"القيد والمرود - ذكريات معتقل سياسي في سجون الأمن الوطني 1983-1986"، كتابٌ للكاتب والباحث المخلافي سعيد الصوفي، صدر مؤخرًا عن منشورات مواعيد بصنعاء، بـ120 صفحة من القطع المتوسط، مشتملًا على 33 حكاية مختلفة عن فترة اعتقاله بتعز. بدأت محتويات الكتاب عمليًّا بالتمهيد الذي دُوِّن تحت عنوان (أمّا قبل)، وفيه يسرد تفاصيل رحلته السرية إلى عدن في العام 1979 وهو شاب على عتبة العشرين ومنظّم في حزب الطليعة الشعبية، وكان الغرض من هذه الرحلة، كما يقول، الالتحاق بدورات حزبية متقدمة في المدرسة الحزبية العليا (المدرسة العليا للعلوم الاشتراكية) -هي ما صارت تعرف لاحقًا بـ"معهد باذيب للاشتراكية العلمية"- وهو ما كان بالفعل، حين التحق بالدورة في مدينة المكلا، بعد أن رأت القيادات أنّ الحزبيِّين القادمِين من مدن الشمال قد يكونون صيدًا سهلًا لمُخبرِي جهاز محمد خميس، الذين نشطوا في تك الأيام بعدن، خصوصًا بعد حرب الشطرين الثانية. وَصْفُ الرحلة من تعز إلى طور الباحة، ومنها إلى عدن، كان سلِسًا وبلغة سهلة، وبصورة مكثفة تظهرت عدن في النص، في ذروة حضورها الاشتراكي.
حوار واعتقالات
ما قبل الاعتقال، يسرد الكاتب جملةً من الحكايات المختلفة، ومنها شعوره بأنّه مراقب من عناصر جهاز الأمن بصنعاء، فغادر المدينة في منتصف أغسطس 83، إلى القرية حيث كان حديث الزواج، لكنه بعد أقل من أسبوعين اختطفه ثلاثة عناصر من الجهاز وهو خارجٌ من مكتب التربية بتعز، حينما كان يقوم باستخراج وثائق وشهادات دراسية وتعميدها، في محاولة للعودة مرة أخرى إلى صنعاء لمواصلة الدراسة والعمل، ثم أُودع سجن الأمن الوطني.
كان جهاز الأمن الوطني يرسل مساجين الأمن الوطني إلى العراق للقتال في صفوف القوات النظامية بدون إعدادهم عسكريًّا، والهدف الخفي من ذلك هو التخلص منهم جسديًّا بالموت قتلًا في جبهات الحرب، وقد سقط العديد منهم قتلى وجرحى وأسرى لدى القوات الإيرانية، والقليل منهم عاد سالمًا.
يقول الكاتب إنّ عملية الاعتقالات والاختطافات للحزبيّين في فصائل اليسار الخمس وأعضاء الجبهة الوطنية الديمقراطية، كانت في فترة الحوار بين قيادات الشطرين من جهة، وحوارات الجبهة مع السلطات المحلية في المناطق التي تنشط بها الجبهة، مثل منطقة شرعب والمخلاف التي ينتمي إليها الكاتب، من جهة أخرى.
بعد الاختطاف نُقِلَ إلى قبوٍ أرضي شبه مظلم بعد ضرب القيد بإحكام حول قدميه النحيلتين، وبمجرد فتح باب القبو رأى أشخاصًا شبه عرايا وهم شاخصون إلى البوابة لمعرفة من يكون القادم الجديد.
وعلى مدار صفحات الكتاب، يسرد الكاتب الكثيرَ من الوقائع والحكايات عن أيام السجن الطويلة التي امتدت ثلاثة أعوام، وما تخللها من إخفاء وتعذيب نفسي وجسدي، ومعها سنلتحم بقصص رفاق المعتقل من القائد (الطفشال) بحكاياته المثيرة والغريبة وقدرته الفائقة على تتويه المحققين، ولم يجدوا من حل معه سوى إرساله إلى العراق للقتال في صفوف القوات النظامية في حربها مع إيران، فيما كان يُعرف بحرب الخليج الأولى، قبل أن يعود مرة أخرى بعد نهاية الحرب ويعمل في مقلع أحجار، وتنتهي حياته بعد أن انهارت جوانب المقلع عليه ودفنته تحتها، ليلقى حتفه فيه، وتكون آخر أيام حياته المثيرة للجدل، كأنه أراد أن يلتحم بالأرض والتراب والصخور التي أحبّها.
سجن وسُخرة
إرسال المسجونين من أعضاء الجبهة إلى العراق للقتال في صفوف القوات العراقية، كان أشبه بالسخرة، كما يقول الكاتب في موضوعٍ مستقل من الكتاب ذاته، وكانوا يُرسَلون بدون إعدادهم عسكريًّا، والهدف الخفي من ذلك هو التخلص منهم جسديًّا بالموت قتلًا في جبهات الحرب، وقد سقط العديدُ منهم قتلى وجرحى وأسرى لدى القوات الإيرانية، والقليل منهم عاد سالمًا، مثل الطفشال، كما تم تسريح العديد منهم بدون حقوق مادية.
