في حياة الشعوب تواريخ تأسيسية يتم من خلالها تدشين بداية تاريخها واختراع هوياتها. وفي مجتمع ذي تاريخ طويل من الصراعات كاليمن، تتعدد التواريخ التأسيسية لكن أكثرها إثارة للجدل في السنوات الأخيرة هو الجمعة الأولى من رجب التي يحتفل بها اليمنيون منذ مئات السنين باعتبارها تاريخ دخول اليمنيين الإسلام، أو بعبارة أكثر وضوحًا دخول اليمن تحت حكم النبي في دولة المدينة.
خضع هذا التاريخ التأسيسي لتفسيرين مختلفين من قبل الاتجاهين المذهبيين السياسيين الكبيرين في اليمن، (السني الشافعي ممثلًا في الإخوان، والشيعي الزيدي ممثلًا في الحوثية)، وكل مذهب سياسي حاول استغلاله كمرجعية لصياغة هوية شاملة لليمن واليمنيين تتوافق مع اتجاهه الأيديولوجي.
بالنسبة للتفسير الإخواني السني، فإن جمعة رجب تؤرخ بقدوم الصحابي معاذ بن جبل إلى اليمن لتعليم اليمنيين الحلال والحرام، ثم بنائه لجامعه الشهير في وسط اليمن – تعز، الذي سيصبح مركزًا للتدين السني الشافعي منذ ذاك حتى اليوم.
وبناء على هذه السردية السنية فإن الهوية الجديدة لليمنيين هي الهوية الإسلامية المتمحورة حول الصحابي الذي كان في الوقت نفسه فقيهًا، والذي -بناء على الحديث الشهير- سيؤسس للمجال المرجعي الإسلامي بمصادره الثلاثة: الكتاب ثم السنة ثم الاجتهاد، حسب الحديث الشهير؛ "قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في كتاب الله؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو؟ فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صدره، وقال: الحمد لله الذي وفّق رسول رسول الله لما يُرضي رسول الله".
بناء على هذه السردية فكل ما قبل جمعة رجب هو الظلام والوثنية والفوضى، وما بعدها هو الإسلام والهداية والأمان. وتصبح الهوية اليمنية هوية دينية خالصة، لا ترى في اليمني إلا بعدًا واحدًا هو بعد الالتزام بالإسلام والخضوع للسلطة الدينية. إنها هوية منقطعة انقطاعًا تامًّا عن ماضيها، ولعل هذا هو سبب الموقف السلبي للحركة الإسلامية في اليمن الاهتمام بالآثار اليمنية القديمة والتاريخ اليمني القديم.
إن الحديث عن جمعة رجب ليس حديثًا تاريخيًّا محسومًا ولا بريئًا من التوظيف السياسي، لكنه حديث مليء بالصراعات الظاهرة والخفية
بالنسبة للسردية الشيعية المنافسة، فإن جمعة رجب ليست مرتبطة بمعاذ بن جبل، وإنما بقدوم علي بن أبي طالب وموالاة اليمنيين له. وهذه السردية مختلفة اختلافًا جذريًّا عن السابقة؛ لأن علي ليس فقيهًا والتحلق حوله ليس تحلقًا حول الفقه والدين بقدر ما هو تحلق حول رجل يمثل السلطة الدينية لآل الرسول، وبالتالي فإن نصرة اليمنيين لعلي هي نصرة لعلي وأولاده في حقهم في الحكم والسلطة.
تتحول هذه السردية إلى تفرع طائفي بقدوم الإمام الهادي إلى اليمن وتأسيس الدولة الزيدية. ذلك الدخول الذي سيرتبط بالانقسام الاجتماعي لليمنيين إلى يمن أعلى ويمن أسفل. بقدوم الإمام الهادي ستصبح جمعة رجب تاريخًا تأسيسًا لموالاة اليمنيين لآل البيت عمومًا، وسترتبط صحة إسلام اليمنيين بهذه الموالاة وليس باتباعهم للإسلام وشريعته فقط؛ لأنه لا إسلام حسب هذه السردية إلا عبر اتباع واحد من آل بيت الرسول، وستتحول جمعة رجب إلى أيديولوجيا سياسية تحصر دور اليمنيين في بعد واحد فقط هو النصرة والتضحية بالنفس والمال من أجل تمكينهم.
