الراية هي رمز يستخدم للتعبير عن هوية أو انتماء أو انحياز سياسي أو ديني أو ثقافي. فالراية تحمل معانيَ ورسائل تخاطب الذات والآخر، وتشكّل جزءًا من الهوية الجماعية والفردية. أما اللون فيحمل قيمة جمالية وفنية وعلمية، ولكنه أيضًا يحمل قيمة سياسية ودينية وثقافية. فهو يُستخدم للتمييز والتصنيف والتأثير، وهو يرتبط بدلالات ورموز تختلف باختلاف الزمان والمكان.
في السياق السياسي، تستخدم الراية واللون كأدوات لبناء الولاءات والانتماءات، وكذلك لإثارة المشاعر والانفعالات؛ فالراية واللون يحددان المجموعات المتحاربة أو المتحالفة، ويرسخان التباينات بين الصديق والعدو، ويلعبان دورًا مهمًّا في التحريض أو التهدئة.
الراية واللون في التاريخ السياسي لليمن
إذا نظرنا إلى التاريخ السياسي لليمن، سنجد أن الراية واللون كان لهما دور مهم في تشكيل هوية الدولة والشعب، وفي عكس التغيرات التاريخية التي تشهدها البلاد. فضلًا عن كونهما رمزين مهمين في تاريخ اليمن المعاصر، فهما يعبران عن هوية الشعب اليمني وتطوراته السياسية والثقافية؛ ففي عصور ما قبل الإسلام، مثلًا، كان لكل مملكة من ممالك جزيرة العرب راية خاصة بها، تحمل شعارًا أو رسمًا يدل على ميزتها أو قوتها. فمثلًا، كان النسر رمزًا لمملكة سبأ وذو ريدان، وكذا نجد الثور والوعل والأسد رموزًا وشعارات في بقية الممالك.
وفي عصر الإسلام، كانت الراية الخضراء هي الراية التي رفعها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في غزواته، وهي التي اعتمدها خلفاؤه الراشدون والأمويون والعباسيون. وكانت الراية الخضراء ترمز إلى الإسلام والجهاد والنصر. وفي المقابل، كانت الراية السوداء هي التي رفعها المخالفون للخلافة، مثل الخوارج والشيعة والفاطميين. وكانت الراية السوداء ترمز إلى التغيير والثورة والانتقام.
وفى التاريخ اليمني الوسيط كان لكل دولة رايتها الخاصة بها التي تميزها عن غيرها من الدول، وفي العصر الحديث، كانت هناك رايات مختلفة لكل منطقة من مناطق اليمن، وسلطنة من سلطناتها، تحمل ألوانًا وشعارات تعبر عن هوية كل منطقة. وفي المناطق التي كانت تحت سيطرة بريطانيا، كانت هناك راية لكل سلطنة أو مشيخة، تحمل لونًا خاصًّا بالإضافة إلى شعار يدل على اسمها أو شكلها. على نحو شعار السلطنة العبدلية بلحج التي كان علَمها يتكون من لونين متجاورين بالأبيض والأحمر وفي المساحة الحمراء جنبيتان (خنجران) متعامدتان يتوسطهما رمح، وكان للإدريسيين (الإمارة التهامية 1908-1930) راية خضراء تتوسطها عبارة التوحيد بخط أبيض.
