ما تؤكّده النتائج الكارثية للحرب في اليمن، أنّ أهدافها الحقيقية هي فرض التفتيت في اليمن، وفق تصور مشوه، لفاعلين إقليميين ودوليين نافذين، يرون في وجود الجمهورية اليمنية، بمضامينها الجغرافية والسكانية والديموغرافية والسياسية والاجتماعية، تهديدًا وجوديًّا لمصالحهم المتعددة.
ولذلك استثمر هؤلاء الفاعلين على مدى ثماني سنوات في زراعة ورعاية وتعميق جملة من التشوهات لتقويض وحل كيان الجمهورية اليمنية وتأهيل الوضع ليكون جاهزًا لإعادة بناء دويلات، ما دون وطنية، صُمّمت بعناية في ظلّ عوامل مُخلقة، وظيفتها بدرجة رئيسة تتمثل في ضمان بقاء تلك الكنتونات القائمة على حدود التشوهات المُلقحة لأطول فترة ممكنة.
وعلى مدى سنوات الحرب عمل الفاعلون على مسارات متعددة من أجل خلق أطراف محلية، يقف على رأسها أمراء منتفخون بألقاب وتوصيفات بالغة الابتذال، حُقنوا بالجاهزية والحماسة العمياء، ومُكّنوا من الموارد اللازمة لإنجاز تلك المهمة الآثمة بصورة دقيقة، ذهبوا باليمن إلى حالة من الانكشاف، جعلت منها مجرد معامل مختبرات حية لعمليات تلقيح ورعاية أطراف الأنابيب، الخاضعة لعمليات الشفط والنفخ، وعمليات النقل والتدوير، وعمليات تبادل الأدوار، وعمليات الإزاحة المؤقتة والنهائية، ولعمليات التقدم والانسحاب، ولعمليات ضبط المقاسات والحدود واللافتات الملائمة للأدوار الوظيفية المرسومة.
وتتأسس تلك الجهود على تقويض كل المكتسبات القيمة التي راكمتها اليمن في طريق الكفاح من أجل الدولة الحديثة، الجمهورية، الديمقراطية، حرية التعبير، دولة القانون، التعددية السياسية، وتوليد نقائضها، كأقليات تعتريها تشوهات تكوينية، تأسس وجودها على العنف غير المشروع المسنود بدعم ورعاية متعددة الأشكال من فاعلين إقليميين ودوليين، شكّلوها بصورة تجعلها مُسخَّرة لأدوار وظيفية مرسومة لخدمة مصالح الرعاة، المناقضة بالضرورة لمصالح عموم اليمنيات واليمنيين.
ومن المضامين التي ركّزت تكتيكات التقويض على إعطابها، تلك البُنى الوطنية العابرة، كالأحزاب السياسية على سبيل المثال، والتي حُلت فعليًّا، لتُخصَّب بدلًا عنها تشكيلات ميليشياوية جهوية ومناطقية ومذهبية وأيديولوجية ما دون وطنية، بالإضافة إلى تكتيكات تفتيت البُنى الاقتصادية، ومنظومة الاتصالات الوطنية، وتقطيع أوصال الطرقات الداخلية، وتمزيق بُنى السلطة القضائية والتعليم والخدمات والمؤسسات والنقابات وغيرها من البُنى.
وعمدت كافة التشكيلات الوظيفية إلى فرض تغيير ديموغرافي قسري، تتضاعف، كل يوم، كُلفته الإنسانية الهائلة على ملايين الناس، وهي أفدح من آلاف الانتهاكات المروعة المباشرة بحق المدنيين.
وبالتدقيق في حالة كافة التشكيلات على امتداد خارطة الجمهورية اليمنية، يمكن بيُسر ضبطها في حالة تلبس بالمشتركات المتعددة التي تجمعها، ابتداء بعوامل التخصيب والعناية المُركزة من رعاتها الإقليميين والدوليين، المتربصين بتركة البلد المُستباح دون حُراس لكيانه ومصالحه وشخصيته الاعتبارية ومصالحه الاستراتيجية، ويتمثل أبرز تلك المشتركات في أنّ أساس وجود كافة تلك التشكيلات هو السلاح وأدوات الإرهاب والإكراه، المستخدمة بإفراط ورعونة لفرض واقع متوهم لدويلات جماعات العنف وُرعاتها الإقليميين والدوليين، ونحت حدودها بالدم والنار، مُراهنين جميعًا على عامل الوقت لترسيخ تلك الحدود والتشوهات والتشكيلات المُصطنعة، في إطار مساعٍ آثمة لتطبيعها والتعامل معها كأمر واقع يفرض نفسه على مستقبل اليمنيات واليمنيين.