وفي قرابة ثلاثين عنوانًا فرعيًّا، يعرض الكاتب حكايات عديدة عن تفاصيل أيام السجن وشخصياته وجلسات التحقيق والتعذيب وأنواعها والأدوات المستخدمة فيها، ومنها حكاية "الخصم الشريف والصلب"، الذي يرفض الاعتراف في التحقيقات على ابن عمه وهو في أشد الخصومة معه، وعن الطبيب الصبيحي الذي كاد يفقد رأسه بسبب الكاتب؛ لأنه قرّر له أدوية بدون علم إدارة المعتقل ورضاها. وغيرها من الحكايات.
عن علبة باندورا التي حوت الشرور كلها، وهي حسب الأسطورة صندوقٌ يحتوي على كل شرور وأمراض العالم: الموت، الحروب، الأوبئة، الجشع، الكراهية، وكل ما يمكن أن يسمّم حياة الإنسان. وقصة هذه العلبة (علبة حليب كبيرة فارغة)؛ أنّ أحد الرفاق قبل سفره إلى عدن وضع فيها منشورات حزبية ومدوّنات شخصية ووثائق سرية للغاية تحوي أسماء ومعلومات حسّاسة، وحينما داهمت القوات الأمنية المكان وجدت العلبة، وبدأت تُسقِط كلَّ ما فيها على الوضع، بما فيها عملية اغتيال رئيس الجهاز السابق محمد خميس، الذي صفّاه النظام بمنطقة مناخة، غير أنّ الأطرف في حكاية العلبة اعتبارُ ما دوّنه الرفيق في يومياته عن يوم عرسه (الدخلة) شفرةً سرية خطيرة، بموجبها تمت معاقبة المساجين الذين وردت أسماؤهم في الوثائق السرية.
الكتاب بموضوعه ولغته السلسة ونزوعه السردي، ينتمي إلى ما يُعرف بأدب السجون الذي صار في منتوج الأدب العربيّ عنوانًا بارزًا حين خاض فيه أدباء معروفون، أمثال: عبدالرحمن منيف، ومحمد الماغوط، وصنع الله إبراهيم، والطاهر بن جلون، ونوال السعداوي، وخيري الذهبي، وغيرهم.
نشرة وصحيفة
عن جزئية "نشرة الحزب الشيوعي السعودي" في الكتاب، وهي أنّ شابًّا من منطقة صهبان، كان طالبًا بكلية الشرطة، وبسبب ضيقه أراد الهروب إلى عدن، وحينما وصل إلى نقطة طور الباحة أمسكت به النقطة الجنوبية، وسلّمته للنقطة الشمالية التي نقلته إلى مقر الأمن الوطني. أخذوا منه بطاقته الشخصية ونقوده ولم يأخذوا النشرة التي بيده والتقطها في الغالب من نقطة طور الباحة الجنوبية، وحين أدخلوه على المساجين تفاجَؤُوا بوجود النشرة بيده، فأخذوها منه وأخفوها في حفرة تحت فراش الكاتب، وكانوا يتناوبون على قراءة موضوعاتها، ثم يعرضون محتوياتها في حلقة نقاش.
الصحيفة التي رافقت الكاتب في المعتقل، لم تكن غير صحيفة الأمل، التي أصدرها الراحل سعيد الجناحي، بعد تفاهمات الشطرين لتكون مقابل صحيفة الصحوة، التي كانت لسان حال الجبهة الإسلامية، ولاحقًا حزب الاصلاح بعد الوحدة. وكانت الأمل تدخل السجن في بداية الأمر عفويًّا حين كان صاحب المخبازة القريبة من السجن يلف بها طلبات المساجين من الأكل، ومن خلال الصحيفة تعرّف بكتّاب صاروا من أصدقائه القريبين، مثل الراحل نبيل السروري، الذي قرأ له مقالًا مميزًا عن "الغربة في الفكر الماركسي".
الكتاب بموضوعه ولغته السلسة ونزوعه السردي، ينتمي إلى ما يعرف بأدب السجون الذي صار في منتوج الأدب العربي عنوانًا بارزًا حين خاض فيه أدباء معروفون، أمثال: عبدالرحمن منيف، ومحمد الماغوط، وصنع الله إبراهيم، والطاهر بن جلون، ونوال السعداوي، وخيري الذهبي، وغيرهم، وبصدوره يسدّ نقصًا بيِّنًا في المكتبة اليمنية التي تعاني شحًّا في هذا الجانب، فغير الاسترجاعات التي ظهرت في مذكرات بعض السياسيين عن فترة السجون في مرحلة ما قبل سبتمبر 1962 ليس هناك -بحسب تتبعي- غير مجموعة معدودة من الكتب التي كتبت كذكريات عن فترة السجن، ومنها كتاب شاهر الصالحي، الذي صدر منذ وقت ليس ببعيد، بعنوان "الأقدام الدامية".