تواجه فئة المهمّشين في اليمن تحديات كثيرة، سواء أكانت هذه التحديات شخصية لهم كأفراد، أو جماعية للفئة عمومًا، أبرزها التمييز الذي يواجههم بسبب لون بشرتهم.
غسان خالد، طالب من فئة المهمّشين، تسرّبَ من إحدى المدارس الحكومية بمدينة تعز (جنوب غربي اليمن)، لأسباب لا علاقة لها بالظروف المعيشية أو بُعد المدرسة عن سكنه، بل بسبب التمييز والألفاظ العنصرية التي تقال له بشكل يوميّ.
يقول غسان لـ"خيوط": "ليست المشكلة أنّي أذهب للمدرسة بدون مصروف لأشتري لي شيئًا آكله، ولا في التعب والجوع، بل في أن يأتي لي أحد زملائي الطلاب، ساخرًا ومنتقصًا منّي، ناعتًا إياي بـ: يا خادم".
ويتساءل غسان، بحرقة: "هل أتحمّل الجوع أم الإهانة؟! كم سأتحمل؟! ولماذا عليّ أن أسمع كل هذا السيل من الألفاظ الخادشة للكرامة وللشعور، بسبب لوني أو فئتي التي خلقني الله عليها"، مضيفًا: "لا يقف الأمر عند معاملة زملائي الاستعلائية في المدرسة، بل ما حرق قلبي، ودفعني لترك المدرسة فعليًّا، هي تلك السلبية واللامبالاة من قبل بعض المعلِّمين الذين أذهب إليهم لأشكو سلوك زملائي تجاهي، فلا يحركون ساكنًا، بل قد لا يصدقونني، ولا يأخذون احتجاجي وشكواي محمل الجدّ والمسؤولية".
إزدراء فئة المهمشين في اليمن، ما هو إلا تطبيع اجتماعيّ وَفق بنية المجتمع النفسية والاجتماعية والثقافية، إذ يتوارث الأبناء عن الآباء النظرة الدونية لهذه الفئة، وهو ما يجعل الأطفال لا يتقبّلون حتى الجلوس مع أطفال الفئة المهمشة، فضلاً عن التعايش معهم.
يتابع غسان حديثه متحسِّرًا: "لقد تركت التعليم، نعم تركته، وتركت معه فصولًا من المعاناة والشعور بالدونية والكرامة المهدورة بسبب تصرفات زملائي وتنمّرهم عليَّ وعلى لوني وفئتي، متجهًا لجمع الخردوات والموادّ البلاستيكية التي يبدو فيها التعب أهون بكثير من الدراسة المشحونة بالقهر والتوتر والحزن اليومي".
مشكلة الصغار والكبار
تشارك أصيلة طلال، طالبة في الصف الرابع، زميلها غسان الوجع ذاته، والمعاناة، بسبب أنّ مُدرِّساتها لا يصدقن شكواها، بل قد يحملنها مسؤولية حساسيتها تجاه هذه العنصرية:
تقول طلال لـ"خيوط": "أصابني اليأس بسبب ما أواجهه من عنصرية، أذهب شاكية لأستاذتي، فتقول لي: "كفي افتراء على زميلاتك"، لأعود كل مرة منكسرة بدون إنصاف. أشعر أنّي المذنبة في حين أنا المظلومة؛ أتلقّى اللوم والتوبيخ؛ لمجرد أنّي اشتكيت أو اعترضت على الأسلوب الذي تتم معاملتي به، أنا أتساءل: لمن أشتكي إذا كانت أستاذتي لا تنصفني؟!"، تتساءل أصيلة بحرقة.
من جهتها، عبّرت والدة أصيلة عن أسفها وحزنها البالغ بسبب هذا التمييز الذي لا يعبر عن دين أو عادات وقيم المجتمع اليمني؛ مضيفة: "الدراسة شاقة علينا كأولياء أمور وعلى أطفالنا، نتيجة لما تمر به البلاد من حرب وصراع، إضافة إلى ظروف التنشئة بالنسبة لنا كفئة مهمشة لم تنَل حقّها في المواطنة المتساوية حتى في أكثر سنوات البلاد استقرارًا وتنمية".
