لليسار العربي -خصوصًا الفلسطيني واللبناني- تاريخٌ من النضال يمتدّ لما يناهز نصف قرنٍ تجلى أكثره في الأعمال الفدائية واجتراح أشكال عدة من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي ومواجهته على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ميدان، في الداخل الفلسطيني وفي الخارج.
غير أنه لم يمر الكثير من الوقت حتى جاءت الرياح المحلية والعربية والدولية بما لم تشتهِ سفن اليسار، خصوصًا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي الداعم الرئيسي لليسار العربي عامة، وفصائل المقاومة الفلسطينية على وجه الخصوص.
وبحسب أحد قيادات اليسار، فــ"إنّ الخطأ الذي قادنا إلى الهزيمة والفشل، ليس بسبب انهيار التجربة الاشتراكية، بل لأننا لم نعرف كيف نستخلص الدروس في الوقت الضروري لكيلا تنهار تجربتنا مع انهيار التجربة الأم"، (القيادي الشيوعي اللبناني "كريم مروّة"، في مقدمة كتابه "قادة تاريخيون كبار في ثورات القرن العشرين"، الجزء الأول، الدار العربية للعلوم، بيروت- لبنان، 2012، وهو صاحب تجربة في العمل السياسي كقيادي اشتراكي، على امتداد أكثر من ستين سنة، وصاحب كتاب مثير للجدل عنوانه "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي").
وفي السياق، تحضر قصة نضال الفدائي اللبناني سمير القنطار- أحد أشهر السجناء المحررين من السجون الإسرائيلية، باعتباره أحد عناصر اليسار في الشطر الأول من حياته ونضاله وفي معظم سنوات سجنه التي تناهز ثلاثة عقود، فقد التحق بجبهة التحرير الفلسطينية، وبرز في العمل الفدائي خلال قيادته عملية شاطئ نهاريا في أبريل/ نيسان 1979، وقتل عددًا من الجنود والضباط الإسرائيليين ثم وقع أسيرًا بعد إصابته بعدة طلقات، لكنه التحق بحزب الله بعد تحريره منتصف العام 2008، وأصبح أحد أبرز عناصره حتى اغتياله في غارة إسرائيلية استهدفته مع عدد من عناصر حزب الله في العاصمة السورية دمشق، أواخر العام 2015.
العملية التي أطلق عليها اسم "جمال عبدالناصر"، رغم أنها لم تحقق الهدف المأمول، وهو أسر بعض الجنود الإسرائيليين للمساومة بهم من أجل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين، أثارت الرعب لدى الاحتلال الإسرائيلي، وحينها قال مناحيم بيجن- رئيس وزراء إسرائيل، وقتها: "سنعاقب سمير القنطار عقابًا لا يعرفه الشيطان نفسه".
كان اليسار متصدرًا
تأثر الشاب اللبناني المولود في يوليو/ تموز عام 1962، في منطقة عبية المشرفة على العاصمة بيروت، لعائلة تنتمي للطائفة الدرزية، بالأفكار اليسارية، لا سيما مع انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية بعد مغادرة الفدائيين مملكةَ الأردن عقب المواجهات مع القوات الأردنية في أحداث أيلول 1970، وكان لعملية "الخالصة" التي نفذها ثلاثة من عناصر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة، ضد الاحتلال الإسرائيلي في أبريل/ نيسان 1974، تأثيرها في سمير الذي قرر الالتحاق بالجبهة نفسها، لكن قيادته المباشرة قررت الانشقاق عن الجبهة بعد ذلك بعامين، وتأسيس "جبهة التحرير الفلسطينية" التي سيصبح أحد عناصرها الفدائية.
مطلع العام 1978، حاول القنطار مع عضوين آخرين في الجبهة اجتياز الحدود الأردنية الإسرائيلية لتنفيذ عملية اختطاف حافلة إسرائيلية، لكن المخابرات الأردنية اعتقلته، وأودع السجن ليقضي فيه قرابة سنة، ثم أُفرج عنه ليبدأ الاستعداد لعملية فدائية جديدة في الأراضي المحتلة، قادمًا من الحدود اللبنانية هذه المرة.
تلك العملية التي أطلق عليها اسم "جمال عبدالناصر"، رغم أنها لم تحقق الهدف المأمول، وهو أَسْر بعض الجنود الإسرائيليين للمساومة بهم من أجل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين، أثارت الرعب لدى الاحتلال الإسرائيلي، وحينها قال مناحيم بيجن- رئيس وزراء إسرائيل، وقتها: "سنعاقب سمير القنطار عقابًا لا يعرفه الشيطان نفسه".
دخل القنطار السجن واليسار اللبناني والفلسطيني يتصدر المشهد، وكذلك الحال في السجون الإسرائيلية، أو على الأقل في السنوات الأولى من سجنه، وفي الوقت الذي أخذت فيه فصائل اليسار تنحسر وتتراجع، بدأت تظهر المقاومة ذات التوجه الإسلامي، (السُّنية في فلسطين، والشيعية في جنوب لبنان)، وقد رأى هو بنفسه ذلك التحول من خلال رفاقه في السجون الإسرائيلية، حيث قضى سنواته الأولى مع كثير من اليساريين وعناصر حركة فتح، أما في السنوات الأخيرة، تحديدًا منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، وحروب الجنوب اللبناني، فقد بات يرافقه في السجن قيادات من حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وأبرزهم: أحمد ياسين، وعبدالعزيز الرنتيسي، وفتحي الشقاقي، وكذلك من حزب الله اللبناني.
