مراكز "الرُّقية" بديلًا عن العيادات

معالجون شعبيون يستخدمون عقاقير نفسية لعلاج المرضى
ثابت الأنعمي
November 9, 2023

مراكز "الرُّقية" بديلًا عن العيادات

معالجون شعبيون يستخدمون عقاقير نفسية لعلاج المرضى
ثابت الأنعمي
November 9, 2023
.

يعتقد يمنيون كثر أنّ العلاج النفسي لا يتوقف بالضرورة على الذهاب لطبيب نفسي والالتزام بقائمة طويلة من العلاجات والعقاقير الطبية، فهناك طرق علاجية أخرى لا تعتمد على الطب النفسي في علاجها، ومنها الطب البديل والرقية الشرعية التي يلجأ المعالجون فيها إلى استخدام عدد من المستحضرات والمواد التي يعتقدون أنّها تساعدهم في المعالجة، مثل الزيوت والأعشاب والمياه المعدنية التي يصرفونها لعلاج من يقولون إنه مصاب بـ"العين" أو بـ"مس شيطاني"، إضافة إلى توفير غرفة أو غرفتين في المبنى لاستقبال المرضى والمرتادين، يكتب على بابها عادة: "علاج جميع الأمراض المستعصية بالقرآن الكريم والطب البديل". وعندما يلج المرء أحد هذه المراكز، تفزعه أصوات مرضى بداخلها يتعرضون للضرب والخنق والصعق بالكهرباء، بحجة أن كل التعذيب يصيب الجني المتلبس وليس المريض نفسه.

طب بديل 

لجأ المعالجون بالرقية أو بالطب البديل في الآونة الأخيرة، إلى تسجيل أدوية نفسية خطيرة لا تصرف إلا من قبل طبيب مختص.

ظاهرة صرف وصفات تتضمن أدوية وعقاقير نفسية من قبل مشعوذين يزعمون أنهم يعالجون المرضى بالرقية الشرعية والطب البديل، بدت منتشرة بشكل لافت مؤخرًا، بالرغم أن مصطلح (الطب البديل) حسب الترويج الشعبي يعني بديلًا عن الأدوية والعقاقير مثل الماء "المَقري" عليه، وبعض الزيوت والأعشاب، بحسب تأكيد استشارية الأمراض النفسية، د. أفراح هواش، في حديث لـ"خيوط".

أطباء يشخصون

لم يتفاجأ أطباء الأمراض النفسية عندما تحدثنا عن وصفات العقاقير النفسية التي يكتبها معالجون بالرقية وبالقرآن، إذ أكّدوا أن هذه الحالات تحولت إلى ظاهرة مستشرية في ظل جهل العامة وصمت المعنيين بحماية الناس عن هذه التجاوزات التي تسبّبت في تفاقم حالة المرضى الذين يقعون ضحايا سهلة لهؤلاء المشعوذين في مناطق متفرقة من اليمن.

د. علي ناجي، استشاري أمراض نفسية وعصبية، يقول لـ"خيوط": "تشاجرت مع أحد الشيوخ (القرّاء) وهددته باللجوء للقانون، ومحاكمته بسبب انتحاله صفة المعالج النفسي عبر صرف عقاقير وأدوية بطريقة عشوائية للعديد من الحالات التي وصلتني قادمة من عنده بحالة سيئة للغاية".

وأضاف: "كان هذا الشيخ (القارئ) يطلع على وصفاتي التي أقوم بوصفها للمرضى، ثم يقوم بتسجيل تلك الأدوية لزوّاره ومرتاديه بغرض العلاج وهو لا يعرف ما تسببه هذه الأدوية من تأثيرات وأعراض جانبية".

ويتساءل ناجي: "الأمر المحير هو: كيف يقبل هؤلاء المرضى العلاج عند أشخاص لا يفقهون في الطب شيئًا، ويستخدمون الدين لاستغلالهم والاحتيال عليهم، علاوة على ما قد تسببه وصفاتهم التي تتضمن عقاقير لعلاج أمراض نفسية من متاعب ومخاطر جسيمة؟!".

