منذ أن بدأ الصراع المسلح في اليمن بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دوليًا والمدعومة من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات في مارس/ آذار من العام 2015، اتجهت الأطراف المتنازعة إلى إحكام سيطرتها على كل أجهزة الدولة في المناطق التي تسيطر عليها، حينها لم تسلم السلطة القضائية من محاولة السيطرة عليها وتطويعها واستخدامها كسلاح في الصراع، حتى أصبحت المحاكم والقضاء وسيلة من الوسائل القانونية التي تشرعن للأطراف المتحاربة استخدام العنف وقمع الحريات في المناطق التي يسيطر عليها كل طرف، بالإضافة إلى استخدامها في التنكيل بالمعارضين السياسيين والصحفيين في محاولة من جميع أطراف الصراع في اليمن إلى فرض سياسة الرأي الواحد.
دراسة قانونية
في الوقت الذي يشتعل فيه الشارع اليمني احتجاجًا على إعدام جماعة أنصار الله (الحوثيين) لتسعة أشخاص بينهم قاصر بعد صدور حكم الإعدام بحقهم من المحكمة الجزائية المتخصصة في صنعاء بتهمة التخابر في اغتيال صالح الصماد (الرئيس السابق للمجلس السياسي الأعلى) التابع للجماعة، أطلقت منظمة مواطنة لحقوق الإنسان دراسة قانونية بعنوان "محاكم التنكيل" يُحقق فيها مختصون قانونيون وفريق الدعم القانوني للمنظمة عن مدى عدالة المُحاكمات التي تجري أمام المحاكم الجزائية المتخصصة، وفقًا لمفهوم ومعايير "المحاكمة العادلة" كما يحددها القانون الدولي لحقوق الإنسان والدستور والقانون اليمني.
وتعتبر هذه الدراسة التطبيقية الأولى في اليمن التي تدرس مدى توافر الضمانات القانونية للمحاكمة العادلة من خلال الممارسة العملية للمحاكم الجزائية المتخصصة في اليمن، والنظام القانوني لهذه المحاكم خارج قرارات إنشائها.
ويأتي صدور هذه الدراسة بعد ست سنوات من البحث والتقصي وفحص لعشرات من ملفات القضايا التي نظرتها المحاكم الجزائية المتخصصة والتي جمعها أعضاء الفريق من خلال المتابعة المباشرة للقضايا والحضور إلى قاعة المحكمة.
في وقائع مختلفة خضع الكثير من المتهمين، قبل انتقال قضاياهم للمحكمة، لانتهاكات جسيمة، بما في ذلك التعذيب وغيره من صنوف سوء المعاملة. وغالبًا ما تكون بغرض انتزاع "اعترافات" منهم يتم استخدامها لاحقًا كأدلة إدانة ضدهم.
وتركز الدراسة على احترام الضمانات القانونية لحقوق الإنسان، والإجراءات التي يتخذها القضاء والتي تكفل ضمان التزام السلطة التنفيذية وأجهزتها بتنفيذ أحكام وقرارات المحاكم ومحاسبة كل من يمتنع أو يُعطل تنفيذها أو يتدخل بأي شكل في شؤون القضاء والعدالة.
مشروعية المحاكم الجزائية
في عام 1999 تم إنشاء أول محكمة جزائية متخصصة بقرار جمهوري من الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، وذلك بهدف مواجهة جرائم الاختطاف والتقطُّع التي انتشرت في تلك الفترة، بالإضافة إلى رغبة الحكومة آنذاك في إثبات جديتها وشراكتها الدولية في مكافحة الإرهاب.
كانت هذه المحاكم مختصة بالقضايا التي ترتبط بالإرهاب والحرابة واستهداف أنابيب النفط وتخريب المنشآت الحكومية، ولكنه في عام 2004 صدر قرار جمهوري آخر بإجراء تعديل في اختصاصات هذه المحاكم وذلك بإضافة (الجرائم الماسة بأمن الدولة والجرائم بالغة الخطورة الاجتماعية والاقتصادية) والذي جعل هذه المحاكم فيما بعد أداة بيد الحكومة تستهدف بها خصومها السياسيين.
ومنذ ذلك الحين دأبت السلطات المختلفة، في اليمن، على محاكمة مناوئيها السياسيين، والصحفيين، وأصحاب الرأي، واتباع الأقليات الدينية، أمام المحكمة الجزائية المتخصصة بدلًا عن المحاكم الجنائية العادية، وذلك بغرض إخضاعهم والتنكيل بهم في أغلب الشواهد.
يقول المحامي عبد المجيد صبرة: "إنه حتى مع التسليم بأن المحاكم الجزائية المتخصصة قد أُنشئت بغرض مواجهة جرائم الاختطاف والتقطع والإرهاب إلا أن هذه المحاكم قد خرجت عن أهداف إنشائها وتحولت إلى محاكم سياسية، وعلى ذلك فهي الآن محاكم استثنائية لأن الصبغة السياسية تغلب على أدائها".
