تتبدّى قصص العناء والمكابدة جليّة ومكثّفة في رَدهات المركز الوطني للأورام في صنعاء، ومعها تتجلّى معاناة وطن بأكمله، حيث تتوافد على مبنى المركز الكائن في شارع الزبيري (وسط العاصمة صنعاء)، أعدادٌ كبيرة من المرضى المعدمين الذين يقاتلون من أجل البقاء وتوفير سكن قريب من المركز، حتى نيل الجرعة المخصصة لكل مريض. تُقدَّم هذه الجرع في المركز الذي يُعدّ ملاذًا أخيرًا للمرضى القادمين من مختلف محافظات الجمهورية اليمنية التي توقفت فيها مراكز مماثلة؛ إمّا بسبب قلة الدعم المجتمعي، أو بسبب غياب المراكز المتخصصة كليًّا.
الجدير بالذكر، أنّ معدلات الإصابة بالسرطان، في تزايد مطّرد في اليمن عامًا بعد آخر، يقابلها شحٌّ في إمكانيات المواجهة.
محسوبية في قلب الموت
يصحو مرتضى حسين (31 سنة)، من محافظة حَجّة، في الخامسة فجرًا، يسابق الزمن للوصول إلى مركز الأورام بصنعاء وتسجيل اسمه قبل الجميع لأخذ الجرعة سريعًا واللحاق بعمله، لكنه يفاجَأ بتراجع الرقم الذي سجّله إلى رقم متأخر جدًّا، كأن يسجل برقم (12) لدى الحارس، ليجد دوره قد تراجع إلى الرقم (30) عند إدخال الأرقام والأسماء للنظام.
ويقول مرتضى لـ"خيوط": "هناك بعض الحالات تصل للمركز عند الساعة الثامنة صباحًا، يتم تقديمها على حالات حجزت فجرًا، ما يعني أنّ هناك تلاعبًا بأرقام السندات في نظام الحجز، يضطلع فيه بعض الموظفين، الذين يمرِّرون بعض المرضى كون إمكانياتهم المادية أفضل".
بدون موظفين
من ناحيته، يقول خالد أحمد (28 سنة)، من محافظة ريمة لـ"خيوط": "رغم قدومي المبكر، وحجزي المسبق للموعد، فإنّ الموظفين لا يداومون إلّا من الساعة التاسعة صباحًا وما فوق، بل إنّ بعض الموظفين يتركون مقرّاتهم بعض الوقت تحت مبرّرات كثيرة؛ الإفطار، الحمام، وغيرها من المبررات التي قد تكون صحيحة حينًا، ومجرد أعذار حينًا آخر".
مضيفًا: "موظف واحد مسؤول عن التعامل مع أكثر من مئة مريض، يقوم بإدخال بياناتهم جميعًا قبل الدخول للجرعة في مركز الأعضاء؛ مؤشر لسوء توزيع الكادر، وفشل تخطيط الإدارة في المركز".
مشقة السفر
كانت أم عبدالعزيز (43 سنة)، من محافظة ذمار، تتناول جرعات الكيماوي في مركز بمحافظة ذمار، قبل أن يقرر لها الدكتور المشرف على حالتها نوعًا جديدًا من الكيماوي غير متوافر في مركزهم؛ ما اضطرّه إلى إحالة الحالة لمؤسسة الأورام بصنعاء، وتحرير مذكرة رسمية لتوفير الجرعة للمريضة، إلّا أنّ الأخيرة قابلت هذا الطلب بالرفض القاطع؛ بحُجّة أنّ الجرعات مكلفة جدًّا، وأنّ ما يدخل للمؤسسة لا يخرج منها إلا لجسم المريض مباشرة، طالبين من أهل المريضة المجيء بالمريضة من ذمار إلى صنعاء كلّ 21 يومًا، لإعطائها الجرعة.
عبدالعزيز، ابن المريضة، يتحدث لـ"خيوط"، عن المعاناة التي تواجههم، قائلًا: "في كل جرعة يلزمنا البقاء في صنعاء ثلاثة أيام على الأقل، لعمل الفحوصات اللازمة قبل إعطاء الوالدة الجرعة، وفي اليوم التالي يتم إعطاء الوالدة الجرعة، ولكننا لا نستطيع السفر بعدها مباشرة بسبب حالة الوالدة المنهكة بعد الكيماوي؛ الأمر الذي يضاعف تكاليف الإقامة".
عيادات خاصة
على كرسي متحرك وتحت أشعة الشمس، يجلس (م.ن) (56 سنة)، من محافظة حضرموت، يعاني من ورم في الدماغ والعمود الفقري، كان قد نُقل من مركز بن زيلع بحضرموت، إلى العاصمة صنعاء، بسبب عدم قدرة المركز هناك على علاجه. يقول عبدالله مرافق المريض (م.ن) لـ"خيوط": "وصلنا إلى صنعاء يوم الأربعاء 25 يناير/ كانون الثاني، بعد رحلة سفر دامت يومين، كلفتنا 135 ألف ريال لثلاثة أشخاص، إضافة إلى تكاليف السكن في فندق، لكننا وصلنا على نهاية الدوام يوم الأربعاء، أي إنّنا سنضطر إلى الانتظار ليوم السبت بسبب إجازة الخميس والجمعة، ما يعني تكاليف إضافية نقتطعها من روحنا، والله!".
ويتابع: "يوم السبت قمنا بإجراء الفحوصات التي طلبها الدكتور المشرف على حالة خالي، وفي الساعة الثانية عشرة كان المركز قد أغلق أبوابه أمام مرتاديه، بينما كنت بانتظار نتيجة فحوصات خالي، حتى أعرضها على الطبيب الذي لن يداوم إلّا بعد يومين، بسبب عملية التدوير بين الأطباء".
