كان الهدف المرتجى في اليمن متجاوزًا بكثير للتفكير باستبدال رأس النظام القائم بآخر، على الأقل في وعي الشباب الذين لم تعد اللعبة السياسية الشكلية بين السلطة والمعارضة تقنعهم؛ لأن المعارضة بكل أحزابها الكبيرة والصغيرة، كانت قد تحولت إلى ديكور انتخابي وأداة لتجديد شرعية النظام بشكل دوري منتظم. وحتى تلك الآلية الشكلية كان النظام يصادرها ويتحكم بمجرياتها، بما في ذلك رفض تنقية ومراجعة قوائم الناخبين وحذف أسماء الموتى من الكشوفات التي كان النظام يبرع في تسمينها وتطعيمها بأسماء الجنود المساكين، الذين بدورهم كانوا يعتقدون أن مرتباتهم لا تصرف من خزينة الدولة بل من خزينة الرئيس شخصيًّا!
سقط النظام الذي ورثه اليمنيون منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن عملية بناء النظام الجديد لم تتم حتى الآن. ومن وجهة نظري فإن كل ما نعيشه اليوم من حرب وانقسام ودمار ليس إلا ضريبة الفشل في بناء شرعية جديدة لنظام جديد. ولن نتخلص بسهولة من الحرب وتداعياتها وتشظياتها إلا بالسياسة وحواراتها وحلولها. كما لن نتخلص بسهولة خلال العقود القادمة أيضًا من أحاديث السياسة في حياتنا العربية بصورة عامة وليس في اليمن فقط؛ لأن كل شيء عالق وغير محسوم لا يزال يرتبط بالسياسة وما تمنحه أو تحجبه، أو ما توفره من حلول وتعقيدات أيضًا، على مستويات متعددة، بعضها يندرج ضمن إشكالات الهوية الملتبسة للنظام وشروط ومتطلبات الاستقرار والمساواة وسيادة القانون والسلم الأهلي والتصالح المجتمعي.
نحن الآن عالقون في انتظار بناء نظام جديد، وبدلًا من التقدم في خطوات البناء وتلمس الطرق المثلى لوضع الأساس، وقعنا في فخ الانقسام والحروب الأهلية التي يتحرج الجميع من الاعتراف بأن هذا هو اسمها الحقيقي، مهما كانت مرجعياتها والجهات الداعمة لاستمرارها ورسم الأهداف من وراء استطالة زمنها.
وكلما تعقد المشهد وتناثرت المزيد من التفاصيل والهزات الارتدادية الملحقة بتداعيات ما بعد سقوط الأنظمة القديمة، لا يجد أحدنا وسيلة تعينه على فهم وتشخيص ما حدث ولا يزال يحدث، إلا إذا عاد بالصورة إلى إطارها الأساسي، قبل دخولها طور التمزق والتشظي إلى مشاهد وسرديات وأطماع وسيناريوهات متعددة، بعضها تقترح تفصيل الزمن القادم على مقاس جماعات ناشئة، تتكئ على ولاءات خارجية ومرجعيات جهوية أو مذهبية أو أيديولوجية، لكن اعتمادها الأكبر يرتكز على قوتها وحضورها القهري على الأرض.
العودة الاضطرارية بالصورة إلى إطارها الأساسي، هي عودة الذاكرة الطرية تلقائيًّا إلى لحظة سقوط الأنظمة التي لا خلاف بشأن فسادها وفشلها واستحقاق تغييرها. لكن تجاوز مرحلة الفراغ والانتقال إلى طور بناء نظام جديد ظلت عملية متعسرة ومربكة، بل إن مرحلة الفراغ أدت إلى خلق واقع جديد لا صلة له بالسعي المفترض لبناء نظام يتلافى أخطاء ومفاسد ما سبقه. وبالتالي ليس ترفًا ولا هروبًا من مواجهة الواقع الحالي عندما نستعيد لحظة بديهية حادة ومفصلية لا تزال ممتدة منذ العام 2011، لأن تجاهل جوهر الخلل يدفع إلى استمرار الغرق في مستنقعات لا نهائية من القضايا والإشكالات الفرعية، ولا يمكن الخلاص منها إلا بمنظور أكثر شمولًا، يتعامل مع الجرح المفتوح وليس مع الأعراض الجانبية التي تسبب في حدوثها.