وخلصت الدراسة إلى أنه في فترة الصراع المسلح منذ آذار/ مارس 2015، لم يختلف الأمر عمّا كانت عليه المحاكم الجزائية المتخصصة من قبل، فقد أصبحت الأداة التي تُقنن للأطراف المتصارعة استهداف المعارضين والخصوم السياسيين والصحفيين في المناطق التي تسيطر عليها، إلا أنه في ديسمبر/كانون الأول 2017 عززت جماعة أنصار الله (الحوثيون) سيطرتهم على السلطة القضائية عقب اغتيال حليفهم الرئيس السابق علي عبد الله صالح، وأعادوا تفعيل المحكمة الجزائية المتخصصة في صنعاء. فمنذ ذلك الحين أصدرت هذه المحكمة أكثر من 200 حكم بالإعدام بحق معارضين وصحفيين، بتهم غير موثقة يرتبط معظمها بالتجسس والتعاون مع أطراف خارجية بحسب تقرير لمنظمة العفو الدولية.
من جهته يرى الباحث والمحامي عبد الرحمن الزبيب في حديثة لـ"خيوط"، أن استمرار عمل المحاكم الجزائية المتخصصة يعتبر اعتداء على القواعد القانونية الناظمة لاختصاص المحاكم والقضاء، و يُخل بثقة المجتمع فيه، ويفاقم من معاناة المجتمع من الإجراءات الاستثنائية المخالفة للدستور والقانون التي تقوم بها هذه المحاكم.
ويقول: "بالإمكان تصحيح هذه المخالفة الدستورية بإصدار قرار إلغاء للمحاكم الاستثنائية (المحاكم الجزائية المتخصصة) وإعادة الوضع إلى طبيعته بما يتوافق مع الدستور، وإعادة توزيع القضايا المنظورة لديها على المحاكم العادية وفقًا لما نظمته قواعد الاختصاص المكاني وفقًا للقانون كون استمرار هذه المخالفة الدستورية جريمة خطيرة وتجاوزًا للدستور".
انتهاكات وحرمان من الحقوق
ورصدت الدراسة عشرات الانتهاكات التي تقوم بها المحاكم الجزائية المتخصصة بحق المتهمين في المحاكم التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) والحكومة المعترف بها دوليًا، وتبدأ هذه الانتهاكات منذ الاعتقال أو الاحتجاز وهذه هي الفترة الزمنية التي تمضي بين القبض على المتهم، وبين إحالته إلى النيابة الجزائية المتخصصة (وهي المرحلة التي يحدث فيها انتهاك الكثير من الحقوق والضمانات القانونية وفي مقدمتها الحق في الحرية الشخصية والحق في افتراض البراءة) وتتجاوز المُدة التي يحددها القانون.
وخلصت الدراسة إلى أن المدة التي يُحتجز فيها المتهم لدى الجهات الأمنية قد وصلت في معظم الحالات إلى أكثر من سنتين، خاصةً أن تلك الجهات كانت غالبًا ما تنكر وجود المتهم لديها.
وفي وقائع مختلفة خضع الكثير من المتهمين، قبل انتقال قضاياهم للمحكمة، إلى انتهاكات جسيمة بما في ذلك التعذيب وغيره من صنوف سوء المعاملة. وغالبًا ما تكون بغرض انتزاع "اعترافات" منهم يتم استخدامها لاحقًا كأدلة إدانة ضدهم، وعندما أثيرت مثل هذه الانتهاكات أمام بعض النيابات والمحاكم الجزائية المتخصصة لم تلتفت إليها، ولم تحقق فيها، وهذا ما ترك المجال مفتوحًا أمام تلك الجهات في الاستمرار في انتهاك حقوق المُتهم التي كفلها له القانون.
خلصت الدراسة إلى أن الحل الوحيد لإرساء العدالة في اليمن بما يتوافق مع القانون الدولي والقانون الإنساني يتمثل باستقلال القضاء، وكشفت أن أغلب الأسباب المتعلقة بعدم احترام ضمانات المحاكمة العادلة أمام المحاكم والنيابات الجزائية المتخصصة ترجع إلى سبب رئيسي واحد وهو عدم احترام مبدأ استقلال القضاء.
