تعاطي القات في حضرموت، في ازدياد

هل ينهار حاجز الصد الأخير أمام الشجرة المعيقة للتنمية؟!
عبدالله قاسم
August 8, 2024

تعاطي القات في حضرموت، في ازدياد

هل ينهار حاجز الصد الأخير أمام الشجرة المعيقة للتنمية؟!
عبدالله قاسم
August 8, 2024

ترتبط صورة متعاطي القات في الذهنية الحضرمية، بصفاتٍ سلبية دُنيا، وتتجسد شخصية المتعاطي كمشروع منحرف جاهز لارتكاب أيّ جرم في سبيل إشباع رغبته في توفير قيمة كيفه. يرى أهل حضرموت أنّ القات آفة دخيلة على مجتمعهم، ونبذه من أولى الأولويات لكي تنعم الأسرة والمجتمع والبلد بالصدق والأمانة والطمأنينة والحقوق المصانة. 

من التجريم إلى النبذ

تعود ظاهرة تعاطي القات (جنوب اليمن)، تحديدًا في عدن ولحج وأبين، إلى عقود سابقة للاستقلال، حين كان يستجلب من الحبشة ومناطق شمال اليمن كتعز، إلى جانب زراعته القليلة في الضالع ويافع، وبعد الاستقلال، وتحديدًا من منتصف السبعينيات، تم تقنين تناوله إلى يومَي الخميس والجمعة من كل أسبوع، إضافة إلى أيام العطل الرسمية، وكانت تفرض عقوبات مشدّدة على المخالفين لضوابط وقواعد تعاطيه.

حضرموت وقتها كانت بمنأى عن القات؛ بسبب منعه التام فيها، حتى العام 1990، وكان بيع القات وتعاطيه في وادي حضرموت بعد الوحدة يصنّف ضمن الممنوعات، إذ يعدّ من المحظورات التي يجب تجنبها، ومن يتعاطاه على الأغلب، يقوم بذلك خلسة دون علم أقاربه؛ لأنّ المجتمع ينظر إلى متعاطي القات نظرة ازدراء واحتقار، ولهم أسبابهم في ذلك، وعادة ما يتم رفض متعاطي القات إذا تقدم لخطبة فتاة؛ ولهذا كان يجلس أغلب المتعاطين للقات بعيدًا عن أنظار الناس، لا سيما معارفهم أو أقربائهم، وقبل عودتهم إلى البيت يحرصون جيدًا على التخلص من آثاره؛ تجنّبًا لسوء السمعة!

تشجّع التقاليد الاجتماعية في حضرموت، على الانشغال بأعمال أو أنشطة ذات جدوى، عوضًا عن الجلوس لمضغ القات؛ لذلك ينشغل الشباب بالأنشطة الرياضية، إذ وفرت جغرافية المحافظة ساحات مهيَّأة لممارسة الرياضات المختلفة، في حين يقصد كبار السن المقاهيَ لشرب الشاي وممارسة بعض الألعاب وتبادل الأحاديث المتفرقة قبل أن يتوجه الكبير والصغير إلى المساجد لأداء صلاة المغرب والعشاء، علاوة على أنّ الكثير من الحضارمة يشتغلون بالتجارة، والعرف السائد هناك أنّ التاجر أو العامل لا يمضغ أعواد القات في دكانه احترامًا للزبائن، كما أنّ المناسبات الفرائحية أو التجمعات التي عادة ما توفر مناخات اجتماعية ملائمة لتعاطي القات في أغلب محافظات اليمن، تخلو تمامًا من هذه الظاهرة في حضرموت؛ لهذا كانت البيئة مهيَّأة تمامًا لعدم تعاطي القات.

يصل القات إلى حضرموت من مناطق مختلفة في اليمن، مثل: رداع– البيضاء، وذمار، وصعدة، وعمران، ونظرًا لبعد مسافة الطرق وفارق العملة بين حضرموت وهذه المحافظات، إضافة إلى الضرائب والإتاوات، يتم تضخيم سعره، ممّا يدفع بمتعاطيه (الموالعة) إلى تأمين قيمته ولو على حساب القوت الضروري للأسرة.