أمَّا في المناطق التي كانت تحت سيطرة الإمام يحيى حميد الدين، فكانت هناك راية مشتركة لجميع المناطق، إذ اختار الإمام يحيى حميد الدين، مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية، منذ العام 1918 راية حمراء بشعار أبيض تحمل شهادة التوحيد وسورة الإخلاص. بالإضافة إلى رايات أخرى ذكرها أمين الريحاني الذي زار اليمن والتقى بالإمام يحيى، فقال: "رأيت في تلك الزاوية أيضًا طبولَ الإمام العديدة حجمًا وشكلًا، بعضها مشدود على الفخار، وبعضها على النحاس، وإلى جانبها البيارق والرايات، فكان الدليل اللطيف أسرعَ بيده مني برغبتي. ففتح الراية الأولى فإذا هي خضراء مكتوب عليها بالأصفر: «وفتحنا لك فتحًا مبينًا»، والثانية صفراء مكتوب عليها بالأخضر: «الجنة تحت ظل السيوف»، والثالثة بيضاء وعليها بالذهب آية التوحيد والشهادة". وهذه الراية كانت تعبر عن التزام المملكة بالإسلام والشريعة، وكذلك عن رفضها للتدخلات الأجنبية في شؤونها. ثم حدثت تغيرات طفيفة في الراية المتوكلية خلال فترة حكم الإمام أحمد بن يحيى، لتصبح راية حمراء مستطيلة، في كل زاوية منها نجمة بيضاء خماسية، وفي المنتصف إلى أعلى نجمة بيضاء وسيف أبيض، واستمرت إلى 1962؛ تاريخ قيام الثورة.
بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، التي أطاحت بالإمام محمد البدر بن أحمد حميد الدين، اعتمدت الثورة راية ثلاثية مستطيلة مقسمة إلى ثلاث شرائح أفقية بالألوان: الأحمر والأبيض والأسود. تتوسط الأبيض نجمة زرقاء. وظلت هذه الراية هي شعار الجمهورية العربية اليمنية منذ 1962 إلى 1990.
وبعد أن انتزع الشطر الجنوبي من اليمن استقلاله من بريطانيا عام (1967)، تم رفع راية هي عبارة عن ثلاثة خطوط مستطيلة، تبدأ بالأحمر من أعلى فالأبيض ثم الأسود، ثم تطورت الراية فيما بعد لتحمل، بالإضافة إلى الثلاثة الألوان، نجمة حمراء في شريحة مثلثة زرقاء استمرت حتى عام 1990.
ومنذ العام 1990، الذي تحققت فيه وحدة شطري اليمن، رُفعت راية جديدة للجمهورية اليمنية، وفيها تم دمج راية الجمهورية العربية اليمنية مع راية جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، لتصبح الراية عبارة عن ثلاثة ألوان صافية هي الأحمر فالأبيض ثم الأسود.
ومنذ تحقيق الوحدة اليمنية عام 1990، ظهر التعدد الحزبي في اليمن، وأجريت أول انتخابات فيه، وظهر لكل حزب شعاره الخاص الذي يحمله المنتمون إليه ليميزهم عن غيرهم من الكيانات الحزبية والسياسية الأخرى، وعندما يبدأ موعد الانتخابات يبدأ موعد تعليق الرايات والشارات الخاصة بالأحزاب والمرشحين. وفي الانتخابات 1993، 1997، 2003 كانت الشوارع والسيارات تزدان بالرايات الخاصة بكل حزب.
وحالما بدأت ثورة الشباب في يناير 2011، انقسمت الجماهير بين مؤيد ومعارض، وكل فئة تحمل شعاراتها الخاصة. ومنذ دخول الحوثيين إلى صنعاء في سبتمبر 2014، وسيطرتهم على القصر الرئاسي في يناير 2015، ومع بدء الضربات الجوية للتحالف في 26 مارس 2015، تحوّلت صنعاء إلى مدينة للشعارات، إذ كان المؤتمريون يحرصون على التحشيد في ميدان السبعين، فيجتمعون حاملين شعارات الحزب، بالإضافة إلى راية اليمن الموحد، كذلك الأمر بالنسبة إلى الحوثيين الذين كانوا يجوبون الشوارع حاملين راياتهم وشعاراتهم، وينطبق الأمر نفسه على مناطق الجنوب الخاضعة لسيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي التي كانت تشهد حشودًا كبيرة تحمل راياتها الخاصة المعبرة عن مطالبها في فك الارتباط والانفصال.
