يقع الكتاب الضخم في 509 صفحة، بالقطع الكبير. يدرس الكتاب المهم التنظيمات العسكرية الصهيونية قبل ١٩٤٨، وولادة الجيش الإسرائيلي، وحروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب، كما يدرس استراتيجيات إسرائيل الأمنية، والعلاقة بين المؤسستين: السياسية، والعسكرية، وغرفة العمليات، ووسائل القتال، والمحاكم العسكرية، والتربية العسكرية، وأخلاقيات العسكر، مع ثبْتٍ في آخره بالمراجع والمصادر.
الباحثان يدرسان الجيش الإسرائيلي، والعصابات الصهيونية من داخل إسرائيل، كفلسطينيَّين عاشا في الداخل الفلسطينيّ. كما درسا ظهور الفكر الصهيوني العسكري منذ مطلع القرن العشرين، وتطور هذا الفكر في مراحل متعددة، وظهور المنظمات العسكرية الصهيونية: الهاغاناه، واتسيل، ولحي، والبالماح، وبيتار؛ وكلها أسست لتدمير القوة الفلسطينية، وفرض الاحتلال الاستيطاني، ومواجهة الجيوش العربية كلها، بل والتفوق عليها وعلى كل دول الجوار.
ميزة الباحثَين أنهما رجعا إلى الوثائق والمستندات المأخوذة من إرشيفات إسرائيل العسكرية؛ وهي المصدر الأساس؛ وهي مستندات تؤكد بعمق -بحسب إشارة الباحثين- على وجود مخطط لاقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي، وما كافة النشاطات الحربية، التي نُفِّذت لاحقًا، وتنفذ يوميًّا، إلا لتكريس حالة وجود إسرائيل، وتمزيق وتفتيت القضية الفلسطينية العادلة إلى الحد الأدنى.
يدرس الكتاب دور دولة الانتداب البريطاني في التغاضي العامد عن بناء وتسليح المنظمات الصهيونية، في حين يجري مراقبة ومنع أي نشاط عسكري وأمني للفلسطينيين، وفي الآن الذي أفسح الاحتلال البريطاني السبيل أمام المنظمات العسكرية الصهيونية، قام بقمع جذري للثورة الفلسطينية، بحسب توكيد الباحثين، والوقائع العينية.
كان الجيش الإسرائيلي ثمرة توحيد هذه المنظمات الفاشية والعنصرية المهووسة بالتطهير العرقي للشعب العربي الفلسطيني وتهجيره، وقد رفدت الحرب العالمية الثانية وجيوشها هذه المنظمات بالتدريب، والتأهيل، والتسليح، والخبرة في مجالات عسكرية عدة، كما قامت باحتضانها للعمل في صفوفها، ويلاحظ أن المهاجرين من روسيا، وفيما بعد الاتحاد السوفيتي، وأوروبا الشرقية والغربية -قد أمدوا العصابات الصهيونية والجيش الإسرائيلي بقدرات هائلة في الجانب العسكري، وبقيادات مدربة وذات خبرة؛ ما مكّن الجيش الإسرائيلي أن يصبح قوة تبتز دول المنطقة كلها، بل أصبحت الدولة الثامنة عالميًّا في التصنيع العسكري، وتبيع السلاح والخبرات لدول كبرى مثل الصين والهند، وتتعاون في تصنيع بعض الأسلحة مع أمريكا، إضافةً إلى أن القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية تنتمي إلى الحداثة الآتية من قلب العصر، وهي في الوقت نفسه تتحالف مع الاستعمار القديم والجديد، ولها ارتباط بالإمبريالية الأمريكية، في حين أن القيادات الفلسطينية كالإمام أمين الحسيني، والشريف عبدالله، وغالبية القادة العرب متخلفون، ولا علاقة لهم بروح العصر، ولا يدركون طبيعة الصراع الدولي.
تحالفَ الإمام أمين الحسيني -الذي كان على خلاف مع الشريف عبدالله- مع الألمان، في حين أن عبدالله كان مواليًا للإنجليز شأن العديد من الملوك العرب.
كان البريطانيون والفرنسيون والأمريكان يتعاملون مع الإسرائيليين كحلفاء وأنداد، بينما يتعاملون مع الحكام العرب كأتباع؛ فيدعمونهم سرًّا، ويخجلون أحيانًا أمام شعوبهم والرأي العام الدولي من مساندتهم.
أثناء قراءة الكتاب الضخم الذي يتجاوز الخمس مئة صفحة، لاحظت أن المؤسسة العسكرية هي المؤسس الحقيقي للدولة الإسرائيلية، ولها نفوذ كبير في الحياة العامة، بما في ذلك التعليم؛ حيث إن الضابط الإسرائيلي بعد تقاعده يجد باب التربية والتعليم أمامه مشرعًا؛ لغرس الروح العسكرية في الطلاب، ابتداءً من الحضانة، وحتى المستويات العليا، ويلاحظ أيضًا أن القيادات الكبيرة والمؤثرة آتية من المنظمات الصهيونية، لكنهم في الدولة يتصرفون كسياسيين ومدنيين؛ وهذا فارق مرعب بين الحاكم العربي، وبين الحاكم الإسرائيلي.
