(1)
ظاهرة الاغتيال السياسي ظاهرة تاريخية قديمة تضرب بجذورها عميقًا في تاريخ البشرية، نشأت وتطورت ارتباطًا بنشوء السلطة السياسية وتطور ممارساتها القمعية.
يأتي الجذر اللغوي للاغتيال من: غاله، غوله، واغتاله: أي أخذه من حيث لا يدري فأهلكه.
والغُول: (الجمع غِيلان)، والغِيلان في المخيال الشعبي عند العرب هي الشياطين التي تظهر للناس في الفلاة، فتتلون لهم في صور شتى وتغولهم؛ أي تضللهم وتُهلكهم.
والغيلة: الاغتيال. يقال قتله غيلةً: على غفلةٍ منه.[1]
وفي الاصطلاح السياسي يعني الاغتيال (Political Assassination) ظاهرة استخدام العنف والتصفية الجسدية بحق شخصيات سياسية كأسلوب من أساليب العمل والصراع السياسي ضد الخصوم، بهدف خدمة اتجاه أو غرض سياسي.[2]
والاغتيالات السياسية ظاهرة وجريمة في آن، فهي ظاهرة اجتماعية تاريخية بحكم تكرار حدوثها وانتشارها زمانيًّا ومكانيًّا، فضلًا عن تعدد واختلاف أسبابها ودوافعها. ومن ناحية التوصيف القانوني هي جريمة وضرب من ضروب القتل العمدي، محرمة دينيًّا، ومجرّمة قانونًا، ومرذولة اجتماعيًّا.
إن جريمة الاغتيال السياسي ليست جريمة عادية، بل جريمة مركبة ومعقدة، وهناك فروقات بيّنة بينها وبين جريمة القتل العادي؛ فمن ناحية أولى: عملية القتل العادي جريمة فردية جنائية، يقوم بها فرد أو مجموعة بسيطة من الأفراد بدافع الثأر أو الانتقام الشخصي أو بدوافع أخرى. بينما عملية الاغتيال السياسي جريمة منظمة ومركبة، ودوافعها سياسية في الغالب، وتتم بتخطيط وتدبير معقدين، وتقوم بها جهة منظمة، تمتلك إمكانيات وقدرات مخابراتية وأمنية وعسكرية كبيرة، وما القاتل إلا أداة تنفيذية وحسب.
ومن ناحية ثانية: جريمة القتل الجنائي تستهدف إنسانًا عاديًّا، وتنحصر تداعياتها في إطار ضيق؛ على مستوى الأسرة، أو العشيرة، أو القرية، أو الحي السكني، فيما جريمة الاغتيال السياسي تستهدف أشخاصًا مؤثرين في مجتمعاتهم مثل: زعماء سياسيين، قادة عسكريين، مفكرين، أدباء، مثقفين، صحفيين، ناشطين... إلخ، وتداعياتها وتأثيراتها تمتد إلى المجتمع بأسره.
ومن ناحية ثالثة: تأخذ عملية القتل الجنائي شكلًا واحدًا وتتم في اتجاه واحد. وبخلاف ذلك، تأخذ عملية الاغتيال السياسي ثلاثة أشكال: الاغتيال المعنوي، والاغتيال المادي، والاغتيال "القانوني" - إن جاز التعبير- والشكل الأول يقود بالضرورة إلى الشكل الثاني ومنه إلى الشكل الثالث. فالاغتيال المعنوي يهدف إلى تحطيم رمزية ومكانة الضحية، بالتحريض والتشهير والتشويه، وصولًا إلى إصدار فتوى تكفيرية تجيز استحلال دمه، وهنا تتجسد الجريمة كفعل مادي بتصفية الضحية جسديًّا، وبعد أن تنفذ الجريمة بنجاح، يأتي دور التغطية على المجرمين والمخططين والممولين من خلال أحابيل القانون والإجراءات الشكلية الهادفة إلى دفن القضية وتقييدها ضد مجهول أو مختل عقلي!
(2)
تنطوي جريمة الاغتيال السياسي على دلالات شتى، فهي أولًا نقيض للسياسة، فالسياسة لا تكون إلا مدنية، وتقتضي بالضرورة الحوار واعتماد منطق الإقناع والقبول بالآخر.