عوامل تُبطِّئ انتشاره

في الوقت الراهن، بات من الملاحظ، إقبالُ كثيرٍ من الشباب في حضرموت، على تعاطي القات رغم صورته في الثقافة الحضرمية. عن سرّ انجرار الشباب تباعًا وراء تعاطيه، تحدث اللورد جلال، مدير مدرسة، لـ"خيوط"، قائلًا: "الفراغ هو السبب الأول، إضافة إلى اعتقاد بعضهم -بفعل التأثر- أنّ القات أصبح مكملًا للرجولة، ويلجأ الشباب إليه لتعويض نقصٍ ما، إضافة إلى محاولتهم الابتعاد عن منغصات الحياة بدلًا من مواجهتها". ويلقي جلال، باللوم على الأُسَر في تقصيرها وعدم مراقبة الأبناء كما يجب. 

مناخ حضرموت، المحافظة المترامية الأطراف، غير ملائم لزراعة القات، ولهذا نشأت أسواقٌ خاصة به واستحدثت أماكن لبيعه، رغم محاولات السلطة المحلية الحدَّ من انتشار هذه الأسواق، لكن المجتمع الحضرمي في الوادي خصوصًا، يعدّ مجتمعًا محافظًا على عاداته وقيمه ومبادئه، ومِن ثمّ بقيت هذه الظاهرة محل رفض واستنكار حتى بعد 34 سنة من ظهورها أول مرة في المحافظة، ساهم هذا الرفض والاستنكار في إبطاء انتشاره في الوادي مقارنة بالساحل. 

يصل القات إلى حضرموت من مناطق مختلفة في اليمن، مثل: رداع– البيضاء، وذمار، وصعدة، وعمران، ونظرًا لبعد مسافة الطرق وفارق العملة بين حضرموت وهذه المحافظات، إضافة إلى الضرائب والإتاوات، يتم تضخيم سعره؛ ممّا يدفع بمُتعاطيه (الموالعة) إلى تأمين قيمته ولو على حساب القوت الضروري للأسرة.

ولعل أسوأ ما في أمر تعاطي القات في حضرموت، هو انتقال تعاطيه من مرحلة الخفاء إلى العلن، فقد تمتلئ واجهات بعض المحلات وكذلك الساحات العامة بالـ(مخزنين)، وإن كان أغلبهم من الوافدين على المحافظة، لكنها مظاهر مقززة، تشوّه المنظر العام، والفطرة الإنسانية السوية.

المتصوفة حين يرفضونه

بالرغم من ارتباط دخول القات إلى اليمن بالمتصوفة، بحسب عدد من الروايات، وبالرغم من أنّ حضرموت تعتبر من المراكز المهمة للصوفية، فإنّ السلطة الدينية هناك تقف ضد القات. عبدالله مهدي، إمام مسجد، يرى أن القات آفة اليمن الكبرى، وواحد من جملة أسباب ساهمت في تأخر اليمن تنمويًّا واقتصاديًّا، بل تسبب بتراجع اليمنيين أخلاقيًّا وذوقيًّا. ويضيف مهدي في حديث لـ"خيوط": "يقف القات حجر عثرة أمام كل سبل إصلاح الاختلالات الموجودة في كل ربوع الوطن؛ بسبب ما يخلقه من حالة خدر عامة، يدور في حلقتها جلّ اليمنيين دون إحداث حراك حقيقي".

فيما يتطرق الدكتور سمير زين، في حديث لـ"خيوط"، إلى الدور الذي تلعبه المؤسسة الدينية في حضرموت، بالقول: "تنقسم المؤسسة الدينية في وادي حضرموت إلى مؤسستين؛ الأولى هي الرسمية المتمثلة بمكتب وزارة الأوقاف، والثانية خاصة، وتشمل الخطباء والدعاة والعلماء، ولا يكاد يظهر للمؤسسة الرسمية أيّ دور فاعل في المجتمع فيما يتعلق بالتوعية، رغم ما تملكه من سلطة في كثير من المساجد، كتعميم الخطب للجُمَع وإقامة الندوات والمؤتمرات، وتوافر إمكانية صنع شراكات مع كافة القطاعات، أما بالنسبة لجهود المؤسسة الدينية غير الرسمية فهي موجودة لكنها فردية ومحدودة".

