كانت مدرسة "النجمة الحمراء"، وعشرات المدارس التي أُنشئت على غرارها وصار يطلق عليها اسم جامع هو "مدارس أبناء البدو الرحل" في جنوب الوطن، في ظل دولة الاستقلال، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بقيادة التنظيم السياسي، الجبهة القومية، ثم الحزب الاشتراكي اليمني- إنجازًا كبيرًا في مجال التعليم الذي أتيح لكل أبناء الشعب اليمني بدون أية عوائق أو أي تمييز بين أبناء اليمن من الشطرين وبدون أية تكاليف مادية.
وفي هذه العجالة، نحاول الإشارة إلى معنى كون هذا الإنجاز كان فريدًا في خصوصياته بصفته تجربة ثورية يمنية، وفي أبعاده ونتائجه المشهودة، ونحاول أيضًا إزالة سوء الفهم الذي ما يزال سائدًا لدى بعضٍ لنقصٍ في المعلومات، ولدى بعض آخر بصورة متعمدة كجزء من تشويه تجربة النظام السياسي الذي كان قائمًا في الجنوب قبل الوحدة الاندماجية عام ١٩٩٠، والذي يتلخص في القول إن مدرسة "النجمة الحمراء" على وجه الخصوص، كانت منظمة عسكرية أمنية تعد كقوات خاصة لمهام خاصة!
كان أوائل القادمين إلى المدرسة من مناطق الشمال، هم من قرية الظاهرة بمديرية دمت، وفي السنوات التالية، أخذ يتدفق إلى المدرسة فتيان من محافظات إب والبيضاء وذمار وتعز ومناطق يمنية أخرى.
النشأة والتوسع
بدأت الدراسة في مدرسة "النجمة الحمراء" عام 1970، لعدد من الفتيان من المناطق المحيطة بمعسكر العند، الذين كانوا محرومين من التعليم لعدم وجود مدارس في التجمعات السكانية النائية، وقد احتضنهم اللواء 22 المتمركز في ذلك الوقت في معسكر العند، وكان قائده صالح مصلح قاسم، حيث تكفل اللواء بتوفير الغذاء والمأوى والفصول والوسائل التعليمية، والمعلمين والإداريين، وكان الإداريون والمربّون من صفوف العسكريين الحاصلين على قدر لا بأس به من التعليم. ثم تطورت المدرسة وكثر عدد الفتيان القادمين من ردفان ويافع والضالع والصبيحة، ومنذ عام 1972، بدأ توافد فتيان قادمين من مناطق ما كان يعرف بـ"الجمهورية العربية اليمنية"، وبالتحديد من المناطق التي كانت تشهد حملات عسكرية تنفذها الحكومة في صنعاء، لملاحقة وقمع من كانت تصفهم بـ"المخربين"، وهم من شكّلوا لاحقًا "منظمة المقاومين الثوريين اليمنيين"، التي كانت تتلقى الدعم من النظام الجديد في الجنوب؛ لذلك كان أوائل القادمين إلى المدرسة من مناطق الشمال هم من قرية الظاهرة بمديرية دمت التي كانت تتبع إداريًّا محافظة إب، وهي القرية التي شهدت أولى وأقوى المواجهات مع قوات صنعاء. وفي السنوات التالية، أخذ يتدفق إلى المدرسة فتيان من محافظات إب والبيضاء وذمار وتعز ومناطق يمنية أخرى. ولأنّ فكرة إنشاء مدرسة "النجمة الحمراء" لم تكن تعبّر عن اهتمام شخصي لأحد قادة ومناضلي ثورة ١٤ أكتوبر ١٩٦٣ التحررية، وأحد قادة دولة الاستقلال؛ هو صالح مصلح قاسم، بل عن نهج أصيل للنظام الجديد وللثورة والتنظيم السياسي القائد، تلخص في السعي لتخليص الشعب من ثالوث الجهل والفقر والمرض، فقد تسارع إنشاء مدارس مماثلة في مختلف المحافظات، وصولًا إلى جزيرة سقطرى، ورافقَ انتشار المدارس إنشاء إدارة خاصة في وزارة الدفاع، تُعنَى بهذه المدارس بالتنسيق مع وزارة التربية والتعليم، وسميت الدائرة هذه "إدارة مدارس أبناء البدو الرحل".
