إيمانًا منهم بأهميةِ التكافلِ الاجتماعي والتكاملِ للجهودِ المدخرةِ وراء الجبالِ الشامخة وفي ظلِّ توقيتٍ حرجٍ للغايةِ تقاتلَ فيهِ الإخوةُ الأعداءُ وأريقَ فيهِ المزيدُ من الدمِ البريء واتسعت دائرةُ الحربِ آكلةً الأخضرَ و اليابسَ؛ في عُزلةٍ قاتلةٍ عن العالمِ وتحولاتهِ وتجاهلٍ مميتٍ من قبلِ الجهاتِ المختصةِ لـ"عزلةِ العتب" وأهاليها في مديرية وصاب العالي، هبَّ الأهالي نحو تحفيزِ الهممِ وتقديمِ التبرعاتِ والتسابقِ إلى ميدانَ العملِ للمشاركةِ في تنفيذِ مشروعِ شقِّ الطريقِ، وتطوعَ العديدُ من شَبابِ القريةِ للعملِ وبدونِ مقابلٍ، بينما عكفَ آخرونَ على وضعِ المقترحاتِ وتداولِ الأفكارِ وتوسيعِ شبكةِ العلاقاتِ والبحثِ عن ممولين وداعمينَ، ينتظمونَ كالبنيانِ يشدُّ بعضهُ بعضًا.
"مخلافٌ صُعِيبٌ"، لكنّ عزائمَ أهالي هذه العزلةِ لم يوهنها ظُلمُ الطبيعةِ ولم ينل من أرواحهم تجاهلُ الآخرين، بل على العكسِ من ذلك تمامًا اشتدَّ يقينهم بأنفسهم فأخرجَ اللهُ القمحَ من بينِ أصابعهم وانحنتِ الجبالُ أمامَ إيقاعِ مَعَاوِلِهِم، تَوَاصوا فيما بينهم بضرورةِ المبادراتِ الاجتماعيةِ فكانت أولى ثِمارِ التَّكَافُلِ والتَّكامُلِ الاجتماعي شقُّ طريقِ السنبةِ-العتبِ وترويضِ أعتى السلاسلِ الجبليةِ بحلمٍ مشروعٍ يبلغُ مداهُ في المرحلةِ الأولى وتقدَّرُ بـ1600مترٍ أو لنقل مسافةَ ميلٍ واحدٍ، وكما قالتِ العربُ قديمًا "مسيرةُ الميلِ تبدأ بالخطوةِ الأولى"، فكيفَ كانت الخطوةُ الأولى من مشروعِ الميلِ في الطريقِ إلى المستقبلِ عبرَ سلسلةٍ جبليةٍ عصيةٍ؟ وماذا عن إصرارِ أهالي عزلةِ العتب - مديريةِ وصابِ العالي واكتمالِ أحلامهم وإرادتهم؟
في هذا التقريرِ الخاصِ بمنصةِ "خيوط" سيحاولُ القائمونَ على مشروعِ شقِّ طريقِ "السنبة - العتب" الإجابةَ على تلكَ الأسئلة وغيرها وتقديمِ صورةٍ شَاملةٍ عن المشروعِ ونبذةٍ مختصرةٍ عن روحِ المبادرةِ وحجمِ الإنجازِ حتى اللحظةِ، ولكن قبلَ هذا وذاكَ ستقدمُ السطورُ الآتيةُ نبذةً مختصرةً عن عزلةِ العتب - مديريةِ وصابِ العالي.
التنوعُ الحيوي والجمال الطبيعي
تقع عزلةُ العتبِ ضمنَ الامتدادِ الطبيعي لسلسلةِ جبال السُّراة، وتبعد عن مركز محافظة ذمار غربًا حوالي (65 كم) تقريبًا، وهوَ ما أكسبها التنوعَ المناخي، وتنوع المحاصيلِ والمنتوجاتِ الزراعيةِ؛ كما أكسبَ أهلها المزيدَ من التَّسامُحِ والنُّبلِ والتّحلِّي بالصبرِ ومَكارِمِ الأخلاقِ، كما أكسبَتِ الجبالُ الشاهقةُ ووعورة التَّضَارِيسِ الأهاليَ عُلوَّ الهِمةِ والطُّموحِ المُتَجَاوِزِ للزمنِ ذاتِهِ؛ فَكَانُوا -بحقٍ- أبنَاءَ البيئةِ المخضرةِ في أعمَاقِهِم يؤثرونَ فيها ويَتأَثرونَ بها لم تَهُن أروَاحُهُم ولم تَخفُت عَزائِمُهم رغمَ التَّجَاهلِ ومحاولاتِ الإقصاء.
