"مُصيبتي الكبرى، وهمّي الأكبر، أنني من فتيات الريف، حيث لا يوجد من يهتم بنا، أو يأخذ بأيدينا من أجل الحصول على التعليم الذي يناسب وضعنا، وكأننا خارج نطاق الإنسانية". هكذا بدأت رحمة أمين حديثها لـ"خيُوط"، وهي تحدق ببصرها نحو السماء. لا تعرفُ من هو مُحدّثها، لكنها ترى من حولها ببصيرة قلبها كغشاوةِ غيمةٍ أو ضباب كثيف.
رحمة أمين (15 سنة)، من سكان مديرية جبل حبشي محافظة تعز (جنوب غرب مدينة تعز)، كانت لديها أحلامٌ وآمال تنشدها، لكنها وجدت نفسها حبيسة الإعاقة، والظروف القاسية، في وقتٍ مبكّر من عمرها؛ نتيجة فقدان بصرها بسبب اعتلال في شبكية العينين، ما أدّى لانفصال تامّ لشبكية العينين.
رحمة واحدةٌ من آلاف الأطفال الريفيّين الذين يعانون الأمرّين في اليمن؛ مرارة الإعاقة، ومرارة الإهمال، وزادت مرارة حياتهم أكثر مع اندلاع الحرب واستمرارها منذُ ما يزيد عن سبعِ سنوات.
في تقرير نشرته منظمة العفو الدولية قبل ثلاثة أعوام، بعنوان "مستبعدون: حياة الأشخاص ذوي الإعاقة وسط النزاع المسلح في اليمن"، قالت المنظمة إنَّ "ملايين الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن كانوا من أكثر الفئات تعرضًا للإقصاء في ظل تلك الأزمة، وأنه لا تتوفر حتى الآن بيانات محددة عن الأشخاص ذوي الإعاقة، إلا أنّ بيانات منظمة الصحة العالمية تستند على تقديرات عالمية، تشير إلى وجود حوالي 4.5 ملايين من الأشخاص ذوي الإعاقة في اليمن، ومع استمرار النزاع المسلح من المحتمل أن يزيد العدد".
إهمالٌ بسبب الفقر
بدأت رحمة تعليمها الأساسي وهي بكامل صحتها، لكنّ العناء والصعوبات التي تواجه الأسر الريفيّة في اليمن، حالت دون الانتباه لحالتها المرضية في الوقت المناسب. فهي من أسرةٍ شبه ميسورة الحال، لكنها في ظل استمرار الحرب، بالكاد تستطيع توفير المتطلبات الأساسية لأفرادها.
لم يكن الوضع الاقتصادي لعائلة رحمة يسمح بمتابعة حالتها لدى الطبيب، فعندما أجري لعينيها الكشف الطبي الأول، تبيّن أنها تعاني من ضعف في النظر، وبحاجة إلى متابعة الطبيب باستمرار. تقول: "كنت في البداية أشعر بأنني أفقد نظري يومًا بعد آخر، لكن ليس في اليد حيلة، ولا نملك نفقات الوصول إلى المدينة (تعز)، خاصة عندما قرر الطبيب إجراء عملية جراحية في صنعاء".
ونتيجةً لعسر الحال، أصحبت رحمة اليوم حبيسة في إحدى زوايا منزل أسرتها بعد أن فقدت بصرها بشكل كامل. "لا أحد يهتم بي، وبالكثيرات ممن نال المرض منهنّ، ومع ذلك لن أستسلم وسأرى النور يومًا، بمواصلة تعليمي، وتغلّبي على الصعوبات"- تقول رحمة.
تعليمٌ وتضاريسٌ ريفيّة
أثناء حديثها عن مأساتها، تحاول رحمة جاهدةً أن تتذكر ملامح معلمتها في الصف الأول أساسي، وأشكالِ فصول وأحجارِ مَدرستها، لكنها لا تستطيع. القليل من ألوان الطباشير وشكل خريطة اليمن، هو كل ما بقي عالقًا في ذهنها البصري؛ لأنّها -كما قالت- كانت ترسمها بشغفٍ وحبّ، في بداية دخولها المدرسة.