بظهور حركة الإحياء الزيدي بعد 1990، وصعود الحوثية ستتخذ جمعة رجب شكلها الكامل كأيديولوجيا سياسية شمولية تعيد تعريف اليمني واليمن والإيمان بشكل جذري. في هذه الأيديولوجية هناك طرفان؛ الأول هو "أعلام الهدى"، والثاني هم اليمنيون بشكل عام. دور أعلام الهدى هو الحكم السياسي والاجتهاد الديني الحصري، ودور اليمنيين هو القتال والتضحية والاستشهاد من أجل نصرتهم.
وكأي أيديولوجيا شمولية، تعيد هذه السردية صياغة تاريخ علاقة اليمنيين مع الإسلام ليتحول إلى علاقة تضحية واستشهاد بلا نهاية ولا مقابل. يبدأ تاريخ هذه التضحية بأول شهيد في الإسلام، عمار بن ياسر اليمني، ثم ينتقل إلى الأنصار في يثرب، اليمنيون الذين نصروا الرسول وجعلوه حاكمًا مطلقًا، بل وتخلوا عن نصيبهم من الغنائم عندما حرمهم الرسول منها وأعطاها كاملة لأبناء قبيلته من قريش!
حسب هذه السردية، فإن هوية اليمنيين ليست هوية "إسلامية" بل هوية "إيمانية". والفارق هنا مهم جدًّا؛ لأن استخدام كلمة الإيمان بدلًا من كلمة الإسلام ليس عشوائيًّا. الهوية الإيمانية تستقي سلطتها الدينية من الحديث المشهور للرسول "الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية". والغرض من هذا الربط الإيحاء أن الرسول بنفسه حدد لليمنيين هويتهم الشاملة وهي "الإيمان"، ولا يمكن أن يكون لليمنيين قول آخر غير قول الرسول!
بناء على هذا البعد الأحادي الاستبدادي للهوية، تنحصر هوية اليمنيين في الإيمان فقط، وهي هوية محددة مسبقًا، وليست نتيجة لحوار مجتمعي، وهي هوية ثابتة وأبدية. فإذا انتقل اليمنيون من الإيمان إلى الإسلام تكون صحة إسلامهم مرتبطة بالولاء لآل البيت من ناحية، وبالتضحية والاستشهاد من أجلهم من ناحية أخرى.
نحن هنا أمام علاقة أحادية الجانب، تنفي كل ماضي اليمن ما قبل الإسلامي، وتلقي بكل الواجبات على عاتق اليمني المطلوب منه التضحية والاستشهاد وتقديم النفس والأولاد والأموال من أجل الدفاع عن هويته الإيمانية.
إن تخلي سلطة الأمر الواقع في صنعاء عن تقديم أبسط الخدمات للمواطنين الخاضعين لها، وإصرارها في الوقت نفسه على فرض جبايات باهظة دون مراعاة لظروف الفقر والحرب، ليست بعيدة عن هذا التعريف الأيديولوجي للهوية الإيمانية لليمني كهوية تضحية بالمال والنفس والأولاد، هوية استشهاد وتضحية تم تأسيسها منذ الأيام الأولى للإسلام في مكة!
إن الحديث عن جمعة رجب ليس حديثًا تاريخيًّا محسومًا ولا بريئًا من التوظيف السياسي، لكنه حديث مليء بالصراعات الظاهرة والخفية.
لم تكن جمعة رجب نقلة تاريخية في حياة اليمنيين من الصراع والفوضى إلى الاستقرار والهداية، حسب التاريخ المقدس، لكنها كانت مجرد نقطة أخرى في سقوط اليمن في أتون الصراع السياسي الدولي للقوى الكبرى الأمس واليوم.
ومن الخطورة بمكان استخدام التواريخ الدينية المقدسة لتحديد هوية شعب متعدد الانتماءات؛ لأن المقدس يلغي الإنسان ويحوله إلى مجرد وسيلة لا قيمة لها من أجل غايات إلهية غامضة.