إن السياسة هي فعل اجتماعي تاريخي تتأسس على فكرة اتفاق الناس على شكل الحكم الذي يناسبهم من خلال عقد اجتماعي أو دستور وطني، وتتوخى الخير العام، أي أنها فعل تغييري باتجاه الأفضل والجديد والأجد.
وفي المقابل، فإن الاغتيال السياسي فعل وحشي نقيض للسياسة، وللخير العام، وللتغيير، وللمستقبل.
بعبارة أخرى: الاغتيال السياسي هو اغتيال للسياسة، وفتح نافورة الدم وسلوك مسالك العنف والتوحش.
إن لحظة الاغتيال هي لحظة قطيعة وبتر، لحظة اللاعودة، لحظة الانغماس في مستنقع الجريمة والتوحش، لحظة تمثل ذروة العنف والإرهاب.
وثانيًا: تتصادم جريمة الاغتيال السياسي مع منطق التاريخ، الذي يقرر أن التطور يتم وفق مسار موضوعي وبإرادة جماعية نزاعة للخير الإنساني. فتأتي جريمة الاغتيال لإعاقة هذا المسار الموضوعي، وتحاول تطويع حركة التاريخ لمسار إرادوي أناني فاشي.
الجهة التي تلجأ إلى الاغتيال السياسي تريد أن تكرس في الوعي العام أن مسار التاريخ ينحكم لقوة خفية شريرة، تعمل في الظلام وتهدف إلى تحقيق أهداف خفية غير معلنة بنزعة إرادوية أنانية. بينما الواقع والعلم يقرران أن التاريخ يتحرك وفق قوانين موضوعية عيانية ومشاهدة وبإرادة جماعية خيِّرة.
وثالثًا: جريمة الاغتيال السياسي هي بالضرورة مضادة للطبيعة الإنسانية الخيِّرة، ومتسقة مع الطبيعة العدوانية التي هي من طبائع الحيوان المفترس.
الإنسان كائن مدني بالطبع كما يقول ابن خلدون، لا يصح وجوده، ولا تستقيم أحواله إلا بالعيش مع غيره من بني جنسه. إن اجتماعية الإنسان هذه تفرضها ضرورة التعاون من أجل تحصيل الغذاء الذي به قوام وجوده؛ والتعاون يقتضي التسليم بضرورة التعايش والإقرار بحق الآخر في الوجود.
أما الحيوان فهو يتحرك وفق طبيعة غرائزية، ولهذا فالافتراس أو العدوان صفة أصيلة فيه، وغاية العدوان عند الحيوان هي الحصول على الغذاء وتأمين شروط البقاء، أي أن عدوانية الحيوان عدوانية مبررة لا تتصادم مع طبيعته الخاصة.
أما عدوانية البشر فغير مبررة على الإطلاق. إنها نزوع "سيكوباتي"، أي انحراف عن السلوك القويم، لا يهدف إلى تأمين شروط البقاء، بل تدفعه الرغبة الجامحة في السيطرة والانفراد والتسلط وإلغاء الآخر واجتثاثه.
(3)
جريمة الاغتيال السياسي هي نتيجة منطقية طبيعية لفكر متطرف، لأيديولوجيا دوغمائية تنضح بالكراهية والحقد والإقصاء. دوغما توحد بين الذات والعالم، فلا ترى العالم إلا من منظورها الخاص، وموقفها من الآخر موقف ارتيابي فكل آخر في هذا العالم هو عدو محتمل، أو وفق عبارة جان بول سارتر "لا تتصور الآخر المنافس لها إلا بما هو جحيم".
جريمة الاغتيال السياسي هي صورة من صور الارهاب؛ وهي الابنة الشرعية لسياسة الاجتثاث والاستئصال، ومنتج من منتجات ثقافة الكراهية والاستعداء والتعصب
ودعونا نفرّق بين مصطلح الأيديولوجيا ومصطلح الدوغما، فليست كل أيديولوجيا هي دوغما بالضرورة، كما يفهم الكثيرون.
