عروس الأغنية الشعبية في اليمن

"مُنى علي" الصوت المتمدد في الفرح
صلاح الأصبحي
June 9, 2023

عروس الأغنية الشعبية في اليمن

"مُنى علي" الصوت المتمدد في الفرح
صلاح الأصبحي
June 9, 2023
.

 كان صوت المرأة وما زال، عورةً في الوعي الاجتماعي، فما بالك بمن تقتحم، بصوتها، وتمتهن مجال الفن، متجاوِزة الطقوس والأعراف المجتمعية، ومثبتة وجودها في أعماق كيانه، بالرغم من محاولات القدح أو في "تتفيه" النسب كما شاع ذلك فيما يخص بعض الفنانات اليمنيات، ولم تقف أساليب المنع الفني عند المرأة فحسب، بل طال الرجل أيضًا على نحو الفنّان محمد عبدالله العديني وغيره.

من بين النماذج الفنية النسائية، سنتخير صوت الفنانة اليمنية "مُنى علي" التي شكّلت فارقًا بالنسبة لنظيراتها من الفنّانات الأخريات، وذلك لما بحوزتها من إبداع وتميز، والتي ننتمي معًا لنفس الحيز الجغرافي "العُدين"، ذلك الحيز الذي عُدَّ مغذّيًا رئيسًا للفنّ والتراث الشعبي بعد حضرموت ولحج بحسب بعض الباحثين. 

ليس هذا السبب وحده من دعاني للكتابة، وإنّما لما لها من فضل في إسعادنا ودغدغة مشاعرنا في أعراسنا وفي سلوكنا اليومي المتعدد كفلاحين وعشاق وأبناء مخلصين للطبيعة، وقد عُنيت بالبحث عن كتابات خصت بها هذه الفنانة، فصادفت مقالًا يتيمًا للأخ عبده سعيد قاسم فقط، ونظرًا للإهمال سابقًا ولاحقًا، لم يحظَ الفن والتراث الشعبي باهتمام يذكر لا كفن ولا كفانين؛ لا كفنّ اغتاله النسيان، ولا كفانين تم الاعتناء بهم كرموز إبداعية للبلد وللثقافة وللفن، وليس بخافٍ على أحد أنّ المعاناة التي أودت بحياة فنّانتنا الأثيرة منى علي، كانت آخر المآسي: أن تخلت عن مسكنها الكائن في حي الجمهوري بمدينة تعز للتمكن من السفر؛ فخطفها الموت قبل حدوثه؛ لكنه عجز عن اختطاف إرثها أو إخفاء توهجه. 

وللكتابة في هذا الشأن مذاق خاص، تكمن لذته بتماسها مع الروح، وبما لهذه القامات من بعد ثقافي واجتماعي تجاوز الطوق المحيط حول رقبته، وأسهم ذلك البعد بفاعلية في كسر الحاجز النفسي بتحدٍّ وجدارة، فضلًا عن موهبتها العابقة المؤصّلة لفنٍّ نابع من قلب الطبيعة وجوهر الإنسان، يستلهم الذات اليمنية، ويستكنه روحها الحقة (صوتًا، لحنًا، كلمات)، وكأن الطبيعة هي من انتقت هذا الصوت للإفصاح عما يختلج داخلها وما يتلألأ بين أفئدتها.

وحين تكون الفنّانة مخلصة لذاتها الفنية، نراها تنال مكانة متميزة جدًّا كما فعلت منى علي، فنانة "الزَّفّة" المدهشة، باعثة بهجة الأفراح والزغاريد على لسان كل فتاة يمنية حالمة باليوم الذي يتراقص فيه صوت منى علي ويصدح بالقول:

"بيت أبوك معمور بياجور، والحمَام حوله تدور".

كان اهتمامنا بإرثها؛ لما يحمل من تنوع زاخر وتناوب متداول لبيئة المناطق الوسطى في اليمن، لغة ومعنى، وهو في أساسه يشكل الهوية اليمنية باعتباره الصيغة الأولى منها.

الفنانة منى علي -واسمها الحقيقي "غانية"- من مواليد 1935م، في منطقة العدين، من القرى المطلة على وادي "عَنّه" الخصيب، غيبها الموت في الثامن عشر من تموز/ يوليو 2009م، عن عمر ناهز أربعًا وسبعين عامًا، قضت عقدين منه تعزف العود وتلحن الأشعار وتزين الأشجان بلهف وتناغم وبصوت يأخذ عبقه من نسائم البواكير وتباشير الأسحار.