بعد مضي أكثر من سبعين عامًا على قيام الدولة الإسرائيلية، لا يزال قادتها يتصرفون كحركة تحرر قومي لليهود؛ فيدعون للهجرة اليهودية إلى الأرض الموعودة، ويتصرفون بمسؤولية إزاء العنصر اليهودي؛ بينما الحاكم الفلسطيني يتصرف كدكتاتور يقمع أبناء شعبه
العسكرية الإسرائيلية هي بانية دولة إسرائيل؛ فقد بنتها عصابات الهاغاناه، واتسيل، ولحي، وما تناسل منها، وقادة هذه العصابات: بن جوريون، وبيجن، وديان، ورابين، وشارون، وايهود أولمرت، ونتنياهو– عسكريون ولكنهم يخضعون للقرار السياسي؛ فقد مات بيجن معزولًا في منزله بعد فشل الحرب ضد لبنان، وحوكم وسجن أولمرت، وتم اتهام شارون، وقُدّم للمساءلة، وخسر الانتخابات. وفي المقابل، نرى صدام حسين الذي لا صلة له بالعسكرية، يتحول إلى عسكري، ليكون فوق الدولة، ويقود حروبًا مدمرة على شعبه وجواره، وكذلك حافظ الأسد، وزير الدفاع، يخسر المعركة، وتحاول قيادة الدولة والحزب مساءلته، فيزيحهما عن الحكم، ويحكُم علي عبدالله صالح -العسكري غير الدارس وغير المؤهل- اليمن ثلاثة وثلاثين عامًا؛ فيدخل البلد في أزمات وحروب تبدأ ولم تنتهِ؛ أما بشّار، طبيب العيون، فيحكم سوريا ويعسكرها كقائد منتصر.
الهزائم العسكرية العربية -على كثرتها- إما يُهوّن من شأنها، أو تتحول إلى انتصار، ويتحول القادة المهزومون إلى أبطال قوميين.
لم نقرأ عميقًا قضية أو كارثة الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، ولا مسار الصراع العربي الإسرائيلي، ولا طبيعة الدولة الإسرائيلية، ولا طبيعة الأنظمة العربية، كما أننا لم نقرأ الانحرافات الباكرة في منظمة التحرير الفلسطينية ومآلها.
أثناء قراءة الإنجاز العلمي "المؤسسة العسكرية الإسرائيلية"- لفت انتباهي أن الإسرائيليين كانوا قوة منظمة عصرية وحديثة حداثة الاستعمار نفسه، وكانوا مؤهلين لبناء كيان استيطاني ومحتل، أما الفلسطينيون، أصحاب الأرض الحقيقيون، فلا قوة منظمة، ولا قيادة وطنية، وقد قاتل الفلسطينيون كمناطق وقرى وأُسَر، كل منطقة بمفردها، وكل قرية لوحدها، بينما الآتون من شتى بقاع الأرض موحدون، وينفردون بالأرض الفلسطينية منطقة منطقة، وقرية بعد أخرى، حسب مخطط عسكري وأمني مدروس، وكانت الأنظمة العربية المدافعة عن فلسطين أسرى الاستعمار البريطاني الموكل إليه مهمة قيام دولة إسرائيل .
أليس من المفارقة أن الانتصارات الجزئية ضد إسرائيل لم تبدأ إلا بعد التخفّف من قبضة الجيوش العربية، وضعف الأنظمة العربية المواجِهة، وهزائمها المتكررة؟!
كانت البداية معركة الكرامة، وحرب الاستنزاف بزعامة الرئيس جمال عبدالناصر بعد انكسار مراكز القوى المسؤولة عن الهزيمة، وحروب بيروت والجنوب اللبناني المتكررة، والمواجهة غير مرة ضد غزة، واللافت أكثر أن الانتفاضتين الفلسطينيتين: الأولى، والثانية كانت نتائجها أهم من الأربعة الحروب التي قادتها الجيوش العربية؛ ذلكم أن مهمة الجيش الإسرائيلي بناء الدولة الإسرائيلية، واحتلال فلسطين، وبناء قدرة المواجهة مع الجيوش العربية؛ بينما وظيفة الجيش العربي احتلال وطنه، وإذلال وتنكيل أبناء شعبه.
لاحظت من خلال تجربة العسكر الإسرائيليين إجراء تحقيقات عقب كل حرب، ودراسة كل تفاصيل المعارك، وتبصّر نقاط القوة والضعف في الأداء، ومعاقبة المقصرين، وترقية المتفوقين، عكس ما نشهده في الجانب العربي، ويظهر المثال جليًّا في الأسد وصدام، وقد كان عبدالحكيم عامر وحاشيته في مصر يخططون للاستيلاء على الحكم في مصر كثمن للهزيمة النكراء التي كانوا سببها.
بعد مضي أكثر من سبعين عامًا على قيام الدولة الإسرائيلية، لا يزال قادتها يتصرفون كحركة تحرر قومي لليهود؛ فيدعون للهجرة اليهودية إلى الأرض الموعودة، ويتصرفون بمسؤولية إزاء العنصر اليهودي، ويتبنون المطالب الصهيونية الأساس في الاستيلاء على كامل الأرض الفلسطينية، ويعملون بجدّ على التهويد، والتهجير لأصحاب الأرض الحقيقيين، ومحاسبة رؤسائهم؛ فيموت بيجن معزولًا في منزله، ويقاد أولمرت للسجن، ويُتهم ويساءل نتنياهو؛ بينما الحاكم الفلسطيني المحتلة بلاده، والواقع تحت نير الاحتلال، ينسق أمنيًّا مع من يحتل أرضه، ويتصرف كدكتاتور يقمع أبناء شعبه، ويتواطأ ضده، ويتحايل على الانتخابات، ويرفض إعادة صياغة منظمة التحرير؛ ليبقى الاحتلال ما دام هو على رأس السلطة، ومقتل نزار بنات المعارض، والاحتجاجات الفلسطينية المطالبة برحيل السلطة ورأسها، يدلل على أن السلطة جزء من القمع الممارس ضد الشعب الفلسطيني الذي لا ينفرد به الاحتلال الإسرائيلي وحده فقط.