فالأيديولوجيا في معناها ومبناها منظومة أو نسق من الأفكار والتصورات الفلسفية والأخلاقية والسياسية والدينية عن الوجود، وهي انعكاس لتكوين اقتصادي واجتماعي محدد. وتتمرأى الأيديولوجيا بصورتين اثنتين: وعي صادق ووعي مفارق، فالوعي الصادق هو وعي مطابق للواقع الموضوعي. والأيديولوجيا في هذه الحالة تكون أيديولوجيا علمية تغييرية مستقبلية. أما الوعي المفارق فهو وعي زائف، وعي مضاد للواقع ومجافٍ لطبائع الأمور، وبهذا تتسم الأيديولوجيا بالطابع المحافظ والرجعي.
والدوغما هي صورة فاقعة للأيديولوجيا الرجعية، قوامها نهج فكري متزمت ومنغلق على الذات، يقيم علاقة خصومة شديدة للنقاش والحوار والجدل والاختلاف. يدّعي بامتلاك الحقيقة المطلقة، ويزعم أنه على المحجة البيضاء، وكل ما عداه هرطقة وضلال وخيانة وكفر بواح!!
هذه اليقينية الوثوقية التي توحد بين الذات والعالم، هي الجذر الفلسفي والفكري للتعصب، ومدخل لكل فعل إرهابي.
جريمة الاغتيال السياسي هي صورة من صور الارهاب؛ لأنها تستهدف أول حق طبيعي للإنسان المتمثل بحق الحياة، وتصفيته وإلغائه من الوجود، وتقوم على الغدر والخيانة. وهي الابنة الشرعية لسياسة الاجتثاث والاستئصال، ومنتج من منتجات ثقافة الكراهية والاستعداء والتعصب، ودافعها تصفية الآخر المختلف بناءً على الرأي أو الانتماء، وفرض الرأي الواحد واللون الواحد والصيغة الأحادية.
وجريمة الاغتيال السياسي هي علامة انحطاط وإفلاس للجهة التي تلجأ إليها؛ لأنها تفضح عجزها على مقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي والفكرة بالفكرة، لذا تستدعي الجريمة لتصفية منافسيها.
تتوهم الجهة التي تلجأ إلى الاغتيال السياسي أن بجريمتها ستتمكن من إخراس الصوت الحر، وإيقاف عجلة التغيير، ولكن التغيير له قوة كامنة لا يمكن تعطيلها أو إيقافها.
(4)
ظاهرة الاغتيال السياسي ظاهرة عالمية الطابع، أي أنها منتشرة في كافة المجتمعات، بيد أنها تختلف من حيث الدرجة والنوع من مجتمع إلى آخر، كما تختلف أيضًا ردات الفعل إزاءها من بلد إلى آخر. فجريمة اغتيال واحدة يمكن أن تطيح بحكومات وأنظمة في بعض البلدان المتقدمة، لكن في عالمنا الثالث تمر هذه الجرائم ويفلت الجناة والمخططون، لا بل ربما يحظى هؤلاء الجناة بحماية وغطاء من قبل النظام السياسي وأجهزته الأمنية والقضائية، وفي هذه الحالة تصبح جريمة الاغتيال السياسي جريمة رسمية، أو إرهاب دولة.
ظاهرة الاغتيالات السياسية في اليمن معقدة يتداخل فيها العامل السياسي بالديني بالإيديولوجي بالاجتماعي بالثقافي... إلخ، وهي ظاهرة شائكة؛ نظرًا لتعدد الجهات والقوى التي مارست هذه الجريمة بين أجهزة استخباراتية وقوى دينية وحركات سياسية وأجنحة متصارعة ذات اليمين وذات اليسار.