خلال السنوات الماضية من عمر الحرب، ولتحقيق تلك الغاية، انحصر تركيز كافة الجهود الدولية على نهج إدارة الأزمة، بالتوازي مع تدابير الترويض والتشكيل والتطبيع والتقعيد والتطييف، وهي جهود في الأغلب الأعم منها، قدّمت، عمدًا، فرصًا إضافية ثمينة، لمقامرات المحتربين، ومغامراتهم، وعززت تلك الفرص، حين تشبثها بمقاربة الأزمة من منظور التشكيلات الآثمة والغاشمة الطارئة على المشهد، دون أي اعتبار للقواعد والمعايير والمبادئ والمحددات المُثلى المُراكمة لحل الأزمات، بالتزام نهج عمل يعتمد مقاربات مُراعية ومستوعبة لتطلعات ومصالح ملايين اليمنيات واليمنيين في مختلف مناطق اليمن الكبير والمتنوع.
النظام الدولي القائم، هو الراعي الأول للفظاعات التي تطال الكثير من المجتمعات، مثل اليمن وسوريا وإثيوبيا والسودان وفلسطين وأفغانستان وأوكرانيا، وليس هناك حاجة لاستدعاء نظرية المؤامرة لتتبع الأدوار الآثمة لأقطابه الضالعة في مختلف المآسي المتفاقمة في أكثر من مكان حول العالم.
وليس أدل على ذلك النهج الدولي والإقليمي العابث والمخاتل، من حالة التدليل المُفرط لكافة الأطراف، ورعاتها الإقليميين والدوليين، والتي أوغلت، منفردة ومجتمعة، في ممارسات خطيرة لتقويض السلم العام، وتورطت في الآلاف من وقائع انتهاكات القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، لكنها رغم ذلك ظلت بمنأى عن أي خطوات جادة للمساءلة، تنعم في ظِلال نظام دولي يُكرس سياسة الإفلات من العقاب عن الجرائم الأشد خطورة، ويوفر ملاذات آمنة للجُناة كأفراد وتشكيلات، وحصر أدوار الآليات الدولية لاستخدامها في تحقيق أهداف دول الهيمنة التي تواصل أدوارها الاستعمارية المخفية حقائقها اللئيمة تحت طبقات من الأقنعة الخادعة.
إنّ النظام الدولي القائم، هو الراعي الأول للفظاعات التي تطال الكثير من المجتمعات، مثل اليمن وسوريا وإثيوبيا والسودان وفلسطين وأفغانستان وأوكرانيا، وليس هناك حاجة لاستدعاء نظرية المؤامرة لتتبع الأدوار الآثمة لأقطابه الضالعة في مختلف المآسي المتفاقمة في أكثر من مكان حول العالم، ففي الوقائع والأدلة الدامغة، ما يكفي، لضبط الدول المهيمنة الأساسية، في كافة الفظاعات، كجزء أصيل من سياساتها الخارجية الفعلية، بمعزل عن الشعارات الدعائية والوعظية الفارغة.
وبالعودة لليمن، ومحددات مقاربة عناصر أزمتها وأطرافها الطارئة والمعتقة، فإنّ الفاعلين من المجتمع الدولي المتفاعلين معها، ليسوا بحاجة إلى نسبة ذكاء عالية، لإدراك أنّ أطراف الحرب ليسوا أكثر من أقليات مُدجّجة بالسلاح، لا تمثّل في حقيقة الأمر أبعد من مكوناتها، فهي لا تمثل مناطق ولا محافظات، لا تُمثل فئات اجتماعية، لا تمثل كُتلًا سكانية، لا تُمثل مكونات اجتماعية، لا تُمثل مذاهب، ولا تمثل بأيّ صورة ملايين اليمنيات واليمنيين، لا تمثل قضاياهم، أو معاناتهم، مآسيهم، تطلعاتهم، أو مصالحهم.
