تشهد محافظة ريمة ارتفاعًا ملحوظًا في نسبة الهجرة نحو المدن، رغم عدم تعرضها لمواجهات مباشرة أو قصف جوي، هذا الانتقال من القرى إلى المدن يعكس تأثيرات الحرب والنزاعات، ويحوّل بعض القرى والمنازل إلى أطلال.
بدأت هذه الظاهرة مع اندلاع الحرب في البلاد مطلع العام 2015، وما زالت مستمرة، حيث يُلاحَظ أنّ العديد من الأسر تهاجر للسكن والعيش في المدن، على الرغم من التحديات الكبيرة التي تواجه هذه المناطق الحضرية.
تبرز تناقضات الأوضاع بين ريمة، بوصفها محافظة ريفية مهمشة، والمدن التي تتمتع بالخدمات الأساسية، ما يعكس التحديات الكبيرة التي تواجه المناطق الريفية. ولعل أهم تلك التحديات انعدام الخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب والطرقات، وقلة الإمكانات التي تبعث على الاستقرار، سواء في العمل بمجال الزراعة أو تربية المواشي بأنواعها.
يؤكّد إبراهيم التكروري، مدير عام مكتب وزارة الزراعة والري في ريمة، لـ"خيوط"، أنّ هجرة السكان التي تشهدها كثير من مناطق ريمة الريفية نحو المدن، خطرٌ يدق ناقوسه في كل عزلة.
الصراع في اليمن تسبَّب في تفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث يحتاج ثُلثا سكان ريمة إلى المساعدة، بينما تواجه المرافق الصحية والمستشفى الرئيسي بالمحافظة، صعوبات كبيرة بسبب نقص الموارد والأدوية والوقود، في حين أنّ الحالات المعقدة في المحافظة يتم إحالتها إلى مستشفيات الحديدة.
تعبّر الهجرة الريفية نحو المدن عن ظاهرة اجتماعية واقتصادية، حيث يسعى السكان للبحث عن فرص عمل وتحسين ظروف المعيشة. وتتسبّب الحرب والنزاعات في تدمير البنية التحتية، وتهديد الأمان في الريف، مما يشجع على الهجرة، كما يعزز الفقرُ والبطالة والتهميش الاجتماعي هذه الظاهرة، في حين يؤثر الجفاف ونقص المياه في الري على الإنتاج الزراعي.
يأتي ذلك بالرغم من نزوح نحو 60 ألف شخص إلى محافظة ريمة، منذ بداية الحرب والصراع في اليمن عام 2015. ورغم عودة بعضهم بعد فترة قصيرة، يظل العديد منهم يواجهون صعوبات في الحصول على سبل العيش والخدمات الأساسية في المناطق الريفية.
أطلال عدينة
قرية "عُدينة"، قلب الأبارة، ومركزها ومهوى أبنائها، تعاني من نزيف متواصل بسبب هجرة سكانها التي شكلت صدمة لكثيرين في محافظة ريمة، وحزنًا على الحال الذي وصلت إليه قرية كان يُطلق عليها قبل سنوات قليلة "المدينة"، حين كانت تضج بالحياة ولا تكاد تنام. يتحدث أحد سكانها لـ"خيوط": "كنّا في ميادينها وممراتها نلعب لعبة (لامس والْيَر والكُرت) حتى وقت متأخر من الليل، نغني، نرقص، نركض، نستعرض إبداعاتنا بين أترابنا، والكبار يصفقون لنا".
وضعٌ يصفه الشاعر محمد إسماعيل الأبارة، بالقول: "كل هذا ينطفئ، ويذهب في صمت وذهول، ليس لأنّ أحبة لنا كثر قد ماتوا، فهذه دورة الحياة وإرادة الله؛ بل لأن كل أهلها ابتلعتهم المدينة، وتركت هذه البيوت، الحصون، خاوية تعبث بها الفئران، وتتلفح آهاتنا وتغتسل بدموع حنيننا إلى "عدينة" المدينة، النابضة بالحياة".
كما ترصد "خيوط"، في قرية المصبحي، التابعة لعزلة بني الضبيبي، هجرة ما يقارب 50 أسرة خلال السنوات التسع الأخيرة، منها 18 أسرة هاجرت إلى السعودية، وبقية الأُسَر هاجرت إلى صنعاء ومدن يمنية أخرى.
أحد أفقر المحافظات اليمنية
تعاني محافظة ريمة من وضع إنساني صعب، نتيجة لتضاريسها الصعبة والجبال العالية، وتفتقر إلى الخدمات الأساسية، مع ارتفاع معدلات الفقر وتدهور الوضع الصحي، ونقص الموارد وانعدام سبل العيش.
ويشير التقرير الصادر عن (الأوتشا)؛ مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية- إلى أنّ الصراع في اليمن تسبب في تفاقم الأوضاع الإنسانية، حيث يحتاج ثلثَا سكان ريمة إلى المساعدة، بينما تواجه المرافق الصحية والمستشفى الرئيسي بالمحافظة، صعوبات كبيرة بسبب نقص الموارد والأدوية والوقود، في حين أنّ الحالات المعقدة في المحافظة يتم إحالتها إلى مستشفيات الحديدة.