على الرغم من الاختلاف في الدوافع والأساليب والأدوات والجهات، إلا أن القاسم المشترك الأعظم بين معظم جرائم الاغتيال في اليمن أنها كانت تمر مرور الكرام، ويتم دفن الحقيقة بالتغطية على مخططيها ومنفذيها، وبالتالي إفلاتهم من العدالة
كما تعددت الأساليب والأدوات المستخدمة في تنفيذ هذه الجريمة في تاريخنا السياسي المعاصر، فهناك اغتيال بالرصاص الحي (مثل: اغتيال محمد محمود الزبيري في أبريل/ نيسان 1965، واغتيال محمد أحمد النعمان في يونيو/ حزيران 1974، واغتيال إبراهيم الحمدي وشقيقه في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، واغتيال حسن الحريبي وماجد مرشد وما يزيد عن 150 قيادي من قيادات الحزب الاشتراكي خلال أعوام 1991- 1994، وصولًا إلى اغتيال جار الله عمر الأمين العام المساعد للحزب الاشتراكي اليمني في 28 ديسمبر/ كانون الأول 2002، واغتيال عبدالرقيب القرشي في يوليو/ تموز 2010، وعبدالكريم جدبان، وعبدالكريم الخيواني، وأحمد شرف الدين، وصادق منصور عام 2014، واغتيال د. محمد عبدالملك المتوكل في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014، والشاب أمجد عبدالرحمن الذي اغتيل في مايو/ أيار 2017، واغتيال عمر دوكم ورفيق الأكحلي في أبريل/ نيسان 2018، وعشرات من الدعاة المستنيرين والناشطين في عدن بين عامي 2017- 2018، وانتهاءً باغتيال العميد عدنان الحمادي في ديسمبر/ كانون الأول 2019)، وهناك الاغتيال بالسم، (كاغتيال المناضل الوطني عبدالقادر سعيد في مايو/ أيار 1974، والصحفي عبدالحبيب سالم مقبل في أكتوبر/ تشرين الأول 1995، واغتيال الصحفي محمد عبده العبسي في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017)، وهناك اغتيال بالدهس والحوادث المرورية، (أبرز أمثلته: اغتيال عبده محمد المخلافي، واغتيال د.عبدالعزيز السقاف عام 1999)، وهناك اغتيال عبر الطائرات المفخخة (مثل: تفجير طائرة الدبلوماسيين في 30 أبريل/ نيسان 1973، الذي راح ضحيته العشرات من القيادات والكوادر الوطنية أبرزهم: الأديب اليمني محمد أحمد عبدالولي رائد القصة والرواية اليمنية، وتفجير الطائرة العسكرية عام 1999، وذهب ضحيته عدد من القادة العسكريين أبرزهم: العميد محمد إسماعيل والعميد أحمد فرج)، وهناك أيضًا اغتيال من خلال الرمي من شاهق (كاغتيال الصحفي عبدالله سعد عام 1999)، وهناك أساليب أخرى جرت في صورة الإعدامات والمحاكمات الصورية التي راح ضحيتها خيرة الوطنيين الأفذاذ (من عبدالرقيب عبدالوهاب ومحمد مهيوب والوحش، إلى فيصل عبداللطيف الشعبي إلى سالمين وعبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر وعلي شائع إلى عيسى محمد سيف وعبدالسلام مقبل... إلخ)، وغيرها من الأساليب التي أدارتها وخططت لها أجهزة أمنية واستخباراتية محلية ودولية وأطراف نافذة ونفذتها عناصر أمنية أو متطرفة. وعلى الرغم من هذا الاختلاف في الدوافع والأساليب والأدوات والجهات، إلا أن القاسم المشترك الأعظم بين معظم هذه الجرائم أنها كانت تمر مرور الكرام، ويتم دفن الحقيقة بالتغطية على مخططيها ومنفذيها، وبالتالي إفلاتهم من العدالة.
(5)
تاريخنا البعيد والقريب تاريخ صراع دامي، وإذا كان الصراع سمة الوجود ويشمل كل الظواهر وكل المجتمعات الإنسانية، فإن ما يُعاب عليه أن صراعاتنا لا تُدار أو تُحسم بطرق سلمية حضارية، بل بأدوات عنفية، حيث تتخلق معادلة المنتصر والمهزوم، يصبح المنتصر مهزومًا والمهزوم منتصرًا، وهكذا نستمر في الدوران في حلقة مفرغة؛ ذلك لأن بنية العنف بنية راسخة في مجتمعاتنا، تجد تمظهراتها في مختلف مناحي الحياة، في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والثقافة والفن والتعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية، وحتى في اللغة والخطاب الديني والسياسي والإعلامي وفي مختلف مناشط الحياة اليومية.
عنف شامل ومتجذر، يأخذ شكلًا عنقوديًّا، يبدأ من السلطة وينتهي إلى العلاقات الاجتماعية والأسرية. فالسلطة تمارس عنفها ضد المجتمع من خلال أجهزتها السلطوية والأيديولوجية ومن خلال احتكارها للثروة وللقرار.