كخطوة أولى، نحتاج أولًا إلى فهم ما يدور من حولنا، بعيدًا عن الاستسلام لمنظور الآخر البعيد عن تطلعات مجتمعاتنا المحلية وغير المعني بالاتساق مع سقفها الأعلى ومع تراكم تجاربها ونضالاتها منذ الانتقال إلى الجمهورية والاستقلال. نحتاج إلى الفهم وتذكير أنفسنا، ليس لأننا أصبحنا صناع قرار وبوسعنا استخدام المعرفة لنتصرف على أساسها، فحتى هذه الميزة الطبيعية افتقدناها في الوقت الراهن ولم تعد بأيدينا للأسف الشديد. لم نعد نملك صلاحيات التحرك من داخل منظور وطني يفاجئ الإقليم والعالم ويفرض خياراته المشروعة والمجسدة للطموح الشعبي القابل للاستنهاض بمجرد بروز محاولة جادة لضبط إيقاع الصراع وتحريره من الحالة العبثية. لكننا نحتاج إلى الفهم وإلى ما أسميه يمننة الصراع وإعادة توطينه والتفكير فيه من منظور محلي أولًا ثم إقليمي ودولي وليس العكس. نحتاج إلى الفهم وإلى يمننة الصراع والتفكير فيه؛ لأن ذلك يزيل الغشاوة ويوفر الكثير من الوقت ويعين على توفير مساحة من الثقة بالإرادة وطمأنينة لا يتم التحصل عليها إلا بالوعي. الفهم كذلك وسيلة لمواجهة الحيرة المستدامة تجاه ما يجري ولماذا وإلى متى. ومن خلال الفهم الذي نحتاج إلى الاتفاق بشأن نقطة بدايته، قد نصل إلى تفسير بعض خلفيات الإحباط القائم والذي يؤدي إلى التخلي عن الخوض في الشأن العام المصادر والملتبس والمختطف. نحتاج إلى الفهم والتفكير بهدوء لكي نعثر على مدخل لمعرفة آليات وموجهات تعاطي ما يسمى بالمجتمع الدولي مع إشكالاتنا. وإلا سوف يصيبنا الجنون تجاه عبث المبعوثين الأمميين إلى المنطقة العربية. يجب أن نتوقف عن الحيرة والسخرية عقب كل إحاطة يقدمها المبعوث الدولي إلى مجلس الأمن، لنستبدل رد الفعل بمحاولة فهم أساس ومنطلق تفكير ورؤية الآخرين لقضيتنا وكيف يجب أن يتم اختراق الثابت والراسخ لديهم.
التعقيدات في ليبيا وتعدد الولاءات لا تقل عن تعقيدات المشهد اليمني، وإذا ما انفرج مشهد هناك فإنه يبشر بانفراجة قابلة للتحقق في مكان آخر، رغم أننا في اليمن بحاجة إلى جهد أكبر للتهيئة فقط من أجل مبدأ العودة إلى طاولة التفاوض
هذا المدخل يقود بدوره إلى استدراج تفسير لما يحدث في ليبيا واليمن تحديدًا، وأختار هذين البلدين لتشابه الوضع من زاوية الحاجة إلى خلق نظام جديد لملء الفراغ الذي لا يزال من الناحية العملية شاغرًا. وبالفهم أيضًا يمكن استشراف وتأويل ما تطرح من مشاريع حلول، يبدو أنها تلوح في الآفاق المنظورة أو يتم تداولها إعلاميًّا لجس النبض واختبار أهلية الواقع وقواه للاستجابة لها.
في الشأن الليبي تتسارع خطوات تعبيد الطريق لإيجاد حل توافقي. هذا ما نستشفه من سلسة الاجتماعات الأخيرة التي استضافتها تونس، بحثًا عن حل جذري للصراع بين الفرقاء الليبيين. وإن فشلت ماراثونات الاجتماعات بهذا الخصوص، فإنها تكون قد طرقت على الأقل الحلول النظرية الممكنة، وفتحت الأبواب عمليًّا للقبول بمبدأ التفاوض واعتباره مدخلًا للتوصل إلى اتفاق، بعد أن استشرف المجتمعون بالفعل خلال الأسابيع الماضية، خطوطًا عريضة قابلة لأن يتحقق بشأنها قدر من الإجماع والتوافق.