ويضيف زين: "دور المؤسسات الدينية في الوادي غير فاعل مقارنة بحجم التهديد، لكننا نعول كثيرًا على الموقف الاجتماعي -الممانع- من ظاهرة انتشار القات في المحافظة.

أمّا نظرة السلطة الدينية العامة لظاهرة تعاطي القات في وادي حضرموت، فترى أن القات سبب لانتهاك الضرورات الخمس التي يدور عليها الدِّين، فهو مضر بالدِّين إذ يترتب على تعاطيه ضياع كثير من الواجبات الدينية، وأهمها الصلاة، إذ يصرف القات متعاطيه عن الالتزام بأدائها في أوقاتها، نظرًا للساعات الطويلة التي يقضونها في مضغه، وبالمثل بقية الفروض. كما أنّ السلطة الدينية ترى أن تعاطيه مضر بالنفس والصحة والعقل؛ إذ قد يجر القات لأمور أخرى تدخل في قائمة المحرم". 

ظاهرة آخذة بالتمدد

لا شكّ أنّ تمدد انتشار القات في وادي حضرموت، أخذ وقتًا طويلًا مقارنة بمناطق أخرى، لكن الملاحظ أنَّ الظاهرة أخذت في التزايد تدريجيًّا، وبمرور الوقت أصبح هناك نوع من التقبُّل، يؤكّد هذا، الإقبالُ الكبير على أسواقه في كل الأوقات، والمبالغ الضخمة التي تهدر في سبيله، وبحسب سلمان- بائع قات، في حديثه لـ"خيوط"، فإنّ معدل الإنفاق على القات للفرد الواحد يوميًّا يتراوح بين 4000 ريال حدًّا أدنى، و50000 ريال حدًّا أعلى.

مجموعة من متعاطي القات، يذكرون لــ"خيوط"، بعضَ الأسباب التي دفعتهم نحو القات. زكي علي، عامل بالأجر اليومي، يقول إنّ زملاءَه في العمل هم من شجّعوه لخوض التجربة، إذ أكّدوا له أنّه يمنحهم الطاقة لإنجاز مهامهم، ونوّه زكي إلى أنّه شعر بالغثيان بعد تجربته الأولى، لكنّ زملاءَه حثّوه على المزيد، وهكذا استمر حتى تحوّل إلى إدمان، يقول زكي: "كثيرًا ما يستهلك القات أجري اليوميّ كاملًا". وبالمثل، كانت بداية زاهر محمد، طالب جامعي، فقد استعان بالقات من أجل زيادة التركيز والسهر، لكنه مع مرور الوقت أصبح مدمنًا عليه (بحسب التعبير الشعبي الدارج: مولعي). زاهر يضطر إلى أنّ يبيع بعض أشيائه من أجل توفيره!

أما بشير، صاحب بسطة قات، فيؤكّد أنّه يتعامل مع زبائن يدفعون بالعملة الصعبة، خاصة في عطلة نهاية الأسبوع وفي المناسبات، ممّا يثمر زيادة إضافية في سعره.

جلال أحمد، يفنّد أسباب انجرار الشباب إلى تعاطي القات رغم طبيعة البيئة الرافضة له، بالقول: "يدفع الفراغُ والفضول، والوضع المعيشي الصعب جراء الصراع، وضعف رقابة ومتابعة الأسرة، الشبابَ لتجريب المجرَّب والهروب مؤقتًا من واقعهم؛ ولذلك نجد أن معظم المقبلين عليه شباب في مقتبل العمر".

من جهته، يرى سامي، معلم في مدرسة ثانوية، في حديث لـ"خيوط"، أنّ ضعف الرقابة، وعدم الوعي بمخاطره الاقتصادية والصحية تقف خلف استمرار تدفقه إلى وادي حضرموت. ويعزو سامي السبب الأكبر في انتشاره، إلى ارتباطه بالمسؤولين الذين يتعاطونه. 