الراية واللون في الوضع الراهن لليمن
في كل مناسبة وطنية أو سياسية، نشاهد في الشوارع والميادين رفع الرايات وانتشار الألوان التي ترمز إلى فصيل سياسي محدد. فمثلًا، كنا في مواسم الانتخابات، نرى المدن والأرياف بجبالها وسهولها ووديانها ووسائل النقل وواجهات البنايات والمؤسسات تتلطخ بالشعارات الحزبية التي تحاول استمالة الناخبين والتأثير عليهم، ظنًّا من هذه الأحزاب أن انتشار الشعارات هو مقياس حقيقي لانتشارهم وقوتهم، فكلما زاد انتشار الشعارات والألوان والرايات، زاد عدد الناخبين الذين سيختارون مرشحهم. ولكن، هل هذه الرايات والألوان تعبر فعلًا عن قوة هذه الفصائل السياسية أو أنها مجرد وسائل لإظهار قوة زائفة أو خادعة؟
إنه سؤال يستحق التأمل، خصوصًا في ظلّ التغيرات السريعة التي تشهدها السياسة في اليمن. فقد شهدنا كيف تغير موقف بعض الفصائل من رفع راية معينة إلى رفضها أو تخلٍّ عنها. فمثلًا، في عام 2011، كان ملايين من المؤيدين لحزب المؤتمر يحتشدون كل يوم جمعة في ميدان السبعين بصنعاء، حاملين راية الحزب وشعاره، مدافعين عن الرئيس السابق علي عبدالله صالح ضد ثورة الشباب التي طالبت بتنحيه. وفي الجهة الأخرى من العاصمة، كانت ترفع الشعارات المضادّة لحزب المؤتمر؛ إذ امتلأت الساحات بشعارات حزب الإصلاح وبقية الأحزاب الأخرى، ويتم تحريك الجماهير في كل جمعة في مسيرات كانت توصف بـ(المليونية) حاملين الشعارات المناوئة لحزب المؤتمر.
ولكن بعد أن تم إجبار صالح على التخلي عن السلطة، وبعد أن تحالف مع الحوثيين ضد الرئيس المنتخب عبد ربه منصور هادي، تخلَّى كثير من أنصاره عن راية حزب المؤتمر، وربما رفع بعضهم راية الحوثيين بدلًا منها، خاصة منذ اندلاع الحرب في اليمن عام 2015، التي شهدت البلاد فيها تفاقمًا للأزمة السياسية والإنسانية، وتشظيًا للمشهد الوطني، وتعقيدًا للصراعات المحلية والإقليمية. وفي هذا السياق، لعبت الراية واللون دورًا مهمًّا في تمثيل الفصائل المتنازعة على السلطة والسيادة. فمنذ بدء ضربات التحالف على مناطق واسعة من اليمن، ومنذ أن تم تصفية الرئيس الأسبق صالح من قبل الحوثيين، سيطرت على الساحة اليمنية ثلاث رايات:
- راية الحوثيين الخضراء التي رفعوها بشكل متكرر ومتزامن مع المناسبات الدينية أو السياسية أو العسكرية.
- في المقابل، في المناطق التي يساندها التحالف رُفعت راية الجمهورية بشكلٍ متكرر ومتزامن مع المناسبات الوطنية أو التضامنية أو التحشيدية، بوصف الراية رمزًا للشرعية والديمقراطية.
- وفي المناطق الجنوبية التي يسيطر عليها الحراك الجنوبي رفعوا الراية التي كانت موجودة قبل الوحدة عام 1990، بشكل متكرر ومتزامن مع المناسبات التاريخية أو الثورية أو الاحتجاجية، لتصبح هذه الراية رمزًا لهوية وانتماء وانحياز الجنوبيين كشعب مستقل يسعى إلى استعادة دولته المفقودة.
إنّ القوة الحقيقية لأيّ فصيل سياسي لا تقاس بمظاهره الخارجية، بل بمدى التزامه بمبادئه وقيمه، ومدى حصوله على دعم شعبي حقيقي ومستمر، ومدى قدرته على المساهمة في حلّ المشكلات التي تواجه البلاد. ولذلك، يجب التعامل مع هذه الرايات والألوان بحذر وتمييز، والتفريق بين المظهر والجوهر، وبين المصلحة والمبدأ، لتجنب السقوط في فخ التلاعب أو التضليل أو التحريض.
