جرائم كثيرة حدثت، هزّ بعضها الرأي العام، نظرًا لبشاعتها وفظاعتها ولا معقولية أحداثها، انتهت فصول ملابساتها ليس بمعاقبة الجاني، ولكن بالحديث عن إسقاط العقوبة عنه بسبب معاناة من اضطراب أو مرض نفسي.
مبررٌ تكرّر بشكل لافت بالتزامن مع وقوع حوادث جنائية جسيمة، وهو ما يطرح التساؤل عمّا إذا كان هناك ادعاءات بالمرض النفسي لتجنّب العقوبات.
هناك من يرى أنّ مثل هذه الحالات لم ترقَ إلى أن تكون ظاهرة، وأنّ أكثر هذه الادعاءات لها أسباب ودوافع أخرى غير النجاة من العقاب، على رأسها تعاطي المخدرات والخمور، وحبوب الهلوسة، إلى جانب الاضطرابات النفسية التي باتت جزءًا من انعكاس الوضع العام على اليمنيين ككل.
هناك حالات يلجأ فيها الشخص وأقاربه إلى ادّعاء المرض النفسي كحيلة للهروب من عقوبة ما، أو وصمة اجتماعية، لذلك يضطر أولياء الأمور إلى الكذب وتزوير التقارير الطبية وجلب شهود زور، لإثبات أنّ قريبهم يعاني من مرض نفسيّ، لتضليل العدالة أو الرأي العام، وحتى لصرف العتب واللوم الاجتماعي.
آلية فحص المرض النفسي
تقول الأخصائية منيرة الرداعي، طبيبة إكلينيكي مستشفى الأمل للأمراض النفسية، لـ"خيوط": "إنّ تشخيص المرض النفسي يتم عن طريق تقييم كامل وشامل للشخص، ابتداء بدراسة واختبار القصة المرضية منذ بداية تاريخ المرض بالتزامن مع قياس تأثير الأدوية، على أن تكون فترة القياس محدّدة للتأكّد من مدى مفعولية هذه الأدوية، وغالبًا يوضع من يراد أن نقيس سلامته العقلية من عدمها، تحت الملاحظة مدة 45 يومًا على أقل تقدير".
وتتابع الرداعي: "نعم هناك حالات يلجأ فيها الشخص وأقاربه إلى ادّعاء المرض النفسي كحيلة للهروب من عقوبةٍ ما، أو وصمة اجتماعية، لذلك يضطر أولياء الأمور إلى الكذب وتزوير التقارير الطبية وجلب شهود زور لإثبات أنّ قريبهم يعاني من مرض نفسيّ لتضليل العدالة أو الرأي العام، وحتى لصرف العتب واللوم الاجتماعي".
وتضيف الرداعي: "ليس من المعهود أن يعترف المريض النفسي بمرضه، حتى الأسرة تخجل أن تقول إنّ لديها من يعاني من مرض نفسي، إلّا إذا كان في الأمر دفعٌ لشيء أعظم وأكبر".
تعاطٍ، وليس مرضًا نفسيًّا
في سياق متصل، تقول سارة الرقيحي، ماجستير علم نفس، لـ"خيوط": "يلجأ الإنسان إلى ادّعاء المرض العقلي لكسب تعاطف المجتمع، وهذا يُظهر أنّ هؤلاء يتمتعون بوعي اجتماعي منخفض، ولا يدركون حقوقهم كأفراد، علاوة على ما يشكّلونه من خطر على المجتمع من خلال تعدّيهم على أرواح وحقوق وأعراض الناس".
وتضيف الرقيحي: "بات المرض النفسي مجرّد غطاء لمواراة جرائم أكثر خطورة، والتستر على متعاطي حبوب الهلوسة أو المخدرات، كما حدث مؤخرًا مع الضحية التي ذبحها ابنها في تعز، وكان التبرير أنّ الابن مريضٌ نفسيًّا، لكن التحقيقات والفحوصات الطبية كشفت فيما بعد أنّه كان متعاطيًا للشبو أو المخدرات".
الطب النفسي الجنائي
وترى الرقيحي أنّ كشف مثل هذه التلاعبات يتطلب طبيبًا ذكيًّا وبارعًا في عمله، والتركيز على مرض الجاني العقلي من خلال طرح عدة أسئلة، لتوضيح قدراته العقلية والنفسية. منوهة إلى أنّ المسؤول عن كشف هذه الحالات لدى قسم الشرطة، يسمى الطب النفسي الجنائي، حيث لا يتم التعامل مع تشخيص الشخص المصنف على أنّه مريض عقليًّا أو سليمًا مصابًا ببعض الاضطرابات النفسية إلا بعد مراقبته مدة، على أن تكون هناك ملاحظات ومعلومات كافية عن الحالة التي يلتمس العلاج من أجلها، ليحكم على أهليته للمحاكمة، واتخاذ العقوبة الرادعة المناسبة له، بما في ذلك تقييم حالته النفسية وشخصيته ومدى قدرته على ارتكاب الجريمة.
وتابعت الرقيحي القول: "يتم جمع الملاحظات وملء التقارير وتوثيقها قبل النطق بالحكم".
لا مفرّ من العقوبة
المحامي والاستشاري القانوني، وائل عبده الطويلي، يؤكّد لـ"خيوط"، أنّه من الصعب على المتهم جنائيًّا ادعاء المرض العقلي، لأنّ المحاكم لا تأخذ في الحسبان فورًا هذه الادعاءات، حتى لو أكّدت عائلته ذلك، إذ لا بد أن يراه طبيب، يفحصه ثم يقرر مدى حالته النفسية والجسدية، بالتزامن مع استجوابه عقب عودته من النيابة.
ويضيف الطويلي: "لم أصادف قضية ادّعى فيها الجاني أنه مريض نفسيًّا، لكنني وجدت حالات فيها المرض النفسي مبنيّ على وقائع حقيقية، حيث تم التحقق من بعض الجناة في عدة حالات، وكانت بالفعل مريضة عقليًّا، وهذا ما أكّدته الجهات الصحية الرسمية التي حقّقت في هذه الحالات".
ويتابع الطويلي: "لا ينبغي اعتبار الافتقار إلى الوعي عاملًا مخففًا من العقوبة، إذ قد تقرر المحكمة أنّ المرض العقلي لا يمنع صاحبه من معرفة ما كان يفعله وقت وقوع الحادثة أو الجريمة، لأنّه غالبًا ما يكون من الصعب العثور على مريض يفهم ما يفعله أو لماذا".
مضيفًا: "القضايا الجنائية التي تسيطر فيها السلطات بشكل فعال على مرضى الصحة العقلية، نجد فيها أنّ هؤلاء المرضى نزلاء في المستشفيات، وليسوا طليقي السراح، بحيث لا مجال أمامهم لارتكاب جرائم أخرى، مع الأخذ في الاعتبار أنه، وفي حال ثبت عدم معاناة الشخص من مرض أو اعتلال نفسي، لا يتم العفو نهائيًّا عنه، ولا تخفيف العقوبة".