ما الذي يدفعنا لقراءة الشعر؟ ما الذي نبحث عنه عندما تمتلكنا الرغبة في قراءة الشعر؟ أهو البحث عن الجمال، الراحة، المتعة، المواساة أم هو البحث عن تلك الكلمات التي لم نستطع الإمساك بها للتعبير عمّا نحس ونشعر به أثناء لحظة زمنية معينة؟
مثل هذه الأسئلة قد لا تتبادر إلى تفكيرنا، حين نجد أنفسنا في خضم قراءة قصيدةٍ ما، سواء كانت قصيدة التفعيلة المقيدة ببحر من بحور الشعر، أم شعر حديث، حر، لا يعترف بقيود القافية، أم قصيدة النثر التي تختزل أحيانًا وتسرف أحيانًا أخرى في تدفق الكلمات والجمل التعبيرية.
أعتقد أننا حين نقرأ الشعر في لحظةٍ ما، تنتابنا الكثير من المشاعر المختلفة. لا سيما حين تلامس المعاني الواضحة أو الخفية للكلمات، شيئًا ما في أعماقنا.
من المعروف أن للشعر مع العرب علاقة قوية الجذور، حيث يكاد أن يكون الفخرَ الذي يأتي في أول القائمة، في مقام الحديث عن الإنتاج الفكري للشعوب، ولهذا جاء في التناولات أن الشعر هو ديوان العرب وملخص بيانهم التاريخي.
فما زالت قصائد امرؤ القيس وأبي الطيب المتنبي وأبي تمام وأبي العلاء المعري والكثير من الشعراء القدامى، الذين عاشوا في حقب مختلفة من تاريخ العرب القديم، تُدرَّس في المدارس والجامعات. وهناك الكثير من السباق والتنافس بين قرّاء هذه التجارب المُلهِمة فيمن هو أشعر من الآخر، ويمكن ملاحظة ذلك في كثيرٍ من البرامج التلفزيونية والندوات الشعرية المقامة دائمًا بين وقت وآخر في أنحاء متفرقة من الجغرافيا العربية.
لكن السؤال يظل قائمًا: لماذا نقرأ الشعر؟ وهل قراءة الشعر نخبوية ومرتبطة بوعي محدّد للتلقي، ليست للجميع أو أن الجميع بمختلف مستوياتهم الثقافية والطبقية لهم الحقّ في قراءة الشعر بكل أشكاله ومدارسه الأسلوبية؟
والبديهي في الإجابة عن هذا السؤال، هو أن الشعر ملكية ثقافية وجمالية لجميع الناس. وعلى المرء أن يختار قراءة ما يناسبه؛ أكان شعرًا فصيحًا نخبويًّا، أو شعرًا شعبيًّا متجذرًا كثيرًا في الموروث الثقافي لمجتمعٍ ما.
حتى إن هاتين القراءتين ليستا مهمتين في نظري، فالمهم هو ما يفعل الشعرُ فينا عند قراءته، سواء قراءة القصيدة كلها أم بعض الأبيات أو السطور منها، ومدى العلاقة الإنسانية التي قد تنشأ بين الشاعر والقارئ من خلال الإدراك الواعي أو الفهم المنطقي أحيانًا واللاعقلاني أحيانًا أخرى، لِمَا يودّ الشاعر قوله في قصيدته، ومدى ملامسة معاني الكلمات وموسيقى الألفاظ لإحساس عميق في جوانحنا، يؤكد حبّنا وإعجابنا بهذا الجانب الجميل من اللغة، الذي يجعلنا نشعر بنبل الإنسان فينا.
وحدها قراءة الشعر بحُرية مطلقة دون التقيد بفهم محدد أو تصورات قرائية مسبقة عن الشكل المكتوب به ومُنتِج النص نفسه، من شأنها أن تطلق العنان لكل المفاهيم والتصورات والمشاعر والأحاسيس المختلفة التي قد تنتابنا حين تلامس مفردات اللغة الشعرية وتراكيب الصور الجميلة، ما يعتمل فينا من الشعور الإنساني الجميل والمرهف، المتخفف من بؤس ما يحيط بنا.
كيف نقرأ الشعر؟ هل نبحث عمّا هو مهم في القصيدة وعن معنى منطقي فيها؟ أو نبحث عن قصد الشاعر منها؟
برأيي، عليك أن تمنح نفسك مساحة لاكتشاف القصيدة، وأن تترك مجالًا واسعًا لذاتك، بأن تنتقل بحُريّة في سماء الفهم والإدراك الواعي لمختلف الصور التي قد تثيرها كلمات القصيدة، فليس مهمًّا هنا البحث عن معنى منطقي لها، وأن يكون الفهم منطقيًّا.
وهكذا يمكنك الاستسلام بسهولة لما يدور في رأسك أثناء القراءة وهذا يمنحك كقارئ حرية الانفتاح على القصيدة والارتباط بها. بشكل او بآخر.
هناك الكثير من القصائد التي قد تحتاج لأكثر من قراءة. وفي كل قراءة قد يكتشف القارئ الكثير من الصور الأخرى الجميلة التي كانت مختبئة بين ثنايا الكلمات والمعاني، وكلما كثرت مرات القراءة المتأنية ازدادت العلاقة الوجدانية بين الشاعر والقارئ تماسكًا وترابطًا بلاغيًّا وإنسانيًّا.
وحدها قراءة الشعر بحرية مطلقة دون التقيد بفهم محدد أو تصورات قرائية مسبقة عن الشكل المكتوب به ومُنتِج النص نفسه، من شأنها أن تطلق العنان لكل المفاهيم والتصورات والمشاعر والأحاسيس المختلفة التي قد تنتابنا حين تلامس مفردات اللغة الشعرية وتراكيب الصور الجميلة، ما يعتمل فينا من الشعور الإنساني الجميل والمرهف، المتخفف من بؤس ما يحيط بنا.
قراءة الشعر بِحُريّة، هو انفتاح سحري لكل الأبواب المغلقة، التي تختفي خلفها الكثير من الرموز والاستعارات، والتشبيهات والإيحاءات البلاغية التي تغسل أرواحنا، بعيدًا من صلابة القولبة الواحدة.
إذن، ليست هناك طريقة محددة أو معينة لقراءة الشعر، بل هناك فقط الحرية والتحرر في قراءته. إنها حرية الانصهار في سياق القصيدة وأبنيتها الصورية، إنها التفاعل بين الشعور واللغة، الإحساس بالشاعر والقارئ معًا عن طريق ملامسة الكلمات والمعاني لشيء فينا.
إنها اكتشاف لذواتنا من خلال ذات الشاعر.