تكافح رحمة من أجل البقاء، وتواجه الواقع المرير بقليل من الأمل، وكثيرٍ من الاجتهاد. فهي ما زالت تنهل من وافر العلم، ودروب المعرفة، وتتخذ من طريقها إلى المدرسة المحفوف بالمخاطر، جسرًا لعبور أحلامها وطموحاتها، وتتجشّم المعاناة آملةً في الحصول على مستقبلٍ أجمل يكافئ اجتهادها، ويصنع من بؤسها فرحًا ينسيها كلَّ لحظةٍ عاشتها بين الشقاء. تذهب كلّ صباحٍ برفقة زميلتها "أرحام" التي تستند عليها وتتوكأ على ظهرها، من أجل إيصالها إلى المدرسة. ليس لديها كرسيٌّ متحرّك أو عربةُ نقل، فالظروف قاهرة والتضاريس قاسية، حيث يبعد بيتها عن المدرسة قرابة أربعة كيلومترات، والطريق إليها يمر بين سلسلةِ مدرجات جبلية وصخور، كما هو الحال في معظم أرياف اليمن.
يجب أن تتاح للأشخاص ذوي الإعاقة الفرص في المجتمع بكافة مجالاتها، وأن يشعروا بإنسانيتهم، وبأنهم غير ناقصين
ما يراه المبصرون
الأستاذ عبدالسلام صالح، متخصص في الإرشاد الاجتماعي ومدير مدرسة الشهيد محمد عباس الحاتمي، يقول لـ"خيُوط": "التضاريس الريفيّة القاسية، وعدم توفير المستلزمات التعليمية التي تتناسب مع وضعهم الصحي، والغياب التام لمراكز التعليم المتخصصة للأشخاص ذوي الإعاقة، هي أبرز الصعوبات التي يواجهونها في الأرياف".
وعن تعامل المجتمع مع الأشخاص ذوي الإعاقة، يضيف صالح أن امتلاكهم الذكاء والفطنة أكثر من غيرهم، يجعل معاملتهم كأشخاص فاعلين، واجب على كل أفراد المجتمع؛ "مثلهم مثل أي إنسان في المجتمع، قادرين على العطاء في مختلف المجالات". كما يشير لأهمية دور منظمات المجتمع المدني في تركيز الاهتمام على الأشخاص ذوي الإعاقة، خاصة في الأرياف، "لأنّ البلد في حالة حرب، ولا نستطيع الركون على الجهات الرسمية"- حسب تعبيره.
وعن الصعوبات التي تواجه الفتيات في الأرياف، تحدثت لـ"خيوط"، ذكرى سيف، وهي ناشطة مجتمعية، حيث تقول إن "الفتيات الريفيّات، لا سيما ذوات الإعاقة، من أكثر الفئات الاجتماعية تضررًا؛ نتيجة المشقة والعناء اللذَين تتحملهما النساء في مواجهة أعباء الحياة اليومية". وتضيف: "أكثر الأمور التي تدمي القلب، أنّ ذوي الإعاقة غالبًا ما يكونون أصحاب همّة وعزيمة، ولكن لا يوجد من يأخذ بأيديهم، ويوفر المكان الملائم لتعليمهم بما يتناسب مع احتياجاتهم؛ بسبب أنهم موجودون على رقعة جغرافية ريفيّة، صعبة التضاريس، وقليلة الخدمات".
أثر نفسي واجتماعي
لا تقتصر الإعاقة عند الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة على إثرها البدني فقط، لكنها تتعدى إلى التأثير النفسي والاجتماعي على المصاب، وما لم يتم التغلّب عليها أولًا بأول، فهي تتحوّل إلى أثر نفسي مستدام.
يقول الدكتور إبراهيم قائد، أخصائي اجتماعي ومدير مركز الدعم النفسي بمحافظة تعز، إن الآثار النفسية عند الأشخاص ذوي الإعاقة "تختلف وتتفاوت" من شخص لآخر بحسب نوع الإعاقة، سواءً كانت إعاقة حركية أو حسية، أو إعاقة مركبة. كما تختلف من حيث الفترة الزمنية؛ "بمعنى هل هي منذ الولادة أم نتيجة حادث أو عارض مرضي". ويضيف في حديثه لـ"خيُوط": "يميل الأشخاص ذوي الإعاقة إلى العدوانية والتمرد، لشعورهم بعدم الكفاءة والإحباط".
وفي السياق ذاته، تقول الدكتورة أنجيلا المعمري، وهي أستاذة مساعدة للصحة النفسية بجامعة تعز ورئيسة مركز الدراسات الاستراتيجية لدعم المرأة والطفل: "يجب أن تتاح للأشخاص ذوي الإعاقة الفرص في المجتمع بكافة مجالاتها، وأن يشعروا بإنسانيتهم، وبأنهم غير ناقصين. يجب أن يتم معاملتهم كأفراد طبيعيين"، وهذا هو السلوك الاجتماعي المفيد للتعامل مع الأشخاص ذوي الإعاقة، من وجهة نظر علم النفس.