في أواخر العام 2019، كان الصحفي معين النجري متوجهًا من صنعاء إلى عدن، وذلك للسفر عبر مطار عدن إلى العاصمة الأردنية عمان من أجل حضور مؤتمر شبكة أريج للصحافة الاستقصائية هُناك بصحبة مجموعة من زملائه الصحفيين، وعند وصولهم إلى محافظة لحج تم إيقافهم في إحدى نقاط التفتيش هناك، وأخذ جوازات سفرهم، وبعد أن وجد المجند بعض الجوازات المكتوب عليها مهنة "صحفي"، ما كان منه إلا أن قام بإيقافهم جميعًا.
يقول النجري في حديثه لـ"خيوط"، إنّ المجند في نقطة التفتيش كان قد أعاد جوازات السفر له ولبعض زملائه، لكنه عندما لمح مهنة "صحفي" في أحد الجوازات طلب منهم مرة أخرى جوازات سفرهم، وقام بالتحقيق معهم وتوجيه بعض الأسئلة إليهم بشأن عملهم، وما الوسائل الإعلامية التي يعملون بها، وسبب سفرهم، وأسئلة أخرى، وبعد ذلك تم توقيفهم أكثر من ساعتين والتحقيق معهم، ثمّ سُمح لهم بالمرور فيما بعد.
كثير من الصحفيين اليمنيين يشكون ما يؤكدون أنها تعسفات وانتهاكات يتعرضون لها عند تنقلهم داخل المحافظات اليمنية، أو في حالة التنقل للسفر الخارجي، حيث يتعرضون للترهيب والتخويف والابتزاز، وكأن ما يحملونه في وثائقهم تهمة أو جريمة، إذ يعاني الكثير -كما ترصد "خيوط"- من صعوبة السفر عبر مطار صنعاء، حيث تفرض سلطتها المتمثلة بجماعة أنصار الله (الحوثيين) تشديدًا واسعًا وترهيبًا وتصنيفًا لكل من يحمل هذه المهنة ولا يكون مواليًا لها.
في حين يكون الخوف رفيقَ من كان مضطرًّا للتنقل إلى عدن للسفر من هناك، حيث تنتشر عشرات النقاط العسكرية على امتداد الطريق، بينما تحدث بعضهم عن تعرضهم أكثر من مرة للإيقاف والتعسف في النقاط، خصوصًا على مدخل عدن، فالأمر هنا لا يتوقف عند حدود التوقيف والترهيب وطلب الوثائق الشخصية، بل والابتزاز للحصول على ما بحوزةِ بعضٍ ممّن يقعون في يد هؤلاء في بعض النقاط.
كثير من الصحفيين يفضّلون عدم كشف هُوياتهم المهنية؛ وذلك لضمان عدم حدوث مشاكل أثناء تنقلاتهم بين المدن، ومع ذلك فإنهم قد يتعرضون لانتهاكات عديدة كسائر المواطنين، إذ يتم تفتيش هواتفهم وابتزازهم ماديًّا.
منذ سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة صنعاء، في سبتمبر/ أيلول 2014، شهدت حرية الصحافة في اليمن تراجعًا غير مسبوق، وواجه الصحفيون قيودًا صارمة على عملهم، وباتوا يتعرضون لمضايقات واعتقالات واحتجازات متكررة، ففي تلك الفترة، فرضت الجماعة قيودًا على سفر الصحفيين والسياسيين عبر مطار صنعاء، وقامت بملاحقتهم ومضايقتهم في مختلف المناطق، وتصدرت قائمة المنتهِكين للصحفيين، بحسب تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود.
مع تزايد المخاوف التي يعيشها الصحفيون على سلامتهم، فإن الوضع في اليمن فاقم بشكل كبير معاناة الصحفيين وضيّق الخناق على بيئة العمل الصحفية، إذ تُعدّ واحدة من أسوأ بيئات العمل الصحفي في العالم، وهي ثالث أخطر دولة للصحفيين في العالم بحسب تقرير نشرته منظمة مراسلون بلا حدود في العام 2023، فضلًا عن التصنيف العالمي للحرية الصحفية التابع للمنظمة ذاتها الذي وضع اليمن في المرتبة الـ168 من أصل 180 دولة.
