تأتي لحظة على الشعوب والأمم، يتراءى لمن يبحث عن الأفق دائمًا أن الأفق أغلق، ومن المستحيل أن يفتح أفقه من جديد. هنا تنتصب مهمة الأدب في أنه يتنبأ بما سيكون، فيمهد له، ويدعو الإنسان، بل يستحثه على أن يذهب بنظره إليه وينتمي له.
الشعر والشاعر الرائي الأكبر للتبشير بالمستقبل، حسب ما يحلم به الإنسان، الشاعر يستكنه بشعره أحاسيس الناس والواقع ويوجهها باتجاه الأفق الذي يظن الإنسان في لحظة ألم وتيه وعدم يقين، أنه لن يفتح بابه أبدًا. والشاعر يعرف على الدوام أن الفجر يولد من الظلمة الحالكة.
كانت هناك أصوات أعادت إلى روحي الأمل بأن الغد أفضل، وبأن المستقبل يبشر به الشعر دائمًا؛ في مؤسسة "بيسمنت" كان صباح الخميس الماضي مزدهيًا بصوت الشعر الشاب، قل الشعراء الشباب الذين ارتفع صوتهم من حيث ربط الحاضر بالماضي "التراث"، هنا مربط الفرس في التراث اليمني، كحبوب المجذوب ليس في كل وادٍ دار، بل في ظل كل دار قطعة يُعبث بها -بضم الياء- أو تباع، أو تُسرب إلى متاحف من لا تاريخ لهم!
عبّر الصوت الشاب شعرًا عن حاجتنا لكل ألوان الكلمة، الحاجة الماسة إلى ربط الحاضر بإيجابيات الماضي فقط، والتراث أفضل وسيلة، بل هو أفضل وأجمل ما يربط الإنسان بالجانب المضيء في ماضيه.
أحسست صباح الخميس أن الدورة الزمنية تجدد الزمن، وأن المخاض بدأت تباشيره، رغم كل دعوات العودة إلى الماضي السحيق، بدأ يفرز مؤشراته المهمة، التي تتحول يومًا عن يوم إلى تباشير، أجمل ما فيها أن تبدأ بالشعر.
إذ يصدح صوت الشعر بقوة حرف القصيدة الشابة اليانعة، فيعني فيما يعنيه، أن الريح مهما تكون صرصرًا عاتية، فإن القصيدة أقوى من الرصاصة وصفير الريح
الفن والإبداع بكل أصنافهما وأشكالهما لا يُحتكران من قبل الرجل مهما أوحى بذلك وصرح بأن الإبداع عمومًا مذكر على طول الخط، لا؛ فنون النسوة تفرض نفسها عنوانًا لإنسان جنسه أنثى.
ذلك الصباح ارتفع فيه صوت الشاعرات قبل الشعراء، ليس هذا محاولة للظهور بمظهر لإغراء الفراشات بالمجيء إلى مصدر الضوء، بل إن ألوان الفراشات كانت طاغية، شابة، متحفزة، طغت على أصوات الذكور، مع ملاحظة أنهم ظهروا مبدعين؛ فالإبداع إنسانيٌّ بامتياز، لا يعرف كبيرًا في المقام من صغيره، الكل أمام الحالة الإبداعية سواسية لا فرق بين سيد ومسود، ولا بين شيخ ورعوي، ولا بين وسيم وبشع، ولا بين أنيقة ومن يلبس الزنة أو البنطلون. الإبداع كالمطر عندما يهطل، فليس على بل إلى الرؤوس التي تحس بوقع حبيباته.
المبدع كقطعة الأرض تكون مستعدة للرواء، مستعدة لتلقي البذرة الأولى ليحولها الغيث إلى سنبلة، فحبة تروى، والإبداع بحاجة إلى الرعاية، كما يتعهد المزارع حقله بالسقي والتشذيب وإزالة الحشائش الضارة، لكي ينطلق الساق نحو سماء الله العليا وأمام أشعة الشمس تنمو الحبة وتصير سارة للناظرين، ولذيذة للمتذوقين. كذلك هو الحرف يروى بماء النبع، فتينع الكلمات ويصير مذاقها حلوًا، كما تذوقنا حرف القصيدة ذلك الصباح البهي بشباب من الجنسين لوّنوا نهار الخميس وأعماقنا بالتبشير أن لا أحد يستطيع الوقوف في وجه أشعة الأفق.
إذ يصدح صوت الشعر بقوة حرف القصيدة الشابة اليانعة، فيعني فيما يعنيه، أن الريح مهما تكون صرصرًا عاتية، فإن القصيدة أقوى من الرصاصة وصفير الريح. هل هناك شك في هذه المسلمة؟ لا أعتقد. فالقصيدة حين تنطلق من فم المبدع، تكون انطلاقتها أسرع من القذيفة، وأشد وقعًا من أصوات الرماح.
هو الشعر المبشر الدائم بالآتي، وما على الإنسان إلا أن يفتح عقله قبل قلبه لصوته الهادر كالسيل المنحدر من شاهق الجبال. أصوات الشعراء ضخت في عروقنا الأمل بغدٍ أفضل، يتطلب من الجميع النضال السلمي بكل أشكال الكلمة للوصول إليه. والشعر إن لم ينقلك في التو واللحظة إلى الأفق، فليس بشعر، بل يكون شعيرًا، وما أكثر تجار الشعير.