عُرفت كفنّانة أثيرة في عقد الستينيات والسبعينيات، فالعدين غنية بالألحان والأشعار والطبيعة الخلابة والسحر الجغرافي والتي تغنّى بها الكثير من الفنّانين اللامعين وأشهرهم: أبو بكر سالم "وا مغرد بوادي الدور من فوق الأغصان"، "آخر وداع يا العدين با ودِّعك يا بلادي"، كلمات ولحن وغناء: محمد عبدالله العديني، "من العدين يا الله بريح جلاب، والا سحاب تندي علوم الأحباب" لأحمد بن أحمد قاسم، "يا نجم يا سامر"، "الأخضري من العدين بَكَّر" للمرشدي، "هل في قطر مثل اليمن جَنة أو في دبي وديان مثل عَنّه" لمحمد عبدالله العديني، "أخضر جعيش مليان حلا عديني" للمرشدي، و"يا بدر يا عديني" لإسكندر ثابت. 

هذه اللوحة الجغرافية الملهمة بسحرها وعبقها، قد أنهكها الزمن في الفترة التي سطت عليها أسر المشايخ وغدت حظيرة خاصة بهم، ولقربها من تعز فقد كانت الأخيرة محطة انتقال فنّانتنا القديرة التي صقلت موهبتها الفنية وصبغت صوتها الشهي والدافئ، فطارت شهرتها في الآفاق، واتصلت بالرموز الفنية الكبيرة واشتركت معهم في بعض الأغاني كظاهرة فنية عرفت آنذاك في الوسط الفني، منها: "رحلك بعيد" مع أيوب طارش، و"انسَ كلام الناس"، "يوه يا حلاوتك" مع الفنان علي عبدالله السمة، و"مالك سرحتِ حنق وا حالية" مع الفنان محمد العوامي، ولها مع الفنان أحمد الحبيشي بعض الأغاني، حيث تثبت تلك الظاهرة مدى الروح الثنائية التي تبرهن سمة الواحدية وخدمة الإبداع الفني وبث ملامح التناغم والانسجام بدون أن تعيقها حجبٌ تتعلق بالشهرة أو المكانة. 

للفنّ الشعبي عظيمُ الأثر من الناحية الفنية ومن الناحية الحسية، كونه أقرب إلى الروح المحلية بالصورة الحقيقية التي انبثق منها، فهو المعبر الأمين والناقل المتجرد للخصوصية الجغرافية بتشعباتها وتموّج حركتها في الطبيعة والسلوك والثقافة ووصف أنماط الشعور لدى المجتمع في الفرح والحزن، وكيف تتفاعل مكونات حياته من خلال الأغنية الشعبية التي يمكن اعتبارها مرجعًا خصبًا في فهم أنساق المجتمع مشتملة، وديناميكية كل نسق في سياقه الخاص بشكل حقيقي دون تزييف التصور أو شطحات التعبير، فدراسة الأغنية الشعبية معناه تفحص الإطار السوسيولوجي والثقافي للمجتمع، وإدراك طريقة تفكيره من خلال تعابير الأغنية الشعبية، ويُنظر لها كنوع من الأدب الذي يستحق الدرس باعتبارها جزءًا من الثقافة الشعبية التي اهتم بها مؤخرًا التحليل الثقافي؛ لأنها ثقافة تنتجها وتستهلكها العامة، "فهذا الإنتاج والاستهلاك يكشف عن الخصوصية التي تشكّل هوية ما لهذا المكان دون الاستهانة بالأنساق المضمرة التي تحتويها هذه الأغنية والصلات التفاعلية بين الأغنية وبين المجتمع.

وعليه، كان اهتمامنا بإرثها؛ لما يحمل من تنوع زاخر وتناوب متداول لبيئة المناطق الوسطى في اليمن، لغة ومعنى، وهو في أساسه يشكّل الهوية اليمنية باعتباره الصيغة الأولى منها.

الملفت في أغاني منى علي -وبالتحديد أغاني الزفة- الولوج إلى نفسية العروس والإفصاح عن مشاعرها المشتعلة لحظة تحول فارقة في حياتها (من كنف الأسرة إلى كنف الزوج)، تلك اللحظة التي تبدو جسيمة على أيّ إنسان، ولذا فقد اقتفت أغاني منى علي ذلك التأرجح بين وداع كل ما يتصل ببيت الأب من (الأُجبة) والطفل الصغير والحَمَام الدائر حول البيت، واحتضان صدر الأم تعبيرًا عن امتنانها وشكرها للرعاية التي حظيت بها من أسرتها "وعادني يا اباه بِسَعدك، وطيب الله خاطرك، عادني أودع خواتي وابن أخي الطفل الصغير"، هذه التيمة كتفصيل نفسي واجتماعي معقد قلما تجد من منحها ذلك الإحساس الشفيف والحزن الكامن بين فرح وألم، ومن هنا تكمن القيمة الفنية لهذه الأغاني في إخلاصها لبناء النسيج الاجتماعي وتعضيد أواصره وتدعيم بنيانه بما يحقق التكافل والتكامل والسعادة للفرد والمجتمع، مثل هذا العُرف الذي تقوم عبره طقوس الزواج في المجتمع اليمني، ومن خلال الأغنية الشعبية يسنح لأي باحث في الفلكلور إدراك كنهه وتفكيك أنساقه.