إخفاء الهُويّة والهواتف
بعد تعرض الصحفي وسكرتير لجنة الحريات بنقابة الصحفيين اليمنيين، أشرف الريفي، للتوقيف والاستجواب أثناء سفره أكثر من مرة في العام 2016؛ بسبب مهنته (صحفي) المدونة على جواز سفره، قرّر تغيير مهنته المكتوبة إلى موظف أو طالب أو أي شيء آخر، ولكنه واجه صعوبة في ذلك بسبب الإجراءات المعقدة في الجوازات.
يوضح الريفي في حديثه لـ"خيوط"، أنه يضطر إلى إخفاء جواز سفره ومهنته عند المرور بنقاط التفتيش، ويبرز للمجندين بطاقته الشخصية فقط، مما يسهّل له الحركة والانتقال من منطقة إلى أخرى، غير أنه يواجه صعوبة في المطارات، حيث تم إيقافه في مطار عدن والتحقق منه ومن طبيعة عمله ذات مرة.
منذ بداية الصراع وحتى نهاية العام 2021، رصدت نقابة الصحفيين اليمنيين أكثر من 1400 انتهاك بحق الصحفيين والحريات الإعلامية، و92 حالة انتهاك في العام 2022، ونحو 82 حالة في العام 2023، وتم رصد نحو 17 حالة انتهاك في الربع الأول من العام الجاري 2024.
يضطر الصحفيون في اليمن إلى إخفاء هُوياتهم وهواتفهم وأي شيء آخر يتعلق بعملهم من أجل السفر والتنقل داخل اليمن، وذلك خوفًا على سلامتهم أو تعرضهم لأيّ انتهاك من نقاط التفتيش المنتشرة في مناطق كثيرة، وتطال ممارساتها وانتهاكاتها جميع المسافرين، لكن ما تقوم به بحق الصحفيين بشاعته تفوق الوصف.
في السياق، يقول محمد يحيى جهلان -مدرب وصحفي استقصائي مستقل- لـ"خيوط": "يُخفي كثيرٌ من الصحفيين هوياتهم المهنية؛ وذلك لضمان عدم حدوث مشاكل أثناء تنقلاتهم بين المدن، بالرغم من ذلك فإنهم قد يتعرضون لانتهاكات عديدة كسائر المواطنين، إذ يتم تفتيش هواتفهم وابتزازهم ماديًّا".
في حال انكشف أمر الصحفيين فإن الانتهاكات تكون مضاعفة، أبرزها التعرض اللفظي بكلمات أو باتهامات تعزز الانقسام والصراع والفرز المناطقي -وفق جهلان- والترهيب وانتهاك الخصوصية كتفتيش الأجهزة المحمولة لمن يتم إيقافهم، وقد يصل الأمر إلى الاعتقال دون مسوغ قانوني، وتنطبق أغلب تلك الانتهاكات عند السفر الخارجي عبر الأجهزة الأمنية في المطارات.
يؤكّد جهلان على أنّ حالة العداء للإعلام والصحفيين -خصوصًا المستقلين منهم- مع السلطات الأمنية حالة قديمة جديدة، غير أنّ الحرب الحاصلة قد فاقمتها بشكل كبير، وأن جميع أطراف الحرب، بتناقضاتها، يتفقون على أن من لا يقف معهم فهو عدو محتمل، الأمر الذي يزيد من انتهاكاتهم بحق المواطنين، خصوصًا الصحفيين. بالمقابل، تؤكد لجنة حماية الصحفيين على هذه الوضعية العدائية للصحافة والصحفيين، إذ تشير في أحد تقاريرها إلى أن جميع الأطراف المتحاربة في اليمن تنتهك حرية الصحافة والصحفيين، وتمارس جميع أشكال القمع تجاههم.
نزوح الصحافة والصحفيين
مع بداية الضربات الجوية للتحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية في مارس/ آذار 2015، ازدادت حدة الانتهاكات ضد الصحفيين في اليمن، لا سيما بعد أن سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيين) على جميع وسائل الإعلام الحكومية بمختلف أنواعها، وإغلاق الوسائل المعارضة، وقيامها بالتنكيل بمن يعمل بها.
نقاط التفتيش والحواجز الأمنية المنتشرة على الطرقات، انتهكت خصوصية المسافرين وفتّشت أجهزتهم واعتقلت الآلاف من الأشخاص، بسبب مراسلاتهم وطبيعة أعمالهم، منهم ناشطون وعاملون في منظمات المجتمع المدني وصحفيون.