الأمر يبعث على التفاؤل الحذر حتى في اليمن؛ لأن التعقيدات في ليبيا وتعدد الولاءات لا تقل عن تعقيدات المشهد اليمني، وإذا ما انفرج مشهد هناك فإنه يبشر بانفراجة قابلة للتحقق في مكان آخر، رغم أننا في اليمن بحاجة إلى جهد أكبر للتهيئة فقط من أجل مبدأ العودة إلى طاولة التفاوض. كما أننا لم نعد نعرف بالضبط من سيتفاوض مع من؛ لأن التشظيات تزداد، والفوضى تزدهر، والرؤوس تمثل أطرافًا متعددة، وبالتالي لم نعد أمام طرف يقابله آخر من شأن الاتفاق معه أن يضمن تثبيت حل شامل، بل نحن أمام أطراف صراع كلها مسلحة بالتخلي عن فكرة اليمن كما عهدناه على الخريطة. والأخطر من تعدد الأطراف أنها مجتمعة لا تريد إنهاء التوكيل الذي تم منحه بجهالة للإقليم لكي يفكر نيابة عن اليمنيين!
يبدو أن الاتجاه المفضي إلى الحلول المدعومة دوليًّا، يرتكز على تدبير خطوات مشوهة وقاسية ومدفوعة الثمن من أجل الاتساق مع الواقع كما هو ومع ما أفرزه من تيارات لها سلطتها وسطوتها على الأرض والبشر، وحجتهم في التعاطي مع الوضع على هذا النحو، هو استثمار مقدرة الأطراف القوية على تحقيق الاستقرار المزعوم. وبالطبع يأتي هذا الاتساق المأمول من قبل الأطراف الإقليمية والدولية على حساب قيم وتجارب ونضالات محلية، كنا نظن أنها قد تراكمت واكتسبت مناعة ضد كل ما له صلة بالتناقض مع التطلع نحو بناء أنظمة عصرية تعلي من شأن المساواة وتقنين الحقوق والواجبات والتبادل السلمي للسلطة.
إشارات التوافق المجمد حتى الآن في ليبيا، بسبب الخلاف حول بعض التفاصيل التي يكمن الشيطان في ثناياها، كلها تضع اعتبارًا قويًّا وبشكل لافت لمرئيات الأطراف الخارجية المعنية بالصراع، من زاوية تقييم أهمية الاحتياج الدولي للاستقرار في ليبيا، وهذا ما يدفع نحو تحريك عجلة الاجتماعات واللقاءات المتصلة بمعالجة الوضع الراهن، بعيدًا عن التفكير في حاجة المجتمع الليبي نفسه إلى السلام المنتظر، وبعيدًا عن التفكير بشأن طبيعة الحل وما إذا كان سيقود إلى ترسيخ الاستقرار الحقيقي، والأهم من ذلك أن يضمن ديمومته.
كان النظام السابق في اليمن يقوم بدوره المثالي في حراسة الحدود والتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد "الإرهاب"، وهذا يعني أن الآخر غير معني بحلول مثالية ترضي السقف العالي للتفكير السياسي في اليمن؛ لأن أقصى ما يريدون الوصول إليه هو إيجاد حارس جديد للحدود
ما يتم طرحه يكشف لنا أن المنظومة المهتمة بالشأن الليبي تركز بشكل جوهري على أن ينجح الليبيون في أداء وظيفة حراسة شواطئ بلدهم، لأن انفلات السيطرة عليها يتسبب في ضخ المزيد من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا، وفي ذهن العالم كذلك أن يضمن الحل في ليبيا تشكيل سلطة قادرة على ضمان تدفق النفط وحماية المخزون الاحتياطي من أي استثمار قد يذهب لتمويل ودعم الإرهاب. بمعنى أننا أمام مشروع حل مرتقب في ليبيا، الهدف منه خلق نظام يوفر الاستقرار والتعاون مع المجتمع الدولي في المقام الأول. ليصبح المطلوب بشكل أوضح هو سد الفراغ الذي تركه انهيار نظام القذافي، إلى جانب العمل على تحقيق توازن بين القوى الجديدة التي أعلنت عن نفسها، أو تلك التي انبعثت من الماضي، على المستويات الجهوية القبائلية، أو على مستوى تعدد الولاءات الخارجية وانقساماتها، بفعل الاستقطابات المتعددة التي لم تسلم منها كل الدول العالقة في مهب الفوضى والحروب.