وتشتهر عزلة "العتب" بطبيعتها الساحرةِ واخضرَارِهَا، لا سيما عند هطولِ الأمطارِ، واحتواء المراعي فيها والأحراش على أنواع من الأشجار والنباتات الطبية والعطرية النادرة؛ كما تتمتع بخصوبةِ التربةِ والتفافِ الغيومِ عليها من كل صوبٍ، والإنتاجيةِ العالية للمحاصيل الزراعية وجودة الحُقولِ والمراعي، بالإضافةِ إلى فرادةِ العِمَارةِ وتَمَيُّزِ البَصمةِ العِمرَانِيةِ للحِصونِ والقِلاعِ على رُوؤسِ الجَبالِ الشَّاهِقةِ التي تعانقُ السماءَ صباحَ مساءَ؛ ووفرةِ الثروةِ الحيوانيةِ والمعدلات الجيدة لهطول الأمطار، إضافة إلى الحواجزِ المائيةِ والغيول والشلالاتِ، ولعلَّ من أهمِهَا "مقداحةِ" و"الموردة"، لكن -ويا للأسف- لكأنَّما شاءتِ الأقدارُ أن تَظلَّ هذهِ العزلةُ دُرةً بِيدِ فَحامٍ يتقنُ التَّجاهلَ والتَّنكرَ؛ الأمرَ الذي دفعَ سكانها للاعتمادِ على ذَوَاتِهِم وتفعيلِ المُسَاهماتِ الاجتماعيةِ لإنشاءِ الخَدماتِ الأسَاسِيةِ التي ظلَّتِ العزلةُ في أمس الحَاجةٍ إليها منذُ خمسينَ عامًا.
الخط طوله 1639 مترًا، والعمل في المشروعِ بدأ في فبراير/ شباط 2021، وأنجز منه حتى الآن 50% من الشقِ، والمنطقة الأشد وعورة أوشكت على الانتهاء
الإرادةُ والقوةُ "المجدُ للبسطاءِ"
في هذا السياقِ، يتحدثُ لـ"خيوط" الدكتور مبخوت العزي عن مشروعِ شقِّ طريقِ السنبةِ - العتب، قائلًا: "لا عتب على أبناء (العتب) إذا كبر معظم أبنائهم ولم يلتحقوا بمدرسة، ولا عتب عليهم إذا مرض أحدهم ولم يستطيعوا توفير الدواء له أو إسعافه في الوقت المناسب، وأي عتب يكون مقبولًا إذا كان السبب واضحًا والعذر قَاهِرًا؟! أناس بسطاء وفلاحون يسكنون جبلًا معزولًا عن العالم من كل الجهات، لم تعرفه الجهات المعنية ولم تلتفت إليه إلا لجمع الزكاة أو طلب الحق العام، ولكن حق أولئك الأهالي في التعليم والصحة وخدمات الحياة الأساسية لم يكن على قائمة اهتمام أحد! لا وقت هنا للوم أحد، ولكن سياق الحال اقتضى هذا المدخل التراجيدي ليكون الحديث عن الإنجاز في ظل العجز أكثر إبهَارًَا وأجلّ تقديرًا".
ويضيفُ مبخوت العزي، أن أهالي عُزلَةِ (العتب) "صرفوا النظرَ عن السَّرابِ المنتظرِ واقتنعوا بأنه "ما حك جلدك مثل ظفرك"، فانطلق السهم ولم يعد للقوس ثانية" حسب تعبيره. ستة أشهر تغيرت فيها المعادلة؛ من عجز وضعف وقلة حيلة، إلى إرادة وقدرة وإنجاز، تلاحمت جهودُ الأهالي وبادروا في أجواءَ تنافسيةٍ للإعلانِ عن تَبَرُّعاتِهم بالمَالِ ومن لا يجدُ المالَ أعلنَ عن استعدادهِ للتطوعِ في العملِ المجاني في الشِّقِ والرَّصفِ وإزالةِ مُخلفاتِ العملِ بعيدًا عن مُمتلكاتِ الآخرينَ وحُقُولِهم الزِّرَاعيةِ. واستجابةً للتفاعلِ المجتمعي -والحديث لا يزال للعزي- فإنَّ تلك الصخور التي وقفت شامخة وعنيدة أمام تطلعات الناس وأمنِياتِهم، تحطمت أو تزحزحت وأفسَحتِ الطريق أمام شموخ الإرادة والعزيمة، واستمر الحلم يشق طريقه نحو الهدف، وأن البدايةُ كانت تُشبهُ الخَربَشاتِ بالقلمِ الرصاصِ على جدارٍ صلبٍ من الإحباط، لكن اليوم "أصبح النحت في الصخور نشاطًا يوميًّا يقوم به رجال احترفوا النجاح وعشقوا الإنجاز تظلهم سحب الأمل نهارًا تحت حرارة الشمس ويضيء طريقهم ليلًا بريق الطموح الذي يلمع في قلب الظلام ليستمر النحت وتستمر الحكاية".