ومع انعدام أسس الشرعية لدى كافة تشكيلاتها، فقد أخفقت، كذلك، عن اكتساب المشروعية، ولو بالحد الأدنى، على مدى عشر سنوات من عمر الاحتراب، من خلال الممارسة العملية بتحقيق الصالح العام لعموم الناس، وبأن تكون كل تصرفاتها وقراراتها محكومة بالقانون ومحققة للمصالح العليا للمجتمع، وتبعًا لذلك، لم تتمكن من حيازة قَبول الناس الطّوعي بها كهيئات حاكمة، وليس لديها تفويضًا برعاية مصالحهم وحماية حقوقهم وحرياتهم الأساسية، وفي مقدمة تلك الحقوق: المحافظة على أمنهم وكرامتهم وإقامة العدل بينهم، كشروط أساسية، للشرعية والمشروعية، حسب الفقيه الدستوري الفرنسي، مونتسكيو، في كتابه (رُوح القوانين).
وطبقًا لتلك المحددات المنطقية، ينبغي لكل جهد لمقاربة الوضع في اليمن، أن يتعامل مع كافة تشكيلات الحرب، بحجمها الفعلي والحقيقي، ومع تصوراتها كرؤى تمثّلها حصرًا كتشكيلات، مع عدم التورط في إغفال أصحاب المصلحة، ملايين اليمنيات واليمنيين غير التابعين للتشكيلات، وتطلعهم المتمثل في دولة القانون والمواطنة والعدالة والسلام، بمعزل عن اليمن المتوهم لدى أطراف الحرب ورعاتهم، الممزق، والغارق في العصبيات، والذي يُراد فرضه وتعبيد الطريق إليه بجماجم اليمنيين ودماؤهم.
عقب زيارات ميدانية أجريتها لمناطق عديدة تحت سيطرة مختلف الأطراف، يمكنني أن أجزم بالقول، إنّ أيّ عملية مستقلة ونزيهة لقياس رأي عموم اليمنيات واليمنيين، بمأمن عن إرهاب أطراف الحرب، سيخلُص بالضرورة، إلى أنّ صنعاء ليست لونًا واحدًا، وعدن ليست لونًا واحدًا، ومأرب ليست لونًا واحدًا، وحضرموت ليست لونًا واحدًا، وتعز ليست لونًا واحدًا، وصعدة ليست لونًا واحدًا، وإنّ ما تصوره أطراف الحرب وحملاتها ودعايتها مختلف تمامًا عن اليمن الحقيقي، المتنوع، والحالم.
لقد أنضجت الحرب وآثامها، ضدًّا على إرادة مُحرّكي دفتها ومهندسيها، تصورات عموم الناس وتطلعاتهم التقدمية، والمستنيرة، بدولة المواطنة وسيادة القانون والنماء والاستقرار، متجاوزين بذلك ردة النخب والجماعات الرجعية، ولا مناص، طال الزمن أو قصر، من إدراك ملايين الناس لطرائق انتزاع حقّهم المشروع في تلك الدولة المنشودة، وخلق سُبل إنجازها، شأنهم في ذلك، شأن مجتمعات كثيرة، دُفعت إلى جحيم الاحتراب، فقاومت، حتى عبرت إلى ضفاف دولة الناس المنشودة.
وبتفحص مجريات تجارب كثيرٍ من المجتمعات التي طالتها مخططات التقويض والتفتيت لخدمة مصالح فاعلين خارجيين، ضدًّا على مصالح مجتمعاتها، فإن أهم الدروس المُستخلصة منها، يتركز في أنّ الجِنان الموعودة المربوطة بشروط بعث الهويات ما دون وطنية مُجرد رؤوس سنارات مُطعمة بالأوهام لاستدراج المجتمعات إلى فخاخ تدفعها خلف أبواب مستويات جديدة من التشرذم وعدم الاستقرار والاحتراب.
وعطفًا على ذلك، فإنّ اختبار معيارية ومبدَئِية دول الهيمنة والاستعمار النافذة، التي تهندس التفتيت والخرائب، وتعيد رسم الخرائط، يبدأ من برشلونة وأيرلندا الشمالية وكاليفورنيا والشارقة وجيزان ونجران والشرقية، حيث الأوضاع المستقرة تتيح مباشرة آليات قياس الاختيار الحُر للناس لتقرير مصيرهم واختيار أطرهم السياسية، وتكون نتائجها شفافة ونزيهة ودقيقة، أما بلداننا التي دُفعت عنوة إلى أتون أوضاع غير طبيعية، فأي مقامرة في هذا المسار الخطير محض إكراه وقسر وتزوير غير أخلاقي ولا قانونيّ ولا مشروع.