دليل على القوة أم على الضعف؟
رأينا أنّ الرايات والألوان السياسية في اليمن، ليست مجرد علامات ثابتة أو محايدة، بل هي علامات متغيرة ومشحونة بالمعاني والقيم والأهداف. فهذه الرايات والألوان تعكس التاريخ والحاضر والمستقبل لكل فصيل سياسي في البلاد، وتشكّل جزءًا من هويته وانتمائه. كما تستخدم هذه الرايات والألوان كأدوات للإظهار والإخفاء، فهي تُظهر ما يراد إظهاره من قوة أو شجاعة أو شرعية أو حق، وتخفي ما يراد إخفاؤه من ضعف أو خوف أو انتهاك أو ظلم، لتفقد بذلك رمزيتها الحقيقية والفعلية التي يقاس بها مستوى التحاق الجماهير وانضمامهم إلى الفئات المعبرة عنها الرايات. وللتدليل على ذلك، يكفي أن ننظر إلى شعارات حزب المؤتمر الشعبي وحزب التجمع اليمني للإصلاح، التي كانت تملأ الآفاق في الانتخابات والفعاليات والمسيرات السلمية، ولكنها ما لبثت أن اختفت تمامًا في وقت الشدة ووقت الحاجة الفعلية إلى الأنصار والمؤيدين.
وهذا يدل على أنّ كثرة رفع الرايات وانتشار الألوان لا تعني فعليًّا قوة هذه الفصائل السياسية، بل قد تكون مؤشرًا كاذبًا أو خادعًا. فكثير من الحاملين للرايات والشعارات قد يكونون مجبرين أو خائفين أو طامعين في مصالح ذاتية، كما أنّ هناك الكثير من رافعي الرايات والألوان يرفعونها لكونهم قد أصبحوا تحت طائل سلطة أمر واقع، ويقبلون رفع راياتها لتجنب شرورها. وعند زوال هذه الأسباب، قد يتخلّون عن تلك الرايات والشعارات بسهولة.
دلالات رفع العلم عشية ذكرى الثورة
إنّ الخروج الجماهيري عشية ذكرى ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في العاصمة صنعاء، كان عفويًّا وغير مخطط له من قبل أي جهة، وإن رفع الجماهير لراية الوطن الواحد دون غيره من الرايات والشعارات، لهو مؤشر حقيقي على حنين طاغٍ لدى الشعب اليمني للدولة التي تشمل الحقوق والواجبات بعد أن طغى الظلم والفساد والمحسوبية واستئثار فئة واحدة بالحكم، وعلى رغبة شعبية في الانعتاق من زيف الشعارات الحزبية والفئوية، وتعبير عن إرادة الشعب اليمني في العيش في دولة ديمقراطية موحدة يسودها القانون والعدالة، كما أنّها رسالة إلى الحكام بأنّ الشعب لن يقبل أقل من دولة عادلة يُطبق فيها القانون على الجميع دون استثناء، فضلًا عن أنّ الشعب اليمني لن يتخلى عن مطالبه بضرورة التغيير وبناء دولة عادلة تلبي تطلعاته، وسيواصل النضال حتى تحقيقها.
إنّ القوة الحقيقية لأيّ فصيل سياسي لا تقاس بمظاهره الخارجية، بل بمدى التزامه بمبادئه وقيمه، ومدى حصوله على دعم شعبي حقيقي ومستمر، ومدى قدرته على المساهمة في حل المشكلات التي تواجه البلاد. ولذلك، يجب التعامل مع هذه الرايات والألوان بحذر وتمييز، والتفريق بين المظهر والجوهر، وبين المصلحة والمبدأ، لتجنب السقوط في فخ التلاعب أو التضليل أو التحريض. فقط حينها يمكننا أن نحافظ على رؤيتنا السياسية والاجتماعية، وأن نبني مجتمعًا مستقرًّا وديمقراطيًّا. فالحل الحقيقي للأزمة السياسية في اليمن، لا يكمن في رفع راية معينة أو اتباع لون معين، بل في بناء دولة مدنية دستورية تضم جميع الأطياف السياسية، والالتفاف حول مصلحة البلاد والشعب.