لكل ما سبق وما قد يصادفنا في المستقبل من عروض تروج للسلام الملغوم، يجدر بنا ملاحظة أن ما يطرح على الطاولة لا يشي بأن القوى الخارجية المتحكمة بالملف اليمني معنية بالتماهي مع تحقيق التطلعات الضامنة لتصالح مجتمعي راسخ وبناء نظام حديث متجاوز للسابق.
أخلص إلى القول إن استشراف طبيعة الاحتياج الإقليمي والدولي للاستقرار في الدول المنهارة أمنيًّا، هو المدخل ذاته الذي سيفضي إلى اقتراح الحل ويحدد طبيعته ومساراته في اليمن، بما يعزز من تحقيق أمن الإقليم واستمرار محاربة الإرهاب وتأمين الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب. بينما يتم استبعاد معالجة إشكاليات أخرى جوهرية تخص الداخل اليمني ومن شأن استمرارها أن يورث لصراعات مؤكدة وطاحنة في المستقبل.
نحتاج إذن إلى فهم الممكنات التي يستطيع العالم التحرك داخل إطارها من أجل مساعدتنا، وفي مثل ظروفنا السيئة لا يمكن التفريط بتلك الممكنات، لكن في الوقت ذاته ينبغي عدم الاكتفاء بسيناريوهات الحل التي تقترحها الأطراف الإقليمية والدولية؛ لأن ما سوف يتم تقديمه يبقى مؤطرًا بالرغبة الملحة في توظيف الأطراف الجاهزة والمستعدة لتلبية متطلبات الاستقرار من منظور إقليمي ودولي في المقام الأول وليس من منظور محلي أيضًا.
صحيح أن كل طرف محلي يتمنى تلوين المستقبل بألوانه التي يراها زاهية، وهناك من يحتفل بفوز بايدن وعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وهذا أمر يوضع في الاعتبار نظريًّا لجهة استشراف التبدلات المحتملة في التوجهات الخارجية للولايات المتحدة، لكنه في نفس الوقت أمر مضحك، بالقياس إلى أن أمريكا لم تنتج في العراق أنموذجًا مثاليًّا بقدر ما منحت العراقيين منذ إسقاط نظام صدام فرصة للاتساق مع واقعهم الجديد والمرّ، القائم على المحاصصة والطائفية والانفتاح على إيران بأسلوب التابع المطيع!
ختامًا لا يمكن تجاهل التسريب المتعلق بالحديث عن إقامة منطقة عازلة بين اليمن والسعودية كشرط لإيقاف الحرب، إذ إن في مثل هذا الطرح مفتتحًا مباشرًا للكشف عن نوايا الإقليم وعن أقصى ما يمكن له أن يطرحه، تمهيدًا لتثبيت حل يعزز أمن الجيران أولًا وقبل أي شيء آخر.
لقد كان النظام السابق في اليمن يقوم بدوره المثالي في حراسة الحدود والتعاون مع الولايات المتحدة في الحرب ضد الإرهاب، وإن كان يستغل هذين الملفين لابتزاز الطرفين المعنيين. وكل ما سبق يدفعنا إلى الفهم بأن الآخر غير معني بحلول مثالية ترضي السقف العالي للتفكير السياسي في اليمن؛ لأن أقصى ما يريدون الوصول إليه من قبل ومن بعد هو استبدال حارس الحدود على الجانب اليمني بحارس جديد، ومن يتقدم لهذه الوظيفة ويثبت جدارته لدى الجيران سوف يفوز بها، بينما يبقى الصراع الداخلي في اليمن مفتوحًا؛ لأنّ استبدال حارس الحدود لن يحل الصراع.