الانهيار كان أسرع
إبان الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990)، تحالفت فصائل المقاومة الفلسطينية، مع قوى اليسار اللبناني التي باتت تعرف بـ"الحركة الوطنية اللبنانية"، بزعامة كمال جنبلاط، وشكّلت "القوات المشتركة"، في مواجهة اليمين ذي الغالبية المسيحية، وتعرضت قوى اليسار لضربات موجعة خلال الحرب، وعلى هامشها، ومنها اغتيال زعيم الحركة كمال جنبلاط في مارس 1977، بعد ما تدخل الجيش السوري لصالح خصوم اليسار اللبناني وحلفائه الفلسطينيين، ثم الاجتياح الإسرائيلي الذي أسفر عنه إجبار القوى الفلسطينية على مغادرة لبنان في العام 1982. وهو ما أدّى إلى تشتت قوى المقاومة الفلسطينية -وفي مقدمتها فصائل اليسار- في عدد من الدول العربية، مع أن مقاومة لبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي باسم (جبهة المقاومة الوطنية)، حملت راية النضال والكفاح المسلح، وحققت انتصارات متتالية، وقد تشكّلت هذه الجبهة من الحزب الشيوعي اللبناني، وحزب العمل الاشتراكي، ومنظمة العمل الشيوعي.
ورأى قادة اليسار اللبناني أنّ الوضع الذي كان يسود في لبنان بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية كان شديد الاضطراب، إذ كثرت الحروب الصغيرة بين الإخوة داخل جبهتَي الصراع في الحرب الأهلية، صار الكل يقاتل الكل، وبدأت تسود حالة عبثية، وكان للجيش السوري دور أساسي في العمل على تشجيعه وتعميمه، لتتولد لدى عدد من قيادات الحزب الشيوعي اللبناني في العام 1988، فكرةَ البحث عن وسيلة تخرج قوى اليسار العربي من حالة التشرذم التي كانت تُضعفها. وتقضي الفكرة التي تبناها القادة جورج حاوي وجورج البطل وكريم مروّة، بوضع صيغة جديدة غير مسبوقة من العمل الفكري والإعلامي والسياسي والتنظيمي لمواجهة ما كانت تشير إليه بعض مظاهر التفكك والضعف والخلل في التجربة الاشتراكية، وكانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي السوداني أول الموافقين على المشروع، وتبع ذلك عدة جولات ولقاءات، لكن المشروع لم يرَ النور؛ لأنّ "الانهيار المتسارع للدول الاشتراكية قد خلق لدى الجميع حالةً من الاضطراب والقلق وعدم الوضوح"، بحسب القيادي الشيوعي اللبناني كريم مروة.
يؤكد القنطار في مذكراته أنه اعتنق المذهب الشيعي– مذهب حزب الله وإيران التي تدعمه، قبل الخروج من السجن، في الفترة التي كان فيها حزب الله يُجري المفاوضات مع الإسرائيليين لإنجاز صفقة تبادل للأسرى تشمل سمير القنطار، لكنه لم يعلن اعتناقه المذهب الشيعي، بناءً على نصيحة حسن نصر الله.
القنطار في اليمين الشيعي
أواخر ديسمبر 2008، بعد خروجه من السجن بحوالي 5 شهور، تحدث القنطار لصحيفة "النداء" اليمنية عن ظروف وأسباب تحوله من التوجه الاشتراكي اليساري، ليصبح ضمن حزب الله ذي التوجه العقائدي (الشيعي)، وقال إنّ هذا التحول حدث منذ سنوات عندما كان في الأَسْر، وتحديدًا أواخر التسعينيات، وهي الفترة التي شهدت تنامي المقاومة الإسلامية (الشيعية) التي يقودها حزب الله على حساب المقاومة الوطنية التي كان يقف على رأسها اليسار.
في تلك المقابلة، كان الكاتب الصحفي سامي غالب، القادم من أعماق اليسار اليمني، يقف على المنعطف الأهم في حياة الأسير المحرر ومساره النضالي، وقد أثار معه ذلك التحول من عدة اتجاهات، بيد أنه أخبر ساميًا أنه يشعر بنوعٍ من السلام الداخلي وأنه متصالح مع قيمه السياسية، مشيرًا في هذا السياق إلى مقولة زعيم حزب الله: "تأتي قوى تلعب دورًا في مرحلة معينة، تتعثر تتراجع تتأخر، فتتسلم الراية قوة أخرى". إذن فاليسار -بمختلف فصائله وتشكيلاته- تعثر وتراجع وتأخر، وجاء نصر الله وحزبه ليتسلّموا الراية، هذا ما أراد أن يقوله حسن ويوافقه القنطار.
يؤكد القنطار في مذكراته أنه اعتنق المذهب الشيعي– مذهب حزب الله وإيران التي تدعمه، قبل الخروج من السجن، في الفترة التي كان حزب الله يُجري المفاوضات مع الإسرائيليين لإنجاز صفقة تبادل للأسرى تشمل سمير القنطار، لكنه لم يعلن اعتناقه المذهبَ الشيعي، بناءً على نصيحة حسن نصر الله، حتى لا يعطل ذلك الإعلان على حزب الله استغلال ورقة القنطار بما يمتلك من رصيد جماهيري بوصفه واحدًا من أشهر الأسرى العرب في السجون الإسرائيلية، وصاحب لقب عميد الأسرى، أما في حال أعلن تحوله المذهبي، فإن ذلك يعني أنّ حزب الله لم يعمل على إطلاق سراحه إلا لأنه صار تابعًا للمذهب الشيعي.