ماذا كان يدرس طلابها؟
كانت الدراسة في المدارس المذكورة، ترتكز على مقررات وكتب وزارة التربية والتعليم التي تُدرَّسُ في عموم مدارس الجمهورية، ولم تكن هنالك أية مقررات دراسية أخرى، ولكن وجود الطلاب في المدرسة طوال الوقت؛ كونها كانت مدرسة وسكنًا، هيَّأ الظروف لتكثيف الأنشطة والبرامج الثقافية والأيديولوجية المستمدة من النهج السياسي السائد في البلاد. كذلك كان لطلاب "النجمة الحمراء" أنشطة رياضية وفنية، حيث تكوّنت من بين الطلاب فرقةٌ موسيقية كاملة من عازفين على آلات موسيقية عديدة، ومنشدين يؤدّون الأناشيد الثورية والأغاني الوطنية، وساهم في تنشيط وتدريب الفرقة، الفنان الراحل عبدالله محمد حنش، الذي كان مدرسًا في المدرسة، في الوقت نفسه، لا سيما بعد أن انتقلت عام ١٩٧٥ من العند إلى مبنى حديث فخم شيدته وجهزته دولة الكويت في منطقة صبر، في الجهة المقابلة من الناحية الغربية لمحلج القطن، كما كان الطلاب الموهوبون يمارسون الفنون التشكيلية والمسرحية.
كان طلاب الصفوف المتقدمة يتلقون تدريبًا عسكريًّا باعتباره ضربًا من الأنشطة خارج الأوقات المخصصة للدراسة، وكانت المهمة الرئيسية لهؤلاء الطلاب المتدربين هي في الغالب المشاركة في العروض المختلفة.
الإعداد العسكري للطلاب
كان الطلاب، لا سيما طلاب الصفوف المتقدمة، يتلقون تدريبًا عسكريًّا باعتباره ضربًا من الأنشطة خارج الأوقات المخصصة للدراسة، وكانت المهمة الرئيسية لهؤلاء الطلاب المتدربين هي في الغالب المشاركة في العروض المختلفة، ولكنّ هناك أعدادًا قليلة منهم، وبالخصوص كبار السن، الذين تمتعوا ببنية جسمانية مناسبة، تدربت على قيادة الدبابات واستعمال مدفعية الهاون والآر بي جي والرشاش الخفيف والكلاشنكوف، ولكن ليس بصورة مكثفة أو بصورة دائمة. والحقيقة هي أن هذا الإعداد العسكري لم يكن حالة استثنائية ميزت مدرسة "النجمة الحمراء" و"مدارس أبناء البدو الرحل" الأخرى، بل كان ضمن تعبئة عسكرية ومعنوية شعبية عامة، عُرفت في شكلها النظامي بالقوات الشعبية والميليشيا الشعبية، وكان لهذه التعبئة ما يبررها. فالمعروف أن مساحة الجنوب -أي جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية- كانت كبيرة، وحدوده البرية والبحرية طويلة، وكان المتربصون بالنظام الجديد يحيطونه من جميع الجهات، بينما كان عدد السكان قليلًا نسبة إلى المساحة، وكانت الإمكانيات المادية شحيحة لا تسمح بتكوين قوات مسلحة كبيرة العدد قادرة على حراسة الحدود البرية والبحرية وحماية الأمن والاستقرار في عموم المحافظات، ورغم ذلك لم يُستدعَ طلاب المدرسة في أية مهمة عسكرية في الداخل أو على الحدود، ما عدا مرة واحدة كانت في حادثة اغتيال أحمد حسين الغشمي، رئيس مجلس القيادة في الشطر الشمالي في يونيو عام 1978، وتوقع أن يشن الشمال هجومًا إنتقاميًّا، حيث أُرسِل عددٌ من الطلاب إلى مواقع خلفية في منطقة كرش الحدودية، ولكنهم أُعيدوا إلى المدرسة بعد ثلاثة أيام تقريبًا.
أين ذهب خريجو المدرسة؟
لم ينَل طلاب مدرسة "النجمة الحمراء" وطلاب "مدارس أبناء البدو الرحل"، التعليمَ المجاني الابتدائي والثانوي فقط، بل وفّرت لهم الدولة فرص التعليم العالي في الداخل والخارج، كلًّا بحسب نتائجه في شهادة الثانوية العامة ورغبته والمنح المتاحة، ولم يُرغَم أحدٌ على اختيار مجال دراسة أو عمل رغمًا عنه، وكذلك اختار الخريجون مجالات وأماكن العمل والإقامة وفقًا لما أتيح لكل فردٍ منهم من فرص، واليوم نراهم في عدن وصنعاء ومدن يمنية أخرى، ونجدهم في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي -سابقًا– وفي أوروبا وأمريكا وفي دول الخليج. كما نجد منهم الطبيب والمهندس والأكاديمي والقاضي والمحامي ورجل الأمن، وهم حاضرون في المؤسسات العسكرية والأمنية وفي مختلف مؤسسات الخدمة العامة في البلاد، وفيهم بالطبع، من لم يواصل دراسته الجامعية لأسباب مختلفة.
القيم التي تربَّى عليها طلاب المدارس المذكورة، تمثّلت في الإخلاص للوطن اليمني، اليمن الديمقراطي الموحد، وللشعب والنظام السياسي الثوري، ومناصرة حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأمريكا.