عوض لكمان، طالب دراسات عليا، يؤيّد ما ذهب إليه سامي، ويضيف في حديثه لـ"خيوط": "المتنفذون والمستفيدون من ضرائب القات، خصوصًا الذين يُسَمّون أنفسهم بالمشايخ القبَليين، هم وراء ظاهرة تزايد استهلاك القات، وتدجين تعاطيه كظاهرة طبيعية وعرف اجتماعي منتشر في كل اليمن، وحضرموت ليست استثناء".

يؤكّد مهتمون بهذه الظاهرة لـ"خيوط"، أنَّ تحصيل ضرائب القات يصل إلى خمسة ملايين يوميًّا؛ أي ما يعادل 150 مليونًا شهريًّا، وهو رقم كبير لا يُعلم أين يستقر، فأغلب الظن أنّه يذهب إلى جيوب متنفذين، ولا يغفلون رغبة الشباب في المغامرة واكتشاف طبيعة هذه العشبة التي يحذره الناس منها، فيقع وقتئذٍ في الاعتياد عليها. 

أصدر محافظ حضرموت السابق قرارًا يقضي بمنع دخول القات إلى المحافظة، وحظي القرار بتأييد الكثير من المواطنين، وتوعد بتطبيق أقسى العقوبات على المتعاطين والمهربين على حد سواء، بيد أن القرار سرعان ما تعذّر تنفيذه؛ نظرًا لتشابك المصالح، وتكاثر متعاطيه مؤخرًا.

دور السلطة في المواجهة

في السياق، كان محافظ حضرموت السابق اللواء فرج البحسني، أصدر قرارًا سنة 2020، يقضي بمنع دخول القات إلى المحافظة؛ حظي القرار بتأييد الكثير من المواطنين وتم رصد مكافآت مالية لكل من يبلغ عن مهرِّبٍ للقات وعن أماكن تعاطيه أو تهريبه، وتوعد البحسني بتطبيق أقسى العقوبات على المتعاطين والمهربين على حد سواء، بيدَ أنّ القرار سرعان ما تعذّر تنفيذه؛ نظرًا لتشابك المصالح، وتكاثر متعاطيه مؤخرًا، علاوة على أنّه لا يوجد قانون صريح يجرمه أو يحرمه، ممّا شكّل ضغطًا على المحافظ.

يتساءل جلال: "مَن بيده قرار منع القات مِن المسؤولين، هو في الأصل (مَولعِيّ)، وفاقد الشيء لا يعطيه، فإذا فقدَ المسؤولون مقاومة أنفسهم عن تعاطي القات، فكيف نتوقع أن يكونوا جادّين في منع وصوله إلى حضرموت؟!".
لا تبتعد مخاوف أهل حضرموت كثيرًا عن مخاوف كل فرد مناوئٍ للقات في أيّ مكان في اليمن؛ بسبب أضراره الصحية والاجتماعية والمادية والدينية، التي لا تخفى حتى على المتعاطين أنفسهم، لكن ربما ما يؤرق المجتمع أكثر هو إهدار المال والوقت في بلدٍ يكافح باستمرار من أجل توفير لقمة العيش، علاوة على تعطيل العقلية الحضرمية وإعطاب أدوارها المعروفة في التجارة وإدارة السوق والاقتصاد، بمعنى أنّ الحضرمي يضع الريال في موضعه دون إسراف. 

يدرك اليمنيّون سلبيات القات وعواقب تعاطيه وزراعته، بصفتها آفة ابتُلي بها عموم الشعب، وكان لها الأثر في حالة الجمود التي يشهدها البلد، حتى المتعاطون أنفسهم يدركون أنّهم وقعوا في فخ الإدمان، ولو قُدِّر لهم أن يتمنّوا لما طلبوا أكثر من أن يرجع بهم الزمن قليلًا إلى لحظة ما قبل التعاطي، يؤيد هذا الطرح الجماعاتُ والحركات التي ظهرت في مدن شتى تنادي بالتقليل من تعاطيه، تمهيدًا للإقلاع عنه نهائيًّا.

•••
عبدالله قاسم

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English