ليس الاحتجاز خارج إطار القانون إلا واحد من الانتهاكات التي يواجهها المتهم، فهناك الكثير من الحالات التي شملتها الدراسة، والتي تابعت "مواطنة" ملفاتها في النيابات المتخصصة، وأغلبها كان يتم فيها مصادرة الحقوق الدستورية للمتهمين بدءًا من عدم إبلاغ المُتهم بالتهم المنسوبة إليه فور القبض عليه، مرورًا بحرمانه من حقوق الدفاع بشكل كامل كالتواصل مع أسرته والاستعانة بمحام في مرحلتي الاستدلالات والتحقيقات سواء أمام الجهات الأمنية أو أمام النيابة الجزائية، بالإضافة إلى أن النيابات والمحاكم الجزائية المُتخصصة كانت في أغلب الحالات تعتمد في أحكامها على محاضر جمع الاستدلالات التي كانت تنحصر تلك الأدلة غالبًا في اعترافات المُتهمين أمام الجهات الأمنية، دون الالتفات إلى دفوع المتهمين بإنكار كل ما نُسب إليهم من اعترافات، وأنهم أدلوا بالمعلومات الواردة في المحاضر تحت الضغط والتعذيب النفسي والجسدي.
بالإضافة إلى الانتهاكات السابقة فقد كانت أغلب المحاكم الجزائية المتخصصة تخالف القانون والدستور الذي ينص على حق المحكوم عليهم بالطعن في الأحكام وعلانية جلسات المحاكمة، والتي لم يستطع فريق الدعم القانوني لمواطنة حضور عدد منها بسبب الإجراءات الأمنية المُشددة المُصاحبة لعملية مثول المتهم أو المتهمين أمام المحاكم الجزائية المتخصصة.
استقلال القضاء
بالرغم أن النصوص الدستورية والقانونية قد نصت صراحة على استقلال القضاء كسلطة بجميع جوانبها، إلا أن القضاء اليمني كسلطة لم ينل شيئًا من الاستقلال الفعلي على الواقع الملموس، حيث كان رئيس الجمهورية في ظل قانون السلطة القضائية رقم 1 لسنة 1991م هو من يتولى رئاسة السلطة القضائية المتمثلة برئاسة مجلس القضاء الأعلى وفقًا لنص المادة (104). حتى بعد التعديلات التي طرأت على قانون السلطة القضائية في عام 2006 والتي تخلى فيه رئيس الجمهورية عن رئاسة مجلس القضاء، فلا زالت السلطة القضائية في اليمن متداخلة مع السلطة التنفيذية، حيث أن وزير العدل هو من يشكل مجلس القضاء الأعلى، وهذا يدل على أن القضاء في اليمن ليس مستقلًّا بالمعني الحقيقي.
وخلصت الدراسة إلى أن الحل الوحيد لإرساء العدالة في اليمن بما يتوافق مع القانون الدولي والقانون الإنساني يتمثل باستقلال القضاء، وكشفت أن أغلب الأسباب المتعلقة بعدم احترام ضمانات المحاكمة العادلة أمام المحاكم والنيابات الجزائية المتخصصة ترجع إلى سبب رئيسي واحد وهو عدم احترام مبدأ استقلال القضاء، بما يتضمنه ذلك من عدم احترام لسيادة القانون في الواقع العملي، وبالتالي وقوع القضاء، كمؤسسة وكأفراد، تحت نفوذ وتأثير السلطة التنفيذية. ومحاولة هذه الأخيرة لاستخدام القضاء والقُضاة كأداة لفرض سياساتها ومعاقبة خصومها قد انعكس على أداء المحاكم الجزائية المتخصصة، سواء في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دوليًا أو في المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيون)، حيث تم انتهاك الحق في المحاكمة العادلة، بنسب وصور مختلفة.
ويرى باحثون أن عدم استقلال القضاء كسلطة مستقلة تمامًا عن السلطات الأخرى قد جعله أداة سياسية في يد الحكومات السابقة، وأداة قمع وتنكيل في يد أطراف الصراع في الوقت الحالي، وهذا ما أشار إليه تقرير الخبراء الدوليين البارزين التابع للأمم المتحدة (سبتمبر/ أيلول 2020)، فقد رصد الفريق زيادة مطردة في اعتماد الأطراف المتصارعة في اليمن على القضاء، ممثلا بالمحاكم الجزائية المتخصصة، كأداة في الصراع السياسي، وهو الأمر الذي أوجزه التقرير تحت عنوان "الانتهاكات المتعلقة بإدارة العدالة".
وخلص فريق الخبراء إلى أن: "الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان، تحدث في إطار إدارة العدالة في اليمن، وإن المحاكم الجزائية المتخصصة خاصةً في المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيون) تُستخدم كأداة لقمع المعارضة وترهيب المعارضين السياسيين ولتنمية رأس المال السياسي لاستخدامه في المفاوضات".
وتستمر هذه الانتهاكات والتجاوزات بحق المدنيين من قِبل المحاكم الاستثنائية "المحاكم الجزائية المتخصصة" طالما يشعر أطراف الصراع في اليمن، أنهم بمنأى عن المُحاسبة وأنهم سيفلتون من العقاب، وفي هذه الحالة لابد من تشكيل آلية تحقيق جنائية دولية لليمن لوقف هذه الانتهاكات.