وصفات عشوائية

من جانبه، أكّد د. طلال الشعبي، استشاري أمراض نفسية وعصبية، في حديث لـ"خيوط"، أنّ المشكلة في وصف هذه العقاقير تكمن في كمية العلاج ومدة استخدامه، وعدم وعي الشيخ بكيفية تناولها وأعراضها الجانبية، ومتى يجب التوقف عن أخذها، ومِن ثمّ يستمر المريض في استخدام العلاج بطريقة عشوائية، ثم يتوقف فجأة، ما يتسبب بانتكاسة للمريض نتيجة التوقف المفاجئ للدواء، مؤكدًا أنّ الأطباء أنفسهم يجدون صعوبة في إيقاف بعض الأدوية.

وأوضح الشعبي أنّ الطب النفسي يبدأ بعلاج واحد إذا كانت الحالة في بداية مرضها، ولا يضاف علاج إضافي إلا إذا كانت الحالة مزمنة، ويحدد ذلك الأعراض ومدى استجابة المريض، منوهًا أنّ من ضمن الآثار الجانبية لتناول هذه الأدوية والعقاقير، بعضَ المشاكل الجنسية.

الاعتقاد المختل

ويضيف الشعبي: "لا يلجأ المريض إلى الطبيب النفسي إلا بعد أن يكون قد زار المشايخ والمشعوذين، وتحولت حالته إلى الأسوأ، ودخل في مضاعفات خطيرة بسبب الانتهاكات التي تعرض لها، مثل الصعق بالكهرباء والخنق والضرب". 

موضحًا أنّ بعض الحالات تدفعها الضرورة في النهاية بعد هيجان المريض والحاجة الماسة لتهدئته، إلى زيارة الطبيب النفسي، والبعض منهم يغادر وهو لا يعترف أنّ البروتوكول العلاجي الذي اتّبعه الطبيب النفسي قد أعطى نتائج ناجعة ساهمت في علاجه، معتقدًا أنّ "الجنّي المتلبس" قد خرج منه، مذيلًا كلامه: "مش منك يا دكتور".

ويرجع الشعبي عزوف الكثير من المرضى عن الذهاب لعيادات الطب النفسي إلى الاعتقاد السائد بأن من يذهب إلى الطبيب النفسي مجنون ومختل عقليًّا بالضرورة.

يقوم بعض المعالجين بطحن أقراص الديازبام ( Diazepam)، وهو أحد الأدوية المستخدمة لعلاج حالات القلق وبعض الأمراض النفسية، ومن ثَمّ يضعها في علب الماء، موهمًا المريض أنه ماء مقروء، والمريض بدوره يتناوله بكل ثقة واطمئنان، دون أن يعلم ما خلط بهذا الماء، الذي من ضمن أعراضه الجانبية إدمانه نفسيًّا وجسديًّا إلى جانب ضعف العضلات والصداع.

في سياق متصل، تذكر د. أفراح هواش، استشارية أمراض نفسية، في حديث لـ"خيوط"، بعض أسباب عزوف المرضى عن زيارة الأطباء النفسيّين، قائلة: "يعزف الكثير من المرضى عن الذهاب إلى المستشفيات والعيادات النفسية نتيجة الارتفاع المستمر في تكاليف العلاج، واستغلال المريض من قبل هذه المستشفيات والمراكز والعيادات عبر فرض بعض الوصفات وإجراء عدد من التحاليل والفحوصات غير الضرورية التي ترهق كاهل المريض، في ظل غياب شبه تام للرقابة والمحاسبة".

حيل وكوارث 

الصيدلي عمار العمري، يروي لـ"خيوط"، لجوءَ عدد ممن يدعون العلاج بالرقية والأعشاب إلى طلب كميات كبيرة من الأدوية النفسية من صيدليته -وهذه الأدوية لا تصرف إلا بوصفات طبية معتمدة من طبيب مختص- لكنه يمتنع عادة عن بيعها لهم متعذرًا بأنها غير موجودة، وقد عرف ذلك عندما أخبره أحدهم أنه شيخ ويعالج بالقرآن.

