لست بحاجة إلى النفاق، أو إلى الممالأة، أو فيما لو طلب مني أن أكتب عن الشمس، فهي -رضيت أم أبيت، أعجبتني أو لم تعجبني- موجودة ومتواجدة في حياتنا. وقيل: إن ثمة حقيقتين لا ثالث لهما في السماء والأرض؛ الشمس في السماء والصحافة في الأرض.
عندما طلب مني الصديق عبدالرشيد، أو بالأصح حدثني عن "خيوط" قبل أن تطلق، أتذكر بعد كلام مفعم مليء بالشغف أنني قلت: سأكتب، فقد ملأني إحساس بالنية المتوافرة في سبيل صحافة حقيقية تحترم نفسها وتحترم عقول الناس.
في الصحافة لا توجد مساحة رمادية، في الصحافة تكون أو لا تكون؛ إما صحافة وأما ...، والواقع يقول كلمته دائمًا، فما يظل في العقل والوجدان هي الصحافة السامية، الكلمة التي تجرح ولا تسيل الدم، كما قال أحمد بهاء الدين. والصحافة غير كل المهن، ففي أي مهنة تضع شهادتك وراء مكتبك أو على جدار صالة الجلوس أو ديوان بيتك، في هذه المهنة شهادتك تحددها بقلمك كل يوم.
كثيرون لن يصدقوا ولن يوافقوا على أن "هيكل" يحمل "دبلوم صنائع"، لكن الشهادة التي كان يرفعها موزعة بين الصفحة الأولى والثالثة، مقالتُه الأسبوعية "بصراحة" في الأهرام، كانت ترفع في كل مكاتب صناعة القرار وفي مكاتب رؤساء تحرير الصحف، في الأولى يقفون على توجهات السياسة المصرية، وفي الأخرى ليتعلم من يريد أن يتعلم، وفي كلية الإعلام قسم الصحافة كانت الدليل العملي لمن يريد أن يكون كاتبًا صحفيًّا.
لن أشطح وأقارن الواقع هنا بما كان عليه هناك، ثمة مشاريع صحفية كانت تتبرعم هنا، وئدت بفعل الجنون، والآن ها هي الحرب تحول ما تبقى إلى ميكروفونات مساجد جعلت كثيرين يعزفون عن الصلاة فيها، فقد تحول المسجد إلى آلة للتحريض والصحافة إلى أي شيء، والسلام كل السلام على بطل رواية علي المقري "بخور عدني"، مع فارق كبير هو أن "أي شيء" هناك كان صاحب قضية، و"أي شيء" هنا لا يحمل قضية، بل الأمر كله مشقاية! على أن هنا وهناك ثمة أسماء مهنية تمنحك الأمل أن تتحمل يومًا لواء إعادة الاعتبار للمهنة أو بالأصح التأسيس من جديد لصحافة حقيقية.
يا إلهي، كيف تمر الأيام سراعًا، مقالتي صار عمرها عامًا كاملًا، وميدانها "خيوط" صار مساحته بطول سنة.
خلال عام وأنا أكتب وأتابع وأستفيد وأنهل من "خيوط"، إذ إن الأقلام التي تكتب فيها عالية المستوى حرفًا وكلمة، ومادة خيوط تسبك كما يفعل صائغ الذهب؛ أخبار، تقارير، تحقيقات، كل فنون التحرير الصحفي ذات مستوى متميز.
كل ذلك والمهنية في التعامل معك ككاتب تغريك مهنيًّا بأن تكون ضمن الفريق المتميز. لذلك من هنا أتمنى أن يفعل الفريق على أن تتحول "خيوط"، مع المدى الذي فيه يقطع الحبل الحجر، إلى أن تكون مدرسة مهنية بأدواتها رفيعة المستوى، وأن يكون لها رواد وتلاميذ، فلان المهنية غائبة فلم توجد مدرسة صحفية إليها ننتمي، لا يزال الصحفي موظفًا، ويوم أن يكون سقف الصحفي رئاسة التحرير، قل إن هنا مهنة حقيقية، دعوني أحلم بأن "خيوط" ستحقق ما أتمنى.
وعلى المستوى المهني، هنا مهنية تحترمها وتتعلم منها. هنا في "خيوط" ثمة فريق مهني حقيقي، ثمة رئيس تحرير مهني بحق وحقيق. وهناك وراءهم جميعًا من يدرك ماذا تعني الصحافة، وما عليك أن تفعله وأنت وراءهم، "اترك الخبز لخبازه"، كان مدير الضرائب رئيس تحرير!
"خيوط" لا يزال أمامها الطريق طويلًا بترسيخ التقاليد المهنية، لن نجدها تأفل يومًا عندما يحل محل فريقها المتميز فريق آخر، لن يستطيع مسح ما أنجزه مَن قبله، كما نفعل دائمًا
قال عبدالرشيد في رسالته القصيرة:
"هل ستكتب لنا؟"
وبعد أن قرأت:
من نحن- خيوط؛
"منصة إلكترونية مستقلة تقدم محتوى إعلاميًّا ومعرفيًّا عن اليمن في سياقه المحلي، وارتباطاته في السياق الإقليمي والدولي".
