في أغلب جولات مدينة عدن، ترى تلك الأقدام الصغيرة، والتي تتحمل حرارة الشمس، وترى بعض الوجوه البائسة لأطفالٍ صغار، وتتساءل: كيف استطاعت هذه الأوضاع البائسة أن تخلق في هذه الوجوه البريئة بؤسًا ومعاناة لا حدود لها.
تترقرق البراءة في عينيه، وتصغي إلى صوته لتسمع حنينًا وألمًا أشدّ ما يكون؛ الطفل رؤوف حميد، البالغ من العمر 9 سنوات، يقف تحت أشعة الشمس الملتهبة ليبيع المياه أحيانًا، وأحيانًا المناديل الورقية، بعد أن جاءت به الحرب إلى عدن، هربًا من الموت المُحدِق في الساحل الغربي أثناء الصراع الدائر هناك، مع والدته وأربعة من إخوته، أمّا والده فقد قُتِلَ في انفجار لغمٍ أرضيّ قبل نزوحهم إلى عدن بأربعة أيام، عام 2018.
لم يمر رؤوف بمراحل طفولته المعتادة كما يفترض أن يعيشها الأطفال في هذه المراحل السنّيّة، فقد وُلِدَ قبل الحرب بعامٍ واحد، ليفتح عينيه على أوضاع صعبة بفعل الحرب وتبعاتها بعد أن وجد نفسه وأسرته بدون معيل في عدن.
تكتظ مثل هذه الأماكن في مختلف المدن اليمنية بعشرات الأطفال، جزء كبير منهم من ضحايا الحرب، الذين يعملون كباعة جائلين، في حين تنتشر أعداد أخرى في العمل بمهنة صيد الأسماك، وفي الحقول الزراعية، وقطف أشجار وأوراق نبتة "القات"، وفي الأسواق للعمل في مهن وأعمال متعددة لا تناسب سنّهم على الإطلاق.
يشهد اليمن تزايدًا خطيرًا في أعداد الأطفال المنخرطين في سوق العمل بفعل الحرب والصراع الدائر في البلاد، وما تسبّب به من نموّ كثيرٍ من الآفات والظواهر المجتمعية، وتفجير أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم.
ظروف قاسية
يتحدّث الطفل رؤوف عن المقاساة التي يعيشها في عمله، لـ"خيوط"، بالقول: "غصبًا عني أشتغل، لتوفير تكاليف ما أمكن من الأكل والشرب لوالدتي وإخواني الصغار".
ترك هذا الطفل (رؤوف حميد- 9 سنوات)، وأسرته منزلهم وأرضهم وحياتهم في الحُديدة وتوجهوا إلى عدن للبحث عن حياة جديدة، فقد راح والدهم والمعيل الوحيد لهذه الأسرة ضحية لانفجار لغم أودى بحياته؛ خافت الأم على صغارها، وقررت الذهاب بهم إلى مكان آخر للعيش، مليء بالبؤس وقسوة المعاناة.
واستقبلت عدن عددًا من النازحين القادمين من مناطق الحرب في اليمن، والتي لا تفرق بين رجل وامرأة، وبين طفل وكهل، وعسكري ومدني، فقد دمّرت كل شيء وكان المدنيون أبرز ضحاياها.
تمرّ الأيام بصعوبة على من فقد أرضه وبيته، أمّا ما فقده رؤوف وأهله فيتجاوز الكثير في سلسلة الألم والمعاناة، إذ يعيش مع والدته وإخوته الأربعة وامرأتين وثمانية أولاد في منزل واحد، مع أسرة أخرى نازحة من الحُديدة في عدن.
وفي ظل الظروف القاسية يتحمل رؤوف، أعباء المسؤولية منذ نعومة أظفاره، فشتى أنواع المعاناة يقاسيها في رحلةٍ يتمنّى كلُّ من سلكها بالفكاك والخلاص منها.
تبعات مدمّرة للطفولة
لم يمرّ رؤوف بمراحل طفولته المعتادة كما يفترض أن يعيشها الأطفال في هذه المراحل السنّية، فقد وُلِدَ قبل الحرب بعام واحد، ليفتح عينيه على أوضاع صعبة بفعل الحرب وتبعاتها بعد أن وجد نفسه وأسرته بدون معيل في عدن.
لا يدرك الإنسان مآسي الحروب حتى يقاسيها، فكيف لطفل لم يتعرف بعد على الدنيا، ولم يلعب مع الأطفال، ولم يلبس الزي الموحد للمدارس، وينتظم في صفوف التعليم، أن يشعر بما يشعر به.
تشرح الأخصائية الاجتماعية خلود خالد، في تصريح لـ"خيوط"، أنّ عمالة الأطفال زادت بشكل كبير بسبب الحرب في اليمن، حيث يعملون في بيئة غير صحية وغير آمنة، بالذات في الأجواء التي تعيشها بعض مناطق البلاد، هذا بخلاف استغلال الأطفال جنسيًّا، وتهديد وجودهم وتدمير مستقبلهم.
وتوضح خلود أنّ القوانين التي تحافظ على حقوق الأطفال لا تُطبّق بتاتًا، بل على العكس من ذلك هناك، بحسب وصفها "ضباع بشرية" تستغل حاجة الأطفال وأوضاعهم المزرية، لتغريهم بدراهم معدودة لكي تقضي على حياتهم تماما وتخلق في الأطفال روحًا عدوانية شريرة وشرسة، بسبب ما تعرّضوا له في مقتبل أعمارهم.
كما أنّ الأزمات النفسية، وَفقَ هذه الأخصائية الاجتماعية، التي يتعرّض لها الأطفال في عمر مبكرة تنعكس دراماتيكيًّا بشكل سلبي عليهم، تلازمهم بقية مراحل حياتهم.
وألقى النزاع الدائر في اليمن منذ العام 2015، بتبعاته على الأطفال بصورة تضاعف القلق على نموِّهم ومستقبلهم، إذ يعيشون في وسط بيئة حياة مليئة بالعنف وسوء التغذية والأمراض المتعددة، فضلًا عن مشاعر الخوف والحزن التي انطبعت في قلوبهم جراء مشاهد الحرب التي عاشوها.
ويظل السؤال الذي يطرح نفسه؛ متى يعيش الأطفال في اليمن عمرهم البريء. لتأتي الإجابة معلقة دون صوت، في انتظار رد هذا الصوت ليعود كل طفل يقاسي إلى عشه الأساسي، وإلى مدرسته لمواصلة حياته الطبيعية التي من المفترض أن يعيشها.
* تحرير خيوط