أذكر تساؤلا أخيرا في فيلم للفرنسية أعدته ديانا مقلد: سألت الصحفية اللبنانية والدها: أبي لماذا لا تزال إلى الآن تضع مسدسا تحت مخدتك؟
كان الوثائقي عن الحرب اللبنانية، الطوائف والأسطح وجثث القناصة. في السياق خلصت ديانا لكون الجميع شارك في الحرب، حتى الأمهات وهن يتجاوزن نقاط التفتيش مخبئات الطعام والأدوية والرصاص أحيانا. عندما يشتبك مجتمع بأسره ويشارك في العمليات، الجميع ضد الجميع وفقا لـ" هوبز"، ويقال أن سلاما بلا أفق هو خيانة بطريقة ما . كيف إذا، أو إذن؟ هل يجدر بنا الدفاع عن الحرب بوصفها نمط حياة لم نعد نعرف سواه؟ أو أننا مجتمع التبعية الكلية لخيارات النخب العسكرية والقبلية والأيدلوجية والصحفية حتى، وأنهم لا يزالون بحاجة للحرب، ولا نزال بالتالي بحاجة إليها؟ ذلك أن حاجتنا كبشر لم تعد قيد البحث، حاجتنا للتجول داخل بلادنا دون حواجز تفتيش تعتقل بالانتماء للمنطقة وشبهة الحزب واللقب والطائفة، والمزيد من الاشتباه في حرب كل انسان لم يُقتل بعد هو مشتبه . نستعيد أغاني الجبهة؛ كانت رومانسية بطريقة ما وهي تأتي من بيروت، حرب أشقائنا البعيدين تجعلنا رومانسيين نوعا ما، "ياه ياه يا ياشوارع، بيروت الحرب اليومية، يا مدينة يا مخزن هَمّ "، لكنها مريرة وبشعة في شوارعنا. إنها مثل دبابة قفزت من وراء شاشة عرض لفيلم حربي، لحظتها لا يعود الفولاذ مسليا بحال، ولا حتى المآثر وقد تذوقنا الدم وأمسى علينا متابعة العرض على نحو واقعي هناك، في مقبرة ما أو في صالة عزاء قد تتلقى هي الأخرى مبعوث الموت ينقض من الأعالي ويحيل المعزين جثثا تنتظر دورها في مقابر أخرى وصالات عزاء تالية.
ما من قطعان من اللاجئين في الممرات وعلى حدود الدول، يلجأ اليمني في أسوأ الاحتمالات ليمني آخر ومساحة تبقت من بلاده، لا يمضي صوب بلدان الغرباء عن وجعه الصميم
لقد تعبنا من هذا كله، ولا يمكننا الجزم أي سلام هو متاح وفي المتناول، لكننا تعبنا حقا، تعبنا من تشييع أناس لا تربطنا بهم علاقة غير تلك القائمة التي تجمعنا وهم وقد سبقونا في الانتقاء والدور على كل حال . وإذا كانت الحرب اللبنانية قد اشتعلت من جمرة الطوائف، وانتهت بالتعايش المُكلف، حربنا نحن قد تؤسس للطوائف ولا تنتهي بعدها إلا بغلبة فادحة .
من يمتلك تقارير نفسية حاذقة وعملية بأضرارنا وكيف أمسينا، وما الذي فعلته بنا الحرب؟ من في هذا العالم يمكنه، ودون مبالغات، انجاز صورة لليمني وهو لا يتضرر وفقا لمقاييس متداولة من تاريخ الحروب ولكن بطريقته، طريقة اليمني وهو يلوك المرار ولا يتعرف للعطب الذي لحق به، فقد أمضى حياته قبل الحرب معطوبا بطريقة ما، لكنه يمضي فحسب، لا يتوقف، لا يتحول إلى لاجئ يلفظ أنفاسه على شواطئ اوروبا وقد وصل بعد مجابهة مع الطبيعة وقسوة المدنية وممكناتها . ما من قطعان من اللاجئين في الممرات وعلى حدود الدول، يلجأ اليمني في أسوأ الاحتمالات ليمني آخر ومساحة تبقت من بلاده، لا يمضي صوب بلدان الغرباء عن وجعه الصميم. في حربنا لا نشبه أحدا غير الوجع اليمني والخوف اليمني والمواجهات اليمنية بلا اغتصابات ولا مقابر جماعية ولا مذابح ولا عمليات تطهير عرقي، لكن حربنا النظيفة هذه لوثت ارواحنا ووضعت حدًّا بيننا وبين ما كنا عليه. ونسأل: ألا يزال بوسعنا العودة يوما دون رثاء ولا ضغينة؟