أسس "خيوط" صحفيون وباحثون ونشطاء مدنيون، انطلاقًا من حاجة اليمني لنقل صوته من الهامش إلى متن الحياة المتصلة بالمشتركات الإنسانية والحضارية مع كل شعوب العالم.
تلتزم "خيوط" في تقديم محتواها، بدرجة قصوى من المهنية، بعيدًا عن الاستقطابات والتجاذبات السياسية والأيديولوجية، المحلية والإقليمية والدولية. ولذلك تعتمد في عملها على فريق من الصحفيين والكتّاب المحترفين وغير المتحيزين لأي طرف أو جهة.
تعتمد "خيوط" آليات الاستقصاء والتحليل، ولا تتوقف عند ظاهر الأحداث، بل تعمل على تتبع تفاصيلها وخيوطها ضمن حبكة الأحداث على المستوى الإقليمي والدولي. وتنتهج في ذلك سياسة تحريرية صارمة تستند إلى ميثاق شرف يحقق الشروط المهنية الملتزمة بدقة المعلومات، موثوقية المصادر، المنهجية والاحترافية، والموضوعية. ويتنوع محتوى المنصة بين التقرير، التحليل، التحقيق، الملفات المتخصصة والدراسات الفكرية، مع التركيز على نقل قصص الناس المتمسكين باستمرارية الحياة والتواقين للسلام والاستقرار.
القوالب التي يُقدم بها المحتوى تتنوع أيضًا بين المادة المكتوبة، المرئية والمسموعة، وتشمل موضوعاته الجوانب: السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والرياضية. كما تعطي "خيوط" مساحة لقضايا المرأة والبيئة، وتتوجه بمحتواها إلى جمهور الناطقين باللغتين العربية والإنجليزية.
تؤمن "خيوط" بقيم العدالة، المحبة، التسامح والتعايش. وتسعى لتعزيز هذه القيم عبر محتوى مغاير وغير متحيز، ومن منطلق أهميتها العملية لتماسك العلاقات الإنسانية، وتقوية السلم الاجتماعي، ودعم الحقوق والحريات.
وتلتزم "خيوط" بمبدأ الشفافية بشأن مصادر تمويل أنشطتها. وإلى كونها تأسست وانطلقت بمساهمات مالية من هيئة التأسيس، فهي لا تقبل أي مال سياسي ولا أي دعم مشروط بشكل صريح أو ضمني. فيما عدا ذلك، تنفتح المنصة على تلقي الدعم غير المشروط، وعقد شراكات مع مؤسسات أو منظمات تؤمن بنفس التوجه والقيم، مع التأكيد على عدم تعارض هذا الدعم مع استقلالية المنصة وقيمها ومهنية وموضوعية محتواها.
كما تسعى "خيوط" لتطوير مواردها الذاتية التي تأسست بها، لتحقيق الربح عبر استثمار خدماتي متخصص ونوعي.
قلت على الفور: حاضر؛ وبدأت، يتلقفني لطف الصراري، ولم أشعر سوى أمس الأول بأن عامًا مرّ.
خلال عام وجدت مقالي الأسبوعي يعامل باحترام ومهنية، وأنا وهم عملنا ما استطعنا على احترام عقل القارئ، بالالتزام المهني. الأهم ألا ننقطع، ولأول مرة وبصدق أحس أنني مهني وأنني قادر على أن أقف على المنصة نفسها التي تقف عليها الأسماء المهنية الكبيرة، وهي كثيرة على المنصة.
لأول مرة أخوض في نهر المهنة لأسبح بجانب سباحين كبار، كان هذا الإحساس يتولاني يوم أن كانت مساحة جريدة الجمهورية أيام سمير تتيح للأقلام أن تتنافس بشرف مهني، فإن تلعب إلى جانب لاعبين وتواجه فريقًا كبيرًا أمامك، وبجانبك في فريقك لاعبون كبار، تخرج جواهرك، لكنك إذا لعبت أمام فريق ضعيف وبجانب لاعبين مساكين فسيجرونك إلى ضعف أدائهم ويقذفك الجمهور بعلب المياه الآسنة.
"خيوط" لا يزال أمامها الطريق طويلًا بترسيخ التقاليد المهنية لن نجدها تأفل يومًا عندما يحل محل فريقها المتميز فريقٌ آخر، لن يستطيع مسح ما أنجزه من قبله كما نفعل دائمًا، فكلما كان الأساس متينًا، أمكنك أن ترفع الطوابق إلى عنان السماء.
أتمنى أني قلت شيئًا، فأنا انحاز إلى المهنية أولًا.