لم تتوانَ أغاني الزفة لمنى علي في التغني حسيًّا ببعض مفاتن العروس من حيث الشكل "هذي العروس من مثلها، والله أديب من جَهلِها، ووجهها بَدية قمر في ليلة الشعبانية، واعيانها مثل الغزال مكحلة ساجية، وصدرها رمانتين يهنأ لمن هو جانيه" والذي سيحظى بها عريسها، وقد نال نصيبًا من ذلك التبجيل "يا ما احسنه، لما لبس، بالسيف والجنبية، هذا العريس حقوه دقيق، يا عريس اقبض بأسلوب". 

هذا التوازي بينهما، الدافع وراءه توسيعُ حجم التلهف من قِبل العريس وهو يسمع تلك التفاصيل الخاصة بمحبوبته، يعد تمايلًا وترنحًا ببث صورة زاهية ومبهجة للعروس والعريس، وإقامة جسر من عناق وتواشج اللقاء المرتقب حدوثه للتو، كمن يهيج الجماهير لعرض مسرحي، فهذا الغوص للأعماق ينبئ عن الحميمية واليقين بفاعلية الأغنية الشعبية المخصصة لهذا الطقس الاجتماعي بما لا يدع مجالًا للشك بأن حياة سعيدة في الانتظار أسرعوا لارتشافها. 

الفنانة ترسم مشهدًا سرديًّا حافلًا بالبهجة بين العريس وعروسه، وكأنها ترسم لوحة تقابلية لشخصين إلى جوار بعضهما، لكنهما رغم أن لوحة واحدة تجمعهما فإنهما لا يريان بعضهما إلا عن طريق الروح ولهفتها، ولا تكتمل رسم اللوحة إلا في إتاحة الرؤية لهما وقد التف كلٌّ منهما لعناق الآخر، وما بين ذلك تظل منى علي تزين كل واحد بالألوان والريشات وتزركش مطلعهما، كما أنّها تسدي النصائح والتعليمات التي يتطلب إدراكها، وتعتني كثيرًا في إضفاء الكمال والخلاص من بؤس ما قبل هذا الطقس الجسيم. لقد تفردت هذه الفنانة بزفتها التي تعد تراتيل مقدسة، يتلوها كل من يقدم على الزواج.   

ومن الغرابة بمكان أنّ الفنانة منى علي التي زفَّت وزغردت لكل عروس في اليمن، لم تحظَ بحياة سعيدة ومستقرة، ولعل هذه المفارقة الكبيرة في الحياة الخاصة للفنّانة التي أبهجت القلوب وشرحت النفوس وأعلت الزغاريد وهيجت المشاعر والأحاسيس، فذلك ناجم عن وجود الصورة المثالية لكلّ هذه الأفعال في كيانها الروحي ومحاكاتها لها في مشوارها الفني ومسيرتها الغنائية؛ ولذا فقد أحببنا أن نطلق عليها عروس الأغنية الشعبية تعويضًا مجازيًّا وإطراءً ظهرت من خلاله كما لو كانت هي بالفعل كذلك. 

ذكر سعيد علي قاسم في مقاله: إنّ الفنّانة اختزلت في أغاني الزفة ليس إلا، رغم أنّ لها رصيدًا كافيًا في جوانب أخرى بما يتعلق بشؤون الزراعة ولواعج العشق وانتظار الحبيب وتمثّلها لوضيعة اليتم؛ أي إنّها على صلة وثيقة بمعطيات البيئة التي أنتجتها ونمط التفكير، وكذلك تداول الإشكاليات النابتة والمتداولة في صميم البيئة ذاتها، فلها أغانٍ كثر مسجلة على أشرطة الكاسيت التي صارت مثار تجاهل من الأجيال الشابة، بينما يتذكرها جيل ذلك الزمن، باعتبار أنّ الأغنية الشعبية في اليمن تفرعت بين أغاني الحرف والمهن وبين أغاني الطقوس الاجتماعية التي أشبعتها بدهشة.

•••
صلاح الأصبحي

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English