تأثرت ريمة بشدة بالتغيرات المناخية، ووفقًا لمنظمة الهجرة العالمية، فقد انخفضت المساحات المزروعة وتوقفت زراعة بعض الحبوب؛ بسبب ارتفاع أسعار الوقود، وظروف الجفاف الصعبة. كما أثر الصراع على التعليم في المحافظة، حيث عاد معظم المعلمين إلى محافظاتهم بسبب توقف صرف المرتبات، مما أدّى إلى إغلاق بعض المدارس، وإلغاء مراحل التعليم المتوسط والثانوي في بعضها، وأجبر بعض الأُسَر على إرسال أبنائهم إلى المدن لمواصلة تعليمهم.
غياب الخدمات وصعوبات التنقل
تعاني محافظة ريمة إهمالًا وتهميشًا كبيرًا من الحكومة، تمثّل في نقص الخدمات الإنسانية، في حين أن وجود المنظمات العاملة في المحافظة محدود جدًّا، ونسبة المساعدات التي تتلقاها منخفضة للغاية، في حين تُعدّ الأرياف أثناء الحروب أقل قدرة على استقبال الخدمات الإنسانية وكذا المساعدات الإنسانية، مما يجعل السكان يتجهون إلى المدن بحثًا عن المساعدات والخدمات التي قد يفتقرون إليها في أوضاع النزوح والحرب.
كما أدى توقف صرف مرتبات الموظفين، ونقص فرص الدخل في محافظة ريمة، إلى دفع العديد من السكان للتوجه نحو المدن بحثًا عن فرص عمل بديلة، إضافة إلى ضرورة نقل أسرهم للسكن معهم في تلك المدن لتخفيف المصاريف وتكاليف التنقل. ومع تعقيدات السفر خارج اليمن بسبب الحصار والتشظي، استفاد المغتربون من فتح الزيارة العائلية في السعودية لتسهيل رحلاتهم وجلب العديد منهم عائلاتِهم للعيش معهم هناك.
في السياق، تسلط الحادثة المأساوية لوفاة فتاة في بركة مائية في قرية "الحيدم" بمديرية الجبين، الضوءَ على الظروف الصعبة التي يتعرض لها السكان، خاصة النساء والأطفال، أثناء جلب المياه من برك المياه والحواجز المكشوفة، مما يتسبب في حوادث غرق مؤلمة ووفاة العديد منهم سنويًّا، وتعكس كذلك القلق والهروب من المصاعب والمخاطر التي يعاني منها السكان في محافظة ريمة، وكيف أصبحت تلك التحديات دافعًا للهجرة والبحث عن بيئة حياة أفضل.
يقول والد الفتاة، عبدالحفيظ الحيدم، لـ"خيوط": "ذهبت ابنتي (16 عامًا)، كالعادة لجلب الماء من خزان الماء الذي يقع جوار المنزل، لكنها تأخرت عن العودة، فذهبنا نبحث عنها، لنُفاجَأ بها جثة هامدة مطفية فوق الماء، بعد أن سقطت وغرقت في مياه الخزان، بعدها كرهتُ القريةَ وكل ما فيها، وتركت منزلي ومزارعي، وانتقلت للعيش في بيت إيجار بصنعاء، حفاظًا على حياة مَن تبقى من أولادي".
الحماية والاختفاء
يُجبَر السكان في البلدان التي تشهد صراعات على ترك مناطقهم نتيجة للضغوطات والتمييز، ويقودهم إلى الانتقال إلى مدن داخلية أو خارجية، حيث يسعون للحماية والاختفاء. ويكشف تقرير مركز دراسات اللاجئين التابع لجامعة أكسفورد، عن أنّ الصراعات والكوارث يمكن أن تتسبّب في نزوح فجائي للسكان الريفيين إلى المدن، بحثًا عن حماية أو تجنب التمييز والضغوطات التي قد يتعرضون لها.
يقول محمد سعد (49 عامًا)، من أبناء مديرية الجبين، لـ"خيوط": "أُجبرتُ على ترك منزلي، وهاجرت للسكن في مدينة معبر، التابعة لمحافظة ذمار، بعد أن تعرضت لمضايقات من قيادات ومشرفين حوثيين في المنطقة؛ منها إرغامُنا على حضور الفعاليات والدورات الثقافية الخاصة بهم، وأداء الصرخة في المناسبات، وغيرها".
تشير عددٌ من التقارير والدراسات إلى أن الهجرة من الريف إلى المدينة في اليمن، تسببت بالعديد من المشاكل الاجتماعية والبيئية، أهمها: انخفاض فعالية وإنتاج القوى العاملة في الريف، والتناقص التدريجي للأراضي المزروعة، وتدهور أطراف المدرجات الزراعية في كثير من المناطق اليمنية، والانخفاض في الإنتاج الزراعي والغذائي، والاعتماد على الواردات.