يقوم بعض المعالجين بالقرآن أو بالأعشاب بطحن أقراص الديازبام (Diazepam)، وهو أحد الأدوية المستخدمة لعلاج حالات القلق وبعض الأمراض النفسية، ومن ثم يضعها في علب الماء، موهمًا المريض أنه ماء مقروء، والمريض بدوره يتناوله بكل ثقة واطمئنان، دون أن يعلم ما خلط بهذا الماء الذي من ضمن أعراضه الجانبية إدمانه نفسيًّا وجسديًّا إلى جانب ضعف العضلات والصداع، والإمساك والغثيان، والإرهاق الدائم وغيرها الكثير من الأعراض الجانبية.

تداولت بعض المواقع قبل فترة قصيرة، أن عروسة في محافظة تعز تُوفيت بسبب أحد المعالجين بالرقية، بعد أن أجبرها على تناول خلطة عشبية داخل قارورة ماء معدني (شربة)، رغم توسلاتها وإخباره بأن ما تتناوله يسبّب لها آلامًا حادّة، غير أنه لم يعبأ بتوسلاتها، ففارقت الحياة بعد أيام.

الجهل والأزمات 

تنتشر ظاهرة الشعوذة في معظم المناطق الريفية باليمن، وضاعف من انتشارها الخلط بين العلاج بالقرآن والعلاج بالشعوذة نتيجة انتشار الجهل والخرافات التي عششت في رؤوس الكثيرين، ممّا جعل مهنة مثل هذه تدرّ الكثير من المال على مزاوليها. وبحسب مسح أجرته منظمة نسوية أهلية -غير رسمية- في العاصمة المؤقتة عدن، نشره (الموقع بوست) فإن اليمنيين ينفقون قرابة 50 مليون ريال يمني سنويًّا على جلسات وتعاويذ وأدوية في محافظات عدن ولحج وأبين والضالع فقط. ويرى أخصائيّون نفسيّون أنّ الحرب وتفاقم الأزمات أسهمت بشكل كبير في انتشار العديد من الأمراض النفسية.

على صعيد متصل، خلصت دراسة حديثة أعدتها مؤسسة التنمية والإرشاد الأسري -منظمة مجتمع مدني- إلى أنّ 195 شخصًا من كل ألف يمني يعانون من ضغوط واضطرابات نفسية حادّة. الدراسة التي أعلنت نتائجها في اجتماع لمناصرة قضايا الاستجابة النفسية للمتضررين من الحرب في اليمن، بحضور أكثر من 25 منظمة محلية ودولية نهاية يوليو/ تموز الماضي بصنعاء، قدرت أنّ هناك حوالي خمسة ملايين و455 ألف شخصٍ بحاجة ماسة لرعاية صحية نفسية متخصصة عاجلة، محذرة من أنّ هذه النسبة تفوق المعدلات الطبيعية بأضعاف وتنذر بكارثة.

جشع الشركات والمندوبين

يتساءل البعض: كيف يمكن لشخص لا يعلم عن الطب شيئًا، تخويل نفسه لوصف علاجات وأدوية قد تتسبب بكوارث صحية لعددٍ من المرضى، بل إنّ السؤال الأهم هو كيف يصرف الصيدلي -متجاهلًا مسؤوليته الأخلاقية والمهنية- وصفات طبية لهذه المراكز المنفلتة، وكيف لا تحرك -قبل هذا وذاك- الجهاتُ المعنية ساكنًا لمكافحة هذه الظاهرة؟

يبيّن الشعبي أنّ السبب يعود إلى جشع بعض شركات الأدوية التي تلزم مندوبيها بيعَ كمية معينة من الأدوية، وهو ما يسمى بالهدف، لكي يحصل على أرباح، مما يجعل المندوب يلجأ إلى هذه المراكز بهدف تصريف الأدوية وتحقيق الأرباح.

فيما يرى ناجي، أنّ غياب الكادر الصيدلاني المؤهل ساعد على انتشار مثل هذه الظواهر، لافتًا إلى أنّ الدولة عندما تنهار ويغيب النظام والقانون، يظهر النصّابون باسم الله والدين.

•••
ثابت الأنعمي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English