واختتم العزي حديثه بالقول: "المصادفة العجيبة أن الهدف المنشود الذي أمامنا هو شق طريق مقداره ميل؛ أي 1600 متر، لقد جعلنا هذا نشعر بأننا سنصل منذ أول متر قطعه "البوكلين" (الجرّافة)، واليوم اقتربنا من نصف المسافة. لقد نجحنا. تلك الجبال التي صمدت أمامنا كنواة من الفولاذ تم اختراقها، وما بعدها مجرد أحداث ثانوية، لن تدوم طويلًا. سيحتفل البسطاء بمنجزهم العظيم، وهنا تكمن المفارقة؛ بسطاء يصنعون منجزًا عظيمًا".
التكاتفِ الاجتماعي جاء كترجمةٍ لإرادةِ الأهالي وردٍّ على التجاهلِّ الرسمي لهذهِ العزلةِ المظلومةِ من بعدِ قيامِ الثورةِ الأم 26/ سبتمبر 1962، من أبسطِ المشاريعِ الخدميةِ وفي مقدمتها الطريق
تكلفةُ المشروعِ وحجمُ الإنجاز
من جهتهِ قال الشيخُ عبدالله محمد الجبلي رئيس المشروع، إنَّ الخط طوله 1639 مترًا، وأن العمل في المشروعِ بدأ في فبراير/ شباط 2021، وأنجز منه حتى الآن 50% من الشقِ، وأن المنطقة الأشد وعورة أوشكت على الانتهاء.
وأضاف الجبلي في حديثه لخيوط أنَّ تكلفة المشروعِ المتعلقِ بالشقِّ والرصفِ تصلُ إلى 140 ألف دولار، وأن هذا المبلغُ هو تقديري بحسب الدراسةِ الأولية للمرحلةِ الأولى للمشروعِ، وأنه قابل للزيادةِ حسبَ المستجداتِ أو الصعوبات غير المتوقعة.
وأشار مديرُ المشروع إلى حجم التكاتفِ الكبير ودور المرأةِ في نجاحِ المشروع، قائلًا: "لقد ساهم أهالي العزلة وفاعلو الخير في جمعِ هذا المبلغ، وما زال السعي جاريًا وراء الحصول على بقية الدعم. وقد ساهمت المرأة بالتغذية وساهمت بالمال؛ فكثير من النساء تبرعن بالمال على قدر استطاعتهن".
حلمُ الأرضِ والإنسان
من جهتهِ أكد المهندسُ نائف عادل الوصابي، المديرُ الإعلامي للمشروعِ، أنّ عزلة "العتُب" "هي المنطقة الأكثر وعورة في محافظةِ ذمار والأشدُّ حرمانًا من خدماتِ الحياةِ الأساسيةِ وكأنَّما توقفَ بها الزمنُ عندَ العصورِ الحجريةِ لتُطِلَّ على استحياءٍ خارجَ نطاقِ الزمانِ والمكانِ"- وفق تعبيره.
وأضاف أن تضاريسها العنيدةُ تسببت في قطعِ كلِّ إمداداتِ الحياةِ الكريمةِ عنها وكانتِ السببَ وراءَ حرمانها من كل مشاريعِ التنميةِ والإعمارِ وشتى الخدماتِ التعليميةِ والطبيةِ، مشيرًا إلى أنه لا وجود لأيٍّ من المشاريعِ الخدميةِ أو الإنمائيةِ الأساسيةِ التي تدل على تكافؤ فرصِ المواطنةِ العادلةِ أسوةً ببقيةِ العُزلِ والمديرياتِ على امتداد الجغرافيا اليمنية.
ووصف نائف التكاتفِ الاجتماعي من قبلِ أهالي العزلةِ بأنه "يأتي كترجمةٍ فعليةٍ للإرادةِ وردٍّ حقيقي على التجاهلِّ الرسمي لهذهِ العزلةِ المظلومةِ من بعدِ قيامِ الثورةِ اليمنيةِ الأم 26/ سبتمبر 1962، من أبسطِ المشاريعِ الخدميةِ وفي مقدمتها الطريق، وأن ذلك ما دفعَ أهالي العزلةِ للاعتمادِ على أنفسهم واجتراحِ المساهماتِ الاجتماعيةِ وتبرعاتِ أهالي العزلةِ خارج اليمن، والإفادةِ من شبكةِ العلاقاتِ لاستكمال مشروعِ الطريقِ وإعطائهِ الأولويةِ باعتبارِ الطريقِ شريان الحياةِ ومن بعدهِ تأتي بقيةُ المشاريعِ الخَدميةِ الأخرى".
ودعا المسؤول الإعلامي للمشروع رجالَ المالِ والأعمالِ إلى "التَّفاعلِ الخلاقِ لإنجاحِ مثلَ هذهِ المَشَاريعِ الحيويةِ في تأكيدٍ على ضرورةِ الانتصارِ لكلِّ المَظَاهِرِ الحافلةِ بالحياةِ، لا سيما في القرى والأريافِ المحرومةِ من أبسط مقوماتِ الحياة".