"نلجأ -في بعض الأحيان- إلى الذهاب إلى عيادة الدكتور الخارجية، حيث يقوم عددٌ كبير من الأطباء بتحويل المرضى من المستشفيات الحكومية إلى العيادات الخاصة بهدف التكسب، بينما يندفع المريض ومرافقوه نحو هذه العيادات -رغم تكلفتها القاصمة- رغبة منهم في اختصار الوقت، وتفادي انتظار دوام الطبيب في المستشفى الحكومي لأيام، وقد يصل أو لا يصل"؛ ينهي عبدالله حديثه لـ"خيوط".
مماطلة في المواعيد
ينتظر عبدالله إسماعيل (35 سنة)، من أبناء منطقة المراوعة بمحافظة الحُديدة، لليوم الثالث على التوالي، دورَه في الحصول على صبغة الأشعة الخاصة بكشافة أبيه، الذي يعاني من سرطان المثانة؛ ولكن دون جدوى، إذ قال له الموظف المختص أن يعود في الغد مجدّدًا.
"تتدهور صحة عائشة (47 سنة)، التي تعاني من سرطان الثدي والإبط بشكل مقلق، ذلك أنّها تضطر إلى انتظار نتيجة فحوصاتها قرابة عشرة أيام، فعائشة أمام خيارات كلّها صعبة، أهونها انتظار العشرة الأيام، أو دفع 54 ألفًا مقابل إجراء الفحوصات في نفس اليوم، وهو مبلغ لا طاقة لها على دفعه، أو إجراء الفحوصات خارج المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، ما يعني تكبد مبالغ كبيرة جدًّا مقارنة بضعف الحالة المادية لها"؛ تحدثت المرافقة فاطمة، أخت عائشة لـ"خيوط". مضيفة: "لقد أنهكَ المرض كلَّ ملامح الأنوثة في عائشة؛ تساقط شعرها، هزل جسمها، واصفرّت بشرتها بسبب جرع الكيماوي التي تداوم عليها منذ ستة أعوام، إذ نحضر كل أسبوعين لتأخذ عائشة الجرعة على مدى ستة أشهر، ثم تجري الفحص، وهكذا دواليك إلى أن تتغير للأفضل نتائج الفحوصات".
النوم في المسجد
ينام عبدالله ووالده في مسجد المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، لعدم وجود أقارب يلجؤون إليهم، وعجزهم عن تحمل تكاليف الإقامة في فندق. ومثلهما حسين (10 سنوات) ووالده، من محافظة المحويت، اللذان لم يجدا سوى بيت الله يُؤْوِيهما من عناء التشرّد والشتات بينما ينتظران الدور في كشف المؤسسة المعنية، إذ يعاني حسين من ورم في الجهة اليمنى للبطن والأمعاء.
الجدير بالذكر، أنّه يوجد سكن خاص للمرضى القادمين من المحافظات البعيدة في الدور الخامس والسادس من مبنى المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان في منطقة عصر، لكن السكن فيه يكاد يكون لأصحاب الحظوة ممّن لهم علاقات بالكادر والعاملين، حدّ وصف والد حسين.
تقدم المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان جرعات كيماوية للمرضى المصابين، تصل قيمتها في بعض الأحيان إلى ثماني مئة ألف ريال، لكنها تعجز في معظم الأحيان عن توفير حقنة لا يتعدى سعرها الثلاثة آلاف ريال".
مبالغ طائلة
ينفق أسامة مختار ووالدته، من محافظة مأرب، قرابة 7,200 ريال سعودي؛ أي ما يعادل 1,927 دولارًا أمريكيًّا، نظير تنقلهما من محافظة مأرب الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا، إلى العاصمة صنعاء الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين).
"فرقتنا الحرب، وجمعنا مركز الأورام"؛ يقول أسامة لـ"خيوط"، ويتابع: "تقدم المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان جرعات كيماوية للمرضى، تصل قيمتها في بعض الأحيان إلى ثماني مئة ألف ريال، لكنها تعجز في معظم الأحيان عن توفير حقنة لا يتعدّى سعرها الثلاثة آلاف ريال". ويُرجِع أسامة سبب هذا القصور إلى أنّه قد يكون بعض العاملين في المركز، صادروا هذه الأشياء البسيطة لحساباتهم الخاصة.
على مقربة من بوابة المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان، تتجوّل ببراءة الأطفال، الطفلة آية صادق (3 سنوات)، من محافظة ريمة، التي تعاني من ورم في الغدد الليمفاوية في الرأس، والرقبة، والصدر، والأمعاء، والبنكرياس بنسبة 80%، والذي شُخِّصَ بأنّه من أخطر أنواع السرطانات، لكنه ممكن العلاج، وبالفعل انحصرت نسبة انتشاره في آية من 80% إلى 27%، بحسب إفادة والديها، لكنهما يشتكيان كغيرهما من التكاليف الباهظة التي يتحمّلونها في سبيل حياة ابنتهم، يقول والد آية لـ"خيوط": "نسكن في منطقة حزيز (جنوب العاصمة صنعاء)، وهي منطقة بعيدة بالنسبة لمقر المؤسسة، لكننا نجد أنفسنا مجبرين على تكبد تكاليف المواصلات والعلاجات غير المتوافرة في المؤسسة، إذ نأتي إلى المركز الوطني للأورام الواقع خلف المستشفى الجمهوري كلَّ أسبوع، لتأخذ آية الجرعة منذ ما يقارب سبعة أشهر، والأسوأ أنّني لا أستطيع توفير المال، أكان بالعمل الدؤوب داخل البلاد أو بالاغتراب، بسبب تواجدي الدائم بجانب آية".