مدارس القيم المتعددة
منذ وضع اللبنة الأولى لأول مدرسة عام ١٩٧٠ إلى إغلاقها وطي ملفها عام ١٩٩٢، احتضنت مدارس "أبناء البدو الرحل"، التي كانت "النجمة الحمراء" أقدمها وأكبرها وأشهرها، عشرات الآلاف من التلاميذ، وقدّمت لهم المأوى والغذاء والعلاج والتعليم الجيد -إذا ما قيس بوضع التعليم العام في الوقت الراهن– بكل ما استلزمه من مواد، بما في ذلك الزي المدرسي الموحد. ضمّت "مدرسة النجمة الحمراء"، على سبيل المثال، طلابًا من مناطق عديدة جنوبية وشمالية، ففيها عاش ودرس ومارس الأنشطة المدرسية أبناء ردفان ويافع، والشعيب والضالع، والصبيحة وأبين، وأبناء دمت وإب والبيضاء وذمار وتعز ومناطق أخرى، فتكوّنت أسرة طلابية وطنية يمنية، ربطت بين أفرادها من طلاب ومعلمين وإداريين، أواصر زمالة وأخوّة ووئام ما تزال تسكن الوجدانات والأفئدة رغم ما شهده الوطن من حروب، وبالخصوص حرب ١٩٩٤ المشؤومة، وما شهده الوطن اليمني لاحقًا وإلى اليوم، من حروب ونزاعات مؤسفة، ونزعات جهوية ضيّقة الأفق ومدمرة للمشترك الوطني.
إنّ القيم التي تربّى عليها طلاب المدارس المذكورة، تمثّلت في الإخلاص للوطن اليمني، اليمن الديمقراطي الموحد، وللشعب والنظام السياسي الثوري، ومناصرة حركات التحرر الوطني في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وكانت للقضية الفلسطينية مكانة خاصة في وعي واهتمامات الطلاب؛ لذلك استقبلت مدرسة "النجمة الحمراء" كبار قادة الفصائل الفلسطينية الذين كانوا يزورون عدن، ومنهم جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وألقوا خطابات أمام الطلاب، تناولت نضال الشعب الفلسطيني لنيل حقوقه المشروعة. ومن أهم القيم الجديدة التي تربى عليها الطلاب؛ قيمةُ العمل بكونه ضرورة وواجبًا ومبعث شرف وفخر، وكان الطلاب يقومون بمبادرات جماهيرية لتنظيف المدرسة بصورة دورية أو لجمع الطماطم في مزارع الدولة القريبة من مدارسهم، وأية أعمال كانت تُطلب منهم، كانوا يؤدُّونها بحماس منقطع النظير.
ينوي خريجو مدرسة "النجمة الحمراء" إصدار كتاب توثيقي عن المدرسة، وهذا جزء من واجبٍ عليهم نحو مدرستهم ومعلميهم، وكل من كان له إسهام في وصولهم إلى ما هم فيه اليوم بفضل التعليم المجاني.
إغلاق المدرسة
أُغلِقت مدرسة "النجمة الحمراء" وكافة مدارس "أبناء البدو الرحل" عام ١٩٩٢، وأتى هذا الإغلاق لمدارس استفاد منها عشرات الآلاف من المواطنين اليمنيين في إطار إلغاء ما كان قائمًا في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وتعميم نظام الجمهورية العربية اليمنية قبل الوحدة، من خلال تصفية القطاع العام الذي كان يضمّ الأغلبية الساحقة من الأيدي العاملة في ظلّ ضيق حيز القطاعين الخاص والمختلط، وحرمان عموم المواطنين من المكاسب الاجتماعية التي تمتعوا بها، ومنها العلاج المجاني تقريبًا، وهو ما جعلهم يربطونها بالوحدة التي تحوّلت في نظرهم من نعمة موعودة إلى نقمة حاصلة.
كانت مدرسة "النجمة الحمراء" ومدارس "أبناء البدو الرحل" إنجازًا فريدًا في بلد فقير، ودليلًا على صدق قيادة الثورة والدولة في أنّ الشعب وحياته هدفُ التحولات الثورية وأداتها الفاعلة، وممّا تجدر الإشارة إليه هو أن القيادات التي لم تحظَ بتعليم جامعي، بذلت كل ما أمكن بذله من أجل تمكين أبناء الشعب الكادح من الحصول على التعليم، بما في ذلك التعليم ما بعد الجامعي، وتفاخر بكون بعض من التحق بتلك المدارس وهو حافي القادمين بالمعنى الحرفي للكلمة، صاروا حملة دكتوراة وبكالوريوس في شتى مجالات المعرفة والاختصاصات.
أخيرًا: ينوي خريجو مدرسة "النجمة الحمراء" إصدار كتاب توثيقي عن المدرسة، وهذا جزء من واجب عليهم نحو مدرستهم ومعلِّميهم، وكل من كان له إسهام في وصولهم إلى ما هم فيه اليوم بفضل التعليم المجاني.