بالمقابل، نزحت مئات الأُسَر من ريمة نحو المحافظات التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًّا، بعد سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على المحافظة، حيث استقرت معظم هذه الأسر في محافظة مأرب (شرقي اليمن)، التي استضافت عددًا كبيرًا من النازحين خلال الفترة من 2014 إلى 2021؛ إذ كانوا يبحثون عن حماية وظروف أفضل للعيش.
وجد المهاجرون من أبناء ريمة في المدن التي نزحوا إليها فرصَ عملٍ مختلفة، مستفيدين من الانتعاش الاقتصادي والعمراني الذي شهدته تلك المدن خلال فترة الصراع. ومع ذلك، يسودهم تخوف من المستقبل؛ نتيجة للركود الاقتصادي، ونقص العمل في القطاع العقاري، إذ يعبر محمد الحفصي- أحد المهاجرين، في حديث لـ"خيوط"، عن قلقه إزاء عدم قدرته على دفع إيجار السكن لنحو 6 أشهر كاملة، في ظل غياب العمل.
كانت صنعاء قد احتضنت الكثير من النازحين والمهاجرين؛ فمنذ تصاعد الصراع، استقبلت العاصمة اليمنية ما يقارب 430 نازحًا، 70% منهم استقروا في كلٍّ من مناطق بني الحارث ومعين والسبعين، وهناك ما يقارب 24 ألف نازح في منطقة بني حشيش الواقعة في محافظة صنعاء، وما بين (3-5) ألف نازح في كلٍّ من منطقتَي بني مطر وسنحان. ويعيش نحو 89% من النازحين إلى أمانة العاصمة، في أحياء عشوائية ومساكن مستأجرة.
الآثار السلبية للهجرة الريفية إلى المدن
تشير عددٌ من التقارير والدراسات، إلى أنّ الهجرة من الريف إلى المدينة في اليمن، تسبّبت بالعديد من المشاكل الاجتماعية والبيئية، أهمّها: انخفاض فعالية وإنتاج القوى العاملة في الريف، والتناقص التدريجي للأراضي المزروعة، وتدهور أطراف المدرجات الزراعية في كثير من المناطق اليمنية، والانخفاض في الإنتاج الزراعي والغذائي، والاعتماد على الواردات والمساعدات الخارجية في الريف، وزيادة في النمو غير المتوازن للمدن الرئيسية والثانوية.
وتشمل الآثار السلبية الأخرى للهجرة الريفية الحضرية: نقص المساكن، وعدم كفاية مصادر المياه في المدن، ومشاكل الصرف الصحي، وعدم التصريف المناسب لمخلفات القمامة، وغيرها مـن مظـاهر التلوث البيئي المضرة بالسكان، ونمو بعض المدن بصورة عشوائية على حساب الأراضي الزراعية التي كانت تمد السكان بالمنتجات الزراعية الأساسية، وزيادة الفجوة بين الحضر والريف في توزيع الخدمات والمشروعات، وتولُّد بعـض مظاهر التخلف الاجتماعي في شكل مساكن الصفيح وأكواخ الفقر، التي يمكن أن تصبح بيئة متاحة للاضطرابات والانحرافات الاجتماعية، والفقدان والتغيير والتهديد للهوية والتراث والعادات والتقاليد الريفية.
كما ارتفع معدل نمو المناطق الحضرية في اليمن مؤخرًا، إلى 4.2% مقارنة بمعدل النمو السكاني الإجمالي البالغ 2.5%، الأمر الذي أدّى إلى زيادة العبء على المراكز الحضرية، ويؤكّد ملف التنميط الحضاري أنّ 60% من سكان الحضر في اليمن، يعيشون في مستوطنات غير رسمية، ووجود ازدحام في 20% من الوحدات السكنية المؤقتة دون المستوى المطلوب.
ويدعو مدير مكتب وزارة الزراعة في ريمة، المنظماتِ الإنسانيةَ العاملة في البلاد، إلى إيلاء ريمة اهتمامًا خاصًّا، واتخاذ إجراءات فورية للتصدي لظاهرة هجرة السكان نحو المدن، وتحقيق تحسين شامل في ظروف الحياة في المحافظة، لتشجيع السكان على البقاء في الأرياف؛ وذلك من خلال توفير الخدمات الأساسية، مثل المياه، وتحسين شبكة الطرقات، وتطوير قطاع التعليم والصحة، ودعم القطاع الزراعي والرعاية الحيوانية لتعزيز الإنتاجية وتوفير فرص اقتصادية لسكان ريمة.
ويشدّد أيضًا على ضرورة إيجاد أسواق محلية عامة لتسويق المنتجات المحلية والترويج لها، وتوجيه الاستثمارات نحو تحقيق التنمية المستدامة في المناطق الريفية، مع التركيز على حماية البيئة وتحسين جودة الحياة.