قال أحمد شوقي:
"يا طالبًا لمعالي المُلْك مُجتهدًا
خُذها من العلم أو خُذها من المالِ
بالعلمِ والمالِ يبني الناسُ مُلكَهُمُ
لم يُبْنَ مُلكٌ على جهلٍ وإقلالِ"
فما بالك بأخذها من الاثنين -العِلم والمال- معًا. فانظر كيف تكون معالي المُلك -أو المجد- إذا ما تحققت بتحالف قائم بين العِلم والمال؟
واليومَ -أو في هذا العصر- بات قيامُ هذا التحالف ضرورةً مُلِحَّة للنهوض بمُقدّرات الدول ورُقيّ المجتمعات ونهضة الشعوب. فالبحث العلمي والاكتشافات والاختراعات وشتى وجوه الابتكار والإبداع -لا سيّما في مجال التقنية- لن يستقيم لها عود أو يكتمل لها بدر من دون مدّ يد العون المالي إليها وأصحابها.
وقد أوجدت الدول المتقدمة مصادر تمويل ضخمة البُنية وشديدة الضخّ لمؤسسات وشخصيات البحث العلمي، وأفردت لها أرقامًا مهولة في ميزانياتها العامة -سنويًّا- تفوق الأرقام المرصودة للعديد من أوجه الحياة العامة، بما فيها التسليح.
وبالطبع، حين نتحدث عن الدول المتقدمة لا نعني -أَلْبتةَ- بلادَ العرب. وإلَّا ماذا يعني أن يكون مجموع الميزانيات المرصودة للبحث العلمي في جميع الدول العربية لا يتجاوز نصف ما هو مرصود لهذا المجال في ميزانية إسرائيل؟!
وفي ظل مشهد قاتم كهذا، ماذا نتوقَّع لوجودنا ومستقبلنا -كعرب- أن يكون، أو بالأصح: ألَّا يكون؟
في مقدمة كتابه الهامّ "عصر العلم"، يُشير العالِم الفذّ الدكتور أحمد زويل، إلى أنه "في الخمسين عامًا المقبلة [صدر هذا الكتاب في صيف العام 2005]، ستحظى المجتمعات القائمة على العلم والمهارة بنصيب الأسد من السوق والمكانة في العالم. وبدون تقدُّم علمي مُلائم، سوف يكون حديث العالم عن الجينوم والاستنساخ والطب الجُزيئي والذكاء الاصطناعي ومعالجة المادة، حديثًا غريبًا، بل شاذًّا!".
ونحن ندرك أنّ كثيرًا جدًّا من العقول العربية النابغة في شتى حقول العلم والتقنية والاختراع قد هاجرت إلى أمريكا وكندا وأوروبا وأستراليا، بعد أن عدمت -في بلدانها- أبسط حدود الدعم المادي تحديدًا، فإذا بها تسطع نجومًا في سماء العلم في تلك البلاد، بعد أن احتضنتها مؤسسات وجامعات وأوساط لا تبخل بالمال على العلم والعلماء.
وأعود إلى الدكتور أحمد زويل، الذي يُنوّه بمعلومة ذات دلالة بالغة الأهمية، إذْ لفت انتباهه أنه "منذ العام 1901 -أي العام الذي مُنحت فيه جائزة نوبل لأول مرة- وحتى العام 1951، كانت الولايات المتحدة لا تحتل المرتبة الأولى في نسبة الحائزين على الجائزة، حيث احتلت ألمانيا المرتبة الأولى، وبريطانيا المرتبة الثانية، ولكن منذ النصف الثاني من القرن العشرين، تغيَّر الوضع تمامًا، إذْ قادت الولايات المتحدة ثورة علمية جبارة خلقت وضعيتها الاستثنائية في خريطة العالم المعاصر، فاحتلت المرتبة الأولى في نسبة الحائزين على هذه الجائزة".
الأمر الذي يدعوني إلى الوقوف متأمّلًا قُبالة الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي باراك أوباما، في الاجتماع السنوي للأكاديمية الوطنية (الأميركية) للعلوم العام 2012، حيث قال بصريح العبارة: "حان الوقت كي نعود لنمسك زمام القيادة مرة أخرى. لذا، أنا هنا اليوم كي أُحدّد هذا الهدف: سنخصص أكثر من 3% من إجمالي الناتج القومي للبحث والتطوير. إنّنا لن نصل إلى المستوى الذي وصلنا إليه في ذروة سباق الفضاء فحسب، بل سنتخطاه، وذلك عن طريق سياسات تستثمر في الأبحاث الأساسية والتطبيقية، وخلق حوافز جديدة للابتكار الخاص، وتعزيز التقدم في مجالَي الطاقة والطب، وتحسين التعليم في مجالَي الرياضيات والعلوم".
تُرى، ما هو الواقع العربي، في هذه اللحظة، بصدد هذا المشهد؟
إنه باختصار شديد: نصف خطوة -أو أقلّ- إلى الأمام، ومئة خطوة -بل أكثر- إلى الخلف! أو، بلغة أخرى: نصف فكرة تنتجها العقول، وألف مُنشأة تُدمّرها الحروب!