"نحن بحاجة إلى جيل متسامح ومتصالح مع نفسه، كأبسط مقوم لتأسيس دولة مدنية تتسع للجميع، ويتساوى فيها الجميع، تنتفي فيها كل أشكال التمييز على أساس الشكل أو النوع أو العِرق أو الطائفة"، تتابع أمُّ أصيلة حديثها لـ"خيوط"، مضيفة: "هذا الأمر يتطلب تربية الأبناء على تقبّل الآخرين من كل الشرائح والألوان والمعتقدات، وتطبيق مبدأ الدمج في المدارس".
في سياق متصل، يطرق وائل سعيد، طالب من فئة المهمّشين، جانبًا آخر للمشكلة؛ يقول سعيد لـ"خيوط": "كطالب في إحدى المدارس الحكومية، اعتاد المعلمون على ترتيبنا في الصف أنا وزملائي السُّمر في جهة بمفردنا، بينما الأطفال الآخرون في جهة أخرى. نشعر حيال هذا التصرف بالدونية وبحساسية مفرطة، لدرجة أنّنا نفكر جديًّا بترك المدرسة"، ينهي سعيد حديثه.
تكريس ثقافة التعايش
تقول رجاء الدبعي، مديرة مدرسة نعمة رسام للبنات بتعز، إنّ هناك مشاكل شبه يومية بين الطالبات ذوات البشرة السمراء، مع زميلاتهن ذوات البشرة الفاتحة، إذ تسعى إدارة المدرسة لحلّها أولًا بأول، كمبدأ ثابت لنشر ثقافة القَبول والتعايش.
وتتابع حديثها لـ"خيوط": "نفّذت المدرسة مبادرةً لغرس قيم احترام الاختلاف، وإرساء قواعد المشاركة والقبول، حيث خصصت المدرسة جوائز لكلِّ طالبة حسنة السلوك، وجيدة التعامل مع زميلاتها من الطالبات السمراوات".
في ذات الصدد، يقول الناشط الحقوقي، عبدالغني عقلان لـ"خيوط": "تنشئة الطفل على العنصرية تبدأ من الصفر، هناك بعض أولياء الأمور يمنعون أبناءهم من التعامل مع الأطفال ذوي البشرة السمراء!".
مضيفًا: "هناك ثقافة مجتمعية تُكرّس العنصرية ضد الأقليّات العرقية في اليمن جيلًا بعد جيل، وبطرق مختلفة مثل الأمثال الشعبية الساخرة: "صاحب الخادم ولا تآكله"، أو "من صاحبَ الخادم، بكّر نادم".
ويرى عقلان أنّ مثل هذه التراكمات العنصرية، تتحول بفعل الاعتياد والزمن من انتهاكات لفظية إلى انتهاكات فعلية، على هيئة سلوك عنصري.
منوهًا إلى أنّ هذه الثقافات أوجدت موروثًا اجتماعيًّا تجاه الفئات الأكثر فقرًا، أدّت بدورها إلى حرمانهم من كثير من حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية، حتى إنّ البعض بات لا يرغب بوجود هذه الفئات اجتماعيًّا، وهذا يفسّر سبب عزوف أبناء هذه الفئات عن التعليم أو توقفهم عند مستوى معين.
غياب المعالجات
في المقابل، هناك أصوات تقول إنّ فئة المهمّشين لا تريد أن تندمج اجتماعيًّا، ويعلِّلون رأيهم هذا بناءً على بعض تصرفات الأفراد من الفئة المهمّشة، وفتور هممهم، ومبررات أخرى كثيرة، ترفضها هذه الفئة بالمجمل، وترى أنّ هذه الادعاءات سببٌ رئيس للتهميش والعنصرية، الذي تواجهه كفئة، ابتداء من الحارة، وصولًا إلى المدرسة ثم الوظيفة، وحتى القبر.
طالما ظلت ثقافة التحقير والازدراء ثقافة مجتمعية، في ظل عدم تفعيل القوانين الرادعة، ستستمر الممارسات والاعتقادات العنصرية بحق الفئات الأضعف في المجتمع اليمني.
مشكلة يذهب ضحيتها الصغار، والطلاب السمر في المدارس -تحديدًا- الذين كافحوا وتجاوزوا عقدة ما قبل المدرسة، ليجدوا أنفسهم عالقين في مضيق التمييز والعنصرية، والعنف اللفظي الذي قذف بهم خارج التعليم والمستقبل.