه منعدمة عند أغلب اليمنيين، هذا في الأحوال العادية، أما حين يصاب الطفل بأي مرض تنفسي فيترتب على ذلك المزيد من الأعباء الثقيلة.
ويبيِّن منتدى الجمعيات الدولية للرعاية التنفسية (FIRS) أن الرئتين، في أول عامين من عمر الطفل، تحتاجان إلى عناية فائقة للحفاظ على سلامتهما من أي نزلات البرد وتلوث الهواء، إذ لا يوجد جهاز أكثر حيوية في الجسم وأكثر عرضة للأمراض مثل الرئة، والرئتان هما العضو الأكبر والوحيد في الجسم الذي يتعرض باستمرار لتأثيرات البيئة الخارجية.
تلوث وغازات سامة
رغم أهمية الأجهزة التشخيصية في معالجة الأمراض التنفسية، إلا أن ثمة مشاكل بيئية يجب الانتباه لها ووضع حد لها، كونها المسبب الرئيسي للأمراض التنفسية.
فمنذ نحو 12 عاماً واليمنيون يعانون من نقص في الأوكسجين يؤدي إلى ضيق في التنفس وفقدان الوعي وأمراض أخرى، نتيجة التلوث وانحسار المساحات الخضراء في البلد.
لا يقتصر تلوث الهواء على الرئة فقط، بل على بقية أعضاء الجسم، وفي حين أن مستوى الأوكسجين في الدم قد يكون منخفضاً لأسباب مرضية، إلا أنه ربما يكون ناتجاً أيضاً عن نقص نسبة الأوكسجين في الهواء، غير أنه من الصعب التأكيد على أن أعراض نقص الأوكسجين في الدم ناتجة عن نقص الأوكسجين في الهواء فقط، دون إجراء دراسات علمية بيئية وطبية.
وبحسب مؤشرات برنامج UNEP، تزايدت في السنوات الأخيرة التحذيرات من خطورة التلوث على الصحة العامة في اليمن، وذلك بسبب تناقص الغطاء النباتي، مما ينذر بأزمة تنفس وتسمم بالملوثات.
وتقدِّر منظمة الصحة العالمية في مصفوفة السياسات حول جودة الهواء في اليمن، الصادرة عام 2015م، أن تلوث الهواء الخارجي (في الأماكن المفتوحة) يسبب 1.100 حالة وفاة مبكرة سنوياً في اليمن.. ويتسبب تلوث الهواء الداخلي (في الأماكن المغلقة والمنازل) بوفاة ما يقدر بنحو 6,700 حالة من الوفيات المبكرة كل عام.
ويحتل اليمن المرتبة السادسة عربياً من حيث ارتفاع عدد الوفيات جراء أضرار بيئية، وبلغ عدد الوفيات السنوية الناتجة عن التدهور البيئي أكثر من 200 ألف حالة وفاة في اليمن، نتيجة التلوث البيئي والتغير المناخي وتلوث مياه الشرب، طبقاً لتقديرات تقرير التقييم العالمي للعبء المرضي الناتج عن التدهور البيئي، للعام 2016م.
منع المرض قبل حدوثه
وفقاً لمنتدى الجمعيات الدولية للرعاية التنفسية (FIRS) فإن "الخطوة الأولى لصحة الجهاز التنفسي هي منع المرض قبل حدوثه، فتحديد وتخفيف العوامل التي تسبب أو تشجع أمراض الجهاز التنفسي قد يمنع حدوث المرض، فكثيراً ما ترتبط أمراض الجهاز التنفسي بالبيئة".
وكانت منظمة الصحة العالمية قد أكدت - في تقرير لها نشرته في وقت سابق من العام 2022م- "إمكانية الوقاية من أمراض الجهاز التنفسي بشكل أكبر من الأمراض في أي جهاز آخر بالجسم"، مشيرة إلى أن "تكلفة الوقاية ليست سوى جزء ضئيل من تكلفة العلاج لأن الوقاية ومكافحة أمراض الجهاز التنفسي أمر فعال من حيث التكلفة".
المنظمة الدولية نبهت إلى أن المصادر الأكثر شيوعاً للهواء غير الصحي هي "دخان التبغ، تلوث الهواء في الأماكن المغلقة من حرق الوقود الصلب، والهواء غير الصحي في مكان العمل، وتلوث الهواء من مصادر حركة المرور"، مضيفة بأن "هناك مصادر صناعية تساهم في تلوث الهواء مثل الهواء الذي يحتوي على الميكروبات والهواء الذي يحتوي على الجسيمات السامة أو الأبخرة".
(*)انتجت هذه المادة ضمن اخبار الصحة التابعة لمنصة عوافي بدعم من منظمة انترنيوز Internews ضمن مشروع Rooted In Trust في اليمن