إيقاف مسلسل الاغتيالات يقتضي مواجهة التطرف والعنف والإرهاب وثقافة الكراهية وسياسة الإقصاء والإبعاد والتهميش، مواجهة شاملة من خلال بناء رؤية وطنية توافقية
وتمارس النخب عنفها ضد الجماهير، والقبيلي يمارس عنفه ضد المهمش، والرجل يمارس عنفه ضد المرأة، والأم تمارس عنفها ضد الطفل، والكبير يمارس عنفه ضد الصغير، والصغير يمارس عنفه ضد الحيوان والكائنات غير الحية... إلخ.
والعنف متجذر أيضًا في عاداتنا وتقاليدنا، حتى في أزيائنا وملابسنا وطريقة تناولنا للطعام، فالسلاح الأبيض "الجنبية"، ورقصة البرع التي هي رقصة الحرب -على سبيل المثال- إنما هما صورتان من صور العنف الراسخ في مجتمعنا وثقافتنا.
يرى يورغن هابرماس أن العنف مرض من أمراض التخاطب والتواصل البشري؛ فالعنف هو نتيجة للخطاب المشوَّه السائد بين المتطرفين وغيرهم؛ خطاب مشوَّه لأنه لا يعترف بالآخر كما هو.
إنه خطاب إقصائي، إلغائي يستحل دماء المخالفين. والخطاب بما هو سلطة رمزية يؤدي دورًا سياسيًّا وظيفيًّا، فهو أحد الأدوات التي تمارس فيه القوة المسيطرة هوسها في التصفية والقهر والإقصاء. ويعتبر ميشيل فوكو أن الخطاب هو مسرح ملائم للسلطة تنمي من خلاله هيمنتها وتعزز سطوتها في إطار جملة من الآليات القائمة على الضبط والتحكم والمنع.
الخطاب الإقصائي، إذن، هو إرهاب فكري يترتب عليه سلوك عدواني، وخطابنا السياسي والإعلامي والديني خطاب عنف، يخاطب الغرائز أكثر مما يخاطب العقول، ويستثير النوازع البدائية في الفرد أكثر مما يحرضه على التفكير والنقاش، إنه خطاب يقوم على الشحن والضخ ويتوسل العداء ويساهم في إشاعة الكراهية.
ولا سبيل أمام هكذا بنية عنفية غير تفكيكها كأساس موضوعي لبناء سلام عادل ومستديم ومجتمع متعايش.
(6)
الاغتيال السياسي في اليمن مسلسل دامٍ، استنزف ويستنزف الحركة الوطنية بشتى تياراتها السياسية وتوجهاتها الفكرية، وأغرق البلد في بركة من الدماء المسفوحة، وآن لهذا المسلسل الدامي أن يتوقف، ولن يتوقف ما لم يكن لنا صوت كشعب وكقوى سياسية ومدنية وناشطين، صوت مناهض لهذه الجريمة.
إن إيقاف مسلسل الاغتيالات يقتضي مواجهة التطرف والعنف والإرهاب وثقافة الكراهية وسياسة الإقصاء والإبعاد والتهميش، مواجهة شاملة من خلال بناء رؤية وطنية توافقية، تنبثق عنها سياسات وإجراءات اقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية وثقافية وإعلامية، وبمشاركة مختلف الأطراف المعنية.
رؤية تقوم على مبدأ أساس وحاكم وهو الإقرار بحق الاختلاف، باعتبار الاختلاف جذر الحرية (أبوبكر السقاف)، وهو حياة في الزمن (مهدي عامل).
قبل ما يقرب من ثلاثة قرون، قال فيلسوف التنوير فولتير مقولته الخالدة: "قد أختلف معك في الرأي، نعم، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا مقابل حقك في التعبير عن رأيك".
إذن الاختلاف يقتضي التعدد والتنوع، والتعامل مع الآخر ككيان له هويته المستقلة، لا كما نريده نحن أن يكون. هذه هي نقطة البدء في مواجهة التطرف والإرهاب والاغتيال السياسي.
على أن المسألة بحاجة إلى إجراءات أخرى، مثل:
هوامش:
1- انظر: المعجم الوجيز، ط/2004: ص457.
2- د.عبدالوهاب الكيالي وآخرون، الموسوعة السياسية، ج1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت - لبنان، ص217
(*) ورقة عمل قدمت لندوة سياسية نظمها القطاع الطلابي للحزب الاشتراكي اليمني ــ مدينة تعز، بتاريخ 1 فبراير/ شباط 2020م.