لجأ كثيرٌ من الصحفيين إلى الخروج من صنعاء والبحث عن مكانٍ أكثر أمانًا، غير أنّ القيود المفروضة على حركة الصحفيين تزايدت بشكلٍ ملحوظ، إذ حدثت في العام ذاته، 78 واقعة انتهاك بين اختطاف واعتقال واحتجاز للصحفيين في اليمن، معظمها ارتكبتها جماعة الحوثي، من بينها 8 حالات احتجاز للصحفيين، قامت بها الجماعة للصحفيين أثناء سفرهم من مطار صنعاء أو عبر النقاط العسكرية التابعة لها، حسب منظمة صحفيات بلا قيود، وفي تلك الفترة أيضًا؛ أشارت بيانات نقابة الصحفيين اليمنيين إلى 86 حالة اختطاف واعتقال وملاحقة للصحفيين، منها 15 حالة احتجاز، ارتكبها الحوثيون أثناء محاولة الصحفيين التنقل بين المناطق.
يؤكد عضو مجلس نقابة الصحفيين اليمنيين، نبيل الأسيدي، لـ"خيوط"، أنّ جميعَ أطراف الصراع في اليمن، وبشكل خاص "الحوثيون"، قيّدت حرية التنقل وفرضت قيودًا صارمة على سفر الصحفيين، كما قامت بوضعهم في قوائم الممنوعين من السفر والتنقل منذ سيطرتها على صنعاء.
يوضح الأسيدي أنّ أغلب من خرجوا بطريقة أو بأخرى من مناطق الحوثيين، كانوا بالأصل ممنوعين من السفر، حيث تُقدِّر نقابة الصحفيين اليمنيين نزوح ما يزيد على 1000 صحفي من صنعاء ومناطقهم إلى مناطق أخرى تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًّا أو هاجروا إلى بلدان أخرى منذ بداية الصراع في اليمن عام 2014.
من ناحية أخرى، فإنّ هناك نزوحًا عكسيًّا حدث في فترة أخرى من الحرب للصحفيين، خاصة من مناطق سيطرة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي؛ إما إلى مناطق سيطرة الحوثيين أو إلى مناطق أخرى، غير أنّهم أيضًا تعرضوا للانتهاكات أثناء انتقالهم ونزوحهم من منطقة إلى أخرى، بحسب الأسيدي.
استمرار الوضع الكارثي
مع انتشار نقاط التفتيش الأمنية في مناطق مختلفة، تضاعفت الانتهاكات بشكلٍ كبير في اليمن بحق الصحافة والصحفيين، إذ يرصد تقرير حديث لمنظمة "رايتس رادار" لحقوق الإنسان بعنوان "نقاط الموت" الانتهاكات التي حدثت في حوالي 1,352 نقطة وحاجز تفتيش منتشرة في 20 محافظة يمنية بين فبراير/ شباط 2014 حتى ديسمبر/ كانون الأول 2021، وارتكبتها أطراف النزاع بحق المسافرين وسائقي المركبات والعابرين. وقد وثق التقرير 13,574حالة، منها حوالي 3,658 حالة اختطاف وإخفاء وتعذيب، وحوالي 6,253 حالة تقييد الحركة والتنقل.
ويذكر التقرير أن نقاط التفتيش والحواجز الأمنية المنتشرة على الطرقات، انتهكت خصوصية المسافرين، وفتشت أجهزتهم، واعتقلت الآلاف من الأشخاص بسبب مراسلاتهم وطبيعة أعمالهم، منهم ناشطون وعاملون في منظمات المجتمع المدني وصحفيون.
ويتحدث الأسيدي عن أنّ سيطرة جماعة الحوثي على وسائل الإعلام في صنعاء، أدّى إلى نزوح وسائل الإعلام إلى مناطق أخرى، ويصفه بالنزوح المؤسساتي؛ حيث نزحت جميع وسائل الإعلام تقريبًا من صنعاء، بما فيها الوسائل الحكومية، وأحدثت حالة من الانشقاق والاستنساخ لتلك الوسائل، إضافة إلى نزوح وسائل الإعلام الإلكترونية.
برغم ذلك، يبقى أمر تنقّل الصحفي أو نزوحه من منطقة إلى أخرى، هو الأكثر إيلامًا من وجهة نظر الأسيدي؛ حيث إنّه يتعرض لانتهاكات عديدة رغم مهادنته للسلطات أو حتى العمل معها